حلاوة الزهد
الحمد لله العلي القادر القوي القاهر الرحيم الغافر الكريم الساتر ذي السلطان الظاهر، والبرهان الباهر، خالق ِكلِ شيءٍ، ومالكِ كلِ ميتٍ، وحي، خلقَ فأحسن، وصنعَ فأتقن، وقدرَ فغفر، وأبصرَ فستر ، وحكم فأخفى، عم فضله، وإحسانه، وتم حجته، وبرهانه، وظهر أمره، وسلطانه فسبحانه ما أعظم شأنه، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد الأحد الفرد الصمد، و أشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بشيرا، ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا فأوضح الدلالة، وأزاح الجهالة، وفل السفه، وثل الشُبه: سيد المرسلين، وإمام المتقين، صلى الله عليه، وعلى آله الأبرار، وأصحابه المصطفين الأخيار، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد فأُوصيكم أيها الناس
ونفسي بتقوى الله عز وجل فهي الزهد في الدنيا والأُنس في الأُخرى ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [1]
أيها المؤمنون: إن الدنيا دارُ ممرٍ ، وليست دار مقر، زمنُها قصيرٌ، ونعيمُها إلى
زوال ،وفرحُها إلى كدرٍ ، وراحتُها شقاءٌ، وصحتُها مرضٌ، كلُها متغيرةٌ ، وجذورها
زائلةٌ، ﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ﴾ [2] ،
و﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [3] . و قَالَ الله عز وَجل ﴿ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [4] .
إخوة الدين: إن الزهد في الدنيا راحةٌ وأمنٌ وسعادة واطمئنان، ونجاة وسلامة من
الدنيا وحلالها وحرامها، وخضرتها وحلاوتها ، ففي الصحيحين عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - «إن هذا المال حلوة خضرة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه
بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع»،
فازهدوا في الدنيا تُوهب لكم الآخرة ، واتركوا الفاني وارغبوا في الباقي تأتي
الأرباح بلا خسارة، فاشتغلوا بالعمل الصالح واستغلوا الأوقات، وعدّوا الأنفاس ،
فالعمرُ قصيرٌ ، والأجلُ معدودٌ، وحبلًه مقطوعٌ، فعن
ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه:(
اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك
وحياتك قبل موتك) [5] ، وعن
ابن عباس رضي الله عنهما يقول: «الزهد أن لا يسكن قلبك إلى موجود في الدنيا، ولا
يرغب في مفقود منها» [6] ،
ثم تلا قول الله عز وجل: ﴿ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ ﴾ [7] .
أيها المتقون:
إن الزهد تركٌ للدنيا وزينتها وخرفها، فقد كان من دعاء أبي بكر الصديق، قال:
«وأسألك الزهد في مجاورة الكفاف» ([8])،
وعن أبي واقد الليثي قال: تابعنا الأعمال في الدنيا، فلم نجد شيئا أبلغ في عمل
الآخرة من الزهد في الدنيا [9] ، و كتب
عمر إلى أبي موسى: إنك لن تنال عمل الآخرة بشيء أفضل من الزهد في الدنيا [10] ،
و قال سفيان: الزهد في الدنيا: قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ،
ولا لبس العباية [11] ، وقال
المحاسبي رحمه الله:من أراد الزهد فليكن الكثير مما في أيدي الناس عنده قليلا
وليكن القليل عنده من دنياه كثيرا وليكن العظيم منهم إليه من الأذى صغيرا وليكن
الصغير منه إليهم عنده عظيما [12] ، و قال
عبد الله بن المبارك: أفضل الزهد إخفاء الزهد [13] ،
وسُئِل الجنيدُ عن الزهد، فقال: «خلو الأيدي من الأموال، والقلب من التتبع» [14] ،
وقال يحيي بن معاذ: الزهد ثلاثة أشياء القلة والخلوة والجوع [15] ،
وقال أبو الخطاب سئل أحمد وأنا شاهد: ما الزهد في الدنيا
قال قصر الأمل والإياس مما في أيدي الناس [16]
.
أيها المسلمون:
لله أقوام امتثلوا ما أُمروا , وزُجرِوا عن الزلل فانزجروا , فإذا لاحت الدنيا
غابوا وإذا بانت الأخرى حضروا , فلو رأيتهم في القيامة إذا حُشروا ﴿ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا ﴾ [17] .
جَنّ عليهم الليلُ فسهروا , وطالعوا صحف
الذنوب فانكسروا , وطرقوا باب المحبوب واعتذروا , وبالغوا في المطلوب ثم حذروا ,
فانظر بماذا وعدوا في الذكر وذكروا ﴿ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا ﴾ [18]
.
ربحوا والله وما خسروا , وعاهدوا على
الزهد فما غدروا , واحتالوا على نفوسهم فملكوا وأسروا , وتفقدوا أنه المولى
فاعترفوا وشكروا ﴿ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا ﴾ [19]
.
بيوتهم في خلوها كالصوامع , وعيونهم تنظر
بالتقى من طرف [خاشع] والأجفان قد سحت سُحب المدامع تسقي بذر الفكر الذي بذروا
﴿ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا ﴾ [20]
.
يا من عمي عن طريق القوم،
عليك بإصلاح نور البصر. القلب المظلم يمشي في شوك الشك وما عنه خبر. وقتُ التائب
كلُه عمل: نهارُه صومُ، وليلهُ سهرٌ، ووقتُ البطال كلُه غفلةٌ، وبصيرتُه عميت عن
النظر. من ذاق حلاوة الزهد، استحلى التهجد والسهر، إن تُدرك المتجهدين في أول
الليل، ففي أعقابِ السحر. تيقّظ من نوم الغفلة، فهذا فجرُ المشيب انفجر، وأذلةُ
التخلف إذا تخلف عن الباب وما حضر!.
وكتبه/ د. سعد بن عبدالله السبر
إمام وخطيب جامع الشيخ عبدالله الجار الله
رحمه الله
الجمعة 23/3/1435
[1] سورة آل عمران، آية: 102.
[2] سورة الرحمن، آية:27.
[3] سورة يونس، آية:24.
[4] سورة هود، آية:86.
[5] رواه الحاكم وقال صحيح على شرطهما صحيح الترغيب والترهيب (3 /
168) قال الألباني صحيح .
[6] الزهد الكبير للبيهقي (ص: 61).
[7] سورة الحديد، آية:22.
[8] الزهد للمعافى بن عمران الموصلي (ص: 274).
[9] الزهد لوكيع (ص: 219).
[10] الزهد لوكيع (ص: 220).
[11] الزهد لوكيع (ص: 222).
[12] آداب النفوس للمحاسبي (ص: 55).
[13] أدب الدنيا والدين (ص: 106).
[14] الزهد الكبير للبيهقي (ص: 66).
[15] الرسالة القشيرية (1 / 65).
[16] الآداب الشرعية والمنح المرعية (2 / 241).
[17] سورة المؤمنون، آية:111.
[18] سورة المؤمنون، آية:111.
[19] سورة المؤمنون، آية:111.
[20] سورة المؤمنون، آية:111.
تم النشر يوم
الاثنين، 21 أبريل 2014 ' الساعة