كيف ضلّت
الأخلاق؟!
حامد العلياني
في العُقود المزدلفة يبدو ضمورٌ في المفاهيم وتأسُّنٌ في
القلوب يوجم به السائِر، ويَفْرح به الناصب؛ فرغم وجودِ الفضيلة في كلِّ شتات
الأرْض، لكنَّها أصبحتْ تتترَّس من حينٍ إلى آخَر فباتتْ مُشتبِهة على البعض،
والصِّدق في التعامل أصبح مشروطًا بمثالية الطرَف الآخر، وأضحتِ التنازلات متبوعةً
بالمنِّ والأذى، وانبعثتِ الأنانية فأثخنت في النفوس، وصنعت منها رموزًا للجشَع
والعداء.
والعُذر إلى الله إنْ بدا ذلك ظاهرًا مبثوثًا لا يتدافع في
جحْده اثنان ولا يُوريه منصِف!
• يتسارُّ
اثنان فتحفُّهما الألفة بغشاء كاذِب تفوح منهما أقوالٌ مزخرفة لا تجوز المكان الذي
يجلسانِ فيه، وما إنْ يضيق الحال بأحدهما في إملاقٍ أو ضرَّاء، فيكون الآخر قد
سوَّغ لنفسه كمًّا مِن التبريرات السِّمان تتيح له القعودَ عن مؤازرة صاحبِه،
ورحِم الله الإمام الشافعي إذ يقول:
إِذَا لَمْ يَكُنْ صَفْوُ
الوِدَادِ طَبِيعَةً *** فَلاَ خَيْرَ فِي وُدٍّ يَجِيءُ
تَكَلُّفَا
• الخطأ العارِض يبدُر صغيرًا - حريٌّ أن يُوأدَ بالتغافُل وغضِّ الطرْف - بَيْد أنَّ التأويلات الباطلة والظنون المقيتة لم تزَلْ تُغذِّيه إلى أن تجعلَ منه مفرِقًا كبيرًا للقطيعة والبغضاء، ورِدءًا عليه! فهناك مَن يموِّل تَصوُّره الفاسد في نفوس ذويه ليشاركوه في إعمال المقتضَى السيِّئ، وقد قال - عليه الصلاة والسلام -: ((إيَّاكم والظنَّ؛ فإنَّ الظن أكذبُ الحديث))؛ البخاري ومسلم.
• كثْرَة
الشكاية للمخلوقين ورَّثها جوعُ القلْب وضعْف التعلُّق بالله، ذلك أنَّ المرء ما
زال يُفضفِض بمظلمته نجيًّا لكلِّ مَن يسمع له، يُبِين بذلك ضعفَه، ويستدعي به
حبائل الولاء والشفقة، لكنَّه بذلك يجعل من نفسه مرمًى لسهام الغمط والازدِراء،
ولو استقبل مِن أمره ما استدبَر لوجَد الغنية بالله وحده.
وَإِذَا شَكَوْتَ إِلَى
ابْنِ آدَمَ إِنَّمَا *** تَشْكُو الرَّحِيمَ إِلَى
الَّذِي لاَ يَرْحَمُ
• أهل
الملأ يجِدون مِن التبجيل ما يَعْلُوهم ومِن التعظيم ما يفوقهم؛ فلا يزال الرجُل
العادي ذا عِزَّة وإجلال، حتى يثقفَ صاحب المنصب الذي يحمل اسمًا لامعًا، فتراه
يتودَّد إليه في ضعْف، ويوافق كلامَه في تصنُّع ويستجيب له في ذلٍّ ويستشرف
مبادلتَه في الحديث والضحِك، وربَّما يرَى مَن حوله صغارًا في حال أن يكونَ هو
بمعيَّته، وكل هذا إنَّما يدلُّ على عدم تعظيم الربِّ سبحانه؛ قال ابن القيم:
"مِن أعظم الظلمِ والجهل أن تطلُبَ التعظيم والتوقير مِن الناس وقلبك خالٍ مِن
تعظيم الله وتوقيره، فإنَّك توقِّر المخلوق وتجلُّه أن يراك في حالٍ لا توقِّر
الله أن يراك عليها".
• حبُّ
الدنيا أضْحَى هو الأوَّل في النُّفوس، وتورثبذلك مقياسًا كاذبًا للرجولة، فالذي
أوْعَى المال وإنْ كان مقلاًّ في دِينه وخُلُقه يعتبرونه معدودًا في حافلة
الرِّجال، وأمَّا مَن عُرِف عنه التنازُل في مظلمةٍ مِن الدُّنيا، أو عُرِف عنه
التبرُّع بوقفٍ مِن ماله يبتغي به وجهَ الله فإنَّه يُعدُّ مَهِينًا في عُرفِهِم
ذليلاً، لا يُقدَّر ولا يُعامَلُ معاملةَ غيره مِن الناس!
يقول الله - عزَّ وجلَّ - في وصْف أهلِ الرُّجولة الحقَّة:
﴿ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ
فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا
تَبْدِيلاً ﴾ [الأحزاب: 23]، وقال جلَّ مِن قائل: ﴿ رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ
اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا
تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ [النور: 37].
• التحتيم والتضحية في سبيلِ اتِّباع الهوَى بما لا يدَع
مجالاً لترْكه أو مخالفته، ولو قُدِّر لأحدهم أن غُلِب على أمْره ولم يدركْ هواه
لأصبح ذلك نقطةَ تحوُّلٍ في مِزاجيته وتعكُّر حاله.
وإنَّ مَن يَتديدن باتِّباع أهوائه حتمًا سيلاقي مِن أمره
رهقًا فيما يستقبِله من الأيَّام، وقد يُفضي به ذلك إلى ترْك حدودِ ما أنزل الله
في سبيلِ اتِّباع هذا الهوى؛ ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ
اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى
سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ
بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية: 23].
• خِدمة
الآخرين قائمةٌ على سوقها، وهذا حسنٌ جدًّا لكن بعض صُنَّاعها - وللأسف - لا تقرُّ
ضمائرهم حتى يُذهِبوا عن أنفسهم أجورَ ما صنعوا، ويُتمتِموا بتلك الصنائع في
النوادي والمجامع، وربَّما سار بهم ذلك إلى احتقابِ شيءٍ من العُجب أو المنِّ على
خلاف ما يجِب على المسلِم مِن إخلاص العمَل لله وحْدَه، وكتمان ما لا يُرْجَى في
إظهارِه مصلحة؛ ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ
اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا ﴾ [الإنسان: 9].
• ضنَّ
فِئامٌ من الناس بالابتسامة، فلا ترى إلاَّ وجوهًا ممعَّرةً يعلوها البَسْر
كأنَّما أُوقِفوا في مواراة جثمان!
يقول جريرٌ - رضي الله عنه - متحدِّثًا عن الرسولِ - صلَّى
الله عليه وسلَّم -: "ولا رآني إلا تبسَّم في وجهي"؛ البخاري، ويقول
عبدالله بن الحارث: "ما رأيت أحدًا أكثر تبسُّمًا مِن رسول الله - صلَّى الله
عليه وسلَّم"؛ رواه الترمذي وصحَّحه الألباني.
• افتقار
ظاهِر في إلقاء التحية وردِّها، فيمرُّ المسلم على أخيه فلا يُلقِي عليه السلامَ،
أو شيئًا من التحايا الحسَنة، وقد قال - عليه الصلاة والسلام - عندما سُئل: أيُّ
الأعمال خير؟ فقال: ((... وتقرأ السلام على مَن عَرفتَ ومَن لم تعرِفْ))!
وإذا ما بدأتَ أحدَهم بالسلام فلا يردُّ إلا همسًا، وأقبح
مِن ذلك ألا تنبس بنتُ شفتِه بشيء، وقد قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ
رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ﴾ [النساء:
86].
وأخيرًا لِنعُد بالأخلاق الحسَنة على وجهِها كما يُريده
الشرع المطهَّر تتحقَّق لنا بذلك الحياةُ الطيِّبة في الدنيا والأثَر الطيِّب
كذلك، ويَكفي في هذا قولُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّكم لن تَسعُوا
الناس بأموالكم، فليسعهم منكم بسطُ الوجه وحُسنُ الخُلُق))؛ حسنٌ لغيره، ويتحقَّق
به كذلك الأجْر الوافِر في الآخِرة، ويكْفي في هذا قولُ النبي - صلَّى الله عليه
وسلَّم -: ((إنَّ مِن أحبِّكم إليَّ وأقربكم مني مجلِسًا يومَ القيامة أحسنُكم
أخلاقًا))؛ صحيح الألباني.
وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على سيِّدنا ونبيِّنا محمَّد،
وعلى آله وصحْبه أجمعين.
شبكة الألوكة
تم النشر يوم
الاثنين، 7 يناير 2013 ' الساعة