نعوذ بالله من المأثم والمغرم
الشيخ عبدالله بن محمد البصري
أَمَّا بَعدُ:
فَأُوصِيكُم - أَيُّهَا النَّاسُ - وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ:
خَلَقَ اللهُ - تعالى - البَشَرَ مُختَلِفِينَ في أَرزَاقِهِم، وَفَاوَتَ بَينَهُم فِيمَا آتَاهُم وَأَعطَاهُم، وَلَهُ - تَعَالى - في ذَلِكَ الحِكَمُ البَالِغَةُ ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾ [الشورى: 27] أَهُم يَقسِمُونَ رَحمَةَ رَبِّكَ نَحنُ قَسَمنَا بَينَهُم مَعِيشَتَهُم في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَرَفَعنَا بَعضَهُم فَوقَ بَعضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعضُهُم بَعضًا سُخرِيًّا وَرَحمَةُ رَبِّكَ خَيرٌ مِمَّا يَجمَعُونَ ".
وَإِنَّ مِن وَاجِبِ النَّاسِ مَعَ هَذَا التَّفَاوُتِ وَالاختِلافِ الَّذِي لا مَنَاصَ مِنهُ، أَن يَتَسَلَّحُوا بِالقَنَاعَةِ، فَهِيَ خَيرُ مُعِينٍ لَهُم عَلَى الرِّضَا عَن رَبِّهِم، وَأَقوَى سَبَبٍ لاطمِئنَانِ قُلُوبِهِم، وَنَيلِهِمُ الرَّاحَةَ في أَنفُسِهِم، وَتَحصِيلِ السَّعَادَةِ في حَيَاتِهِم، لا أَن يُخَالِفُوا حِكمَةَ اللهِ وَيَتَطَلَّعُوا إِلى أَن يَكُونُوا سَوَاءً في كُلِّ شَيءٍ، فَيَقَعُوا فِيمَا يُهِمُّهُم وَيُقلِقُهُم وَيَذهَبُ بِسُرُورِهِم، وَقَد كَانَ مِن دُعَائِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَنِ، وَالعَجزِ وَالكَسَلِ، وَالبُخلِ وَالجُبنِ، وَضَلَعِ الدَّينِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. ضَلَعُ الدَّينِ وَمَشَقَّتُهُ، وَثِقَلُهُ وَغَلَبَتُهُ، مُشكِلَةٌ كَبِيرَةٌ، وَقَعَ فِيهَا النَّاسُ مُنذُ القِدَمِ، إِذِ اضطُرُّوا إِلى الدَّينِ في كَثِيرٍ مِنَ الأَحوَالِ وَأُلجِئُوا إِلَيهِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ المُشكِلَةَ لم تَظهَرْ في زَمَانٍ كَمَا هِيَ في زَمَانِنَا، حَيثُ دَخَلَت كُلَّ بَيتٍ وَشَغَلَت كُلَّ أُسرَةٍ، وَلم يَكَدْ يَسلَمُ مِنهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ صَغُرَ أَو كَبُرَ، إِذْ تَسَاهَلُوا في الدُّيُونِ وَتَنَافَسُوا في القُرُوضِ، وَصَارُوا يَقعَونَ فِيهَا بِوَعيٍ وَبِلا وَعيٍ، وَيَأتُونَها بِحَاجَةٍ وَبِلا حَاجَةٍ، بَل تَقلِيدًا لِغَيرِهِم وَتَنَافُسًا في دُنيَاهُم، وَحُبًّا لِلظُّهُورِ بِالمَظَاهِرِ البَرَّاقَةٍ الخَدَّاعَةٍ، فَلا يَشعُرُ أَحدُهُم إِلاَّ وَقَد رَكِبَتهُ الدُّيُونُ وَغَلَبَتهُ الهُمُومُ، وَضَاقَت بِهِ السُّبُلُ وَقَلَّت في يَدَيهِ الحِيَلُ، وَلَو أَنَّهُم أَخَذُوا بِأَسبَابِ الرِّزقِ المُتَهَيِّئَةِ، وَسَدَّدُوا أَحوَالَهُم وَلَو بِالقَلِيلِ المُتَيَسِّرِ، وَرَضُوا بِالكَفَافِ مِنَ العَيشِ وَقَنِعُوا بما أُوتُوا، لَمَا أَثقَلَتِ الدُّيُونُ كَوَاهِلَهُم، وَلَمَا أَلجَأَتهُم إِلى مَدِّ أَيدِيهِم بِمَسأَلَةٍ، أَو خَفضِ رُؤُوسِهِم في مَسكَنَةٍ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ:
إِنَّ الدَّينَ هَمٌّ بِاللَّيلِ وَذُلٌّ بِالنَّهارِ، فَهُو يُزعِجُ القَلبَ وَيُشَتِّتُ الذَّهنَ، وَكَثِيرًا مَا يَعزِلُ صَاحِبَهُ عَنِ المُجتَمَعِ وَيُكَرِّهُهُ العَيشَ بَينَ النَّاسِ، فَيُصبِحُ طُولَ وَقتِهِ هَارِبًا غَائِبًا، وَيُضطَرُّ أَلاَّ يُرَى إِلاَّ مُرَاوِغًا كَاذِبًا، بَل قَد تَصِلُ بِهِ الحَالُ إِلى قَتلِ نَفسِهِ وَالانتِحَارِ. وَقَد كَانَ مِن دُعَائِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ المَأثَمِ وَالمَغرَمِ " فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكثَرَ مَا تَستَعِيذُ مِنَ المَغرَمِ! فَقَالَ: " إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخلَفَ " أَخرَجَهُ الشَّيخَانِ.
نَعَم - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - إِنَّ المَدِينَ مَهمُومٌ وَلَو رَآهُ النَّاسُ فَرِحًا، مَغمُومٌ وَلَو بَدَا لَهُم مَسرُورًا، لا يَرتَاحُ في نَفسِهِ، وَلا يَطمَئِنُّ في بَيتِهِ، وَلا يَجِدُ طَعمًا لِحَيَاتِهِ، ولا يَستَمتِعُ بِزَوجٍ وَلا يَهنَأُ مَعَ أَولادٍ، وَهُوَ في بَلاءٍ وَإِنْ رَآهُ النَّاسُ في نِعمَةٍ، يُصَبِّحُهُ دَائِنٌ وَيُمَسِّيهِ آخَرُ، وَلَهُ في كُلِّ يَومٍ مَوعِدٌ في شُرطَةٍ، أَو جَلسَةٌ في مَحكَمَةٍ؛ وَلِذَلِكَ فَقَد تَنَوَّعَ تَحذِيرُ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الدَّينِ وَتَقبِيحُ شَأنِهِ، وَبَيَانُ خَطَرِهِ عَلَى صَاحِبِهِ، فَنَجِدُهُ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - يَستَعِيذُ مِنَ ضَلَعِ الدَّينِ وَقَهرِ الرِّجَالِ، وَيُخبِرُ أَنَّ اللهَ يَغفِرُ لِلشَّهِيدِ كُلَّ شَيءٍ إِلاَّ الدَّينَ، وَأَنَّ ذِمَّةَ المُؤمِنِ مَرهُونَةٌ بِدَينِهِ حَتى يُقضَى عَنهُ، وَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: " لا تُخِيفُوا أَنفُسَكُم بَعدَ أَمنِهَا " قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " الدَّينُ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ. بَل كَانَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - لا يُصَلِّي عَلَى مَن عَلَيهِ دَينٌ، فَعَن جَابِرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - قَالَ: تُوُفِّيَ رَجُلٌ فَغَسَّلَنَاهُ وَكَفَّنَّاهُ وَحَنَّطنَاهُ، ثم أَتينَا بِهِ رَسُولَ اللهِ لِيُصَلِّيَ عَلَيهِ فَقُلنَا: تُصَلِّي عَلَيهِ؟! فَخَطَا خُطوَةً ثُمَّ قَالَ: " أَعَلَيهِ دَينٌ؟! " قُلنَا: دِينَارَانِ، فَانصَرَفَ، فَتَحَمَّلَهُمَا أَبُو قَتَادَةَ، فَأَتَينَاهُ فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: الدِّينَارَانِ عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: " قَد أَوفَى اللهُ حَقَّ الغَرِيمِ وَبَرِئَ مِنهُمَا المَيِّتُ " قَالَ: نَعَم، فَصَلَّى عَلَيهِ، ثُمَّ قَالَ بَعدَ ذَلِكَ بِيَومَينِ: " ما فَعَلَ الدِّينَارَانِ؟! " قُلتُ: إِنَّمَا مَاتَ أَمسِ. قَالَ: فَعَادَ إِلَيهِ مِنَ الغَدِ فَقَالَ: قَد قَضَيتُهُمَا، فَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: " الآنَ بَرَّدتَ جِلدَتَهُ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ، وَعَن أَبي هُرَيرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُؤتَى بِالرَّجُلِ المَيِّتِ عَلَيهِ الدَّينُ، فَيَسأَلُ: " هَل تَرَكَ لِدَينِهِ قَضَاءً؟! " فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ وَفَاءً صَلَّى عَلَيهِ، وَإِلاَّ قَالَ: " صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُم " رَوَاهُ مُسلِمٌ. هَذَا فِعلُهُ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - مَعَ أَصحَابِ الدُّيُونِ المُتَوَفَّينَ وَهُم مِن أَصحَابِهِ وَمُلتَزِمُونَ بِالوَفَاءِ بما عَلَيهِم، وَلم يَكُونُوا يُمَاطِلُونَ وَلا يُخلِفُونَ، وَلم تَكُنْ دُيُونُهُم بِتِلكَ الكَثرَةِ، فَمَا بَالُكُم بِمَن يُمَاطِلُ بِالآلافِ وَالمَلايِينِ؟ مَا بَالُكُم بِمَن يَجحَدُ الحُقُوقَ وَيُنكِرُ الدُّيُونَ؟! وَوَاللهِ لَو عُمِلَ في زَمَانِنَا بِمَا كَانَ يَعمَلُهُ رَسُولُ اللهِ مِن عَدَمِ الصَّلاةِ على أَصحَابِ الدُّيُونِ، لَمَا صَلَّى الأَئِمَّةُ في مَسَاجِدِنَا إِلاَّ عَلَى القَلِيلِ مِنَ النَّاسِ.
مَعشَرَ المَدِينِينَ:
مَن نَزَلَت بِهِ حَاجَةٌ فَاضطُرَّ لِلدَّينِ اضطِرَارًا، وَأُلجِئَ إِلَيهِ وَلم يَجِدْ عَنهُ مَحِيصًا، فَلْيتَوَكَّلْ عَلَى مَن بِيَدِهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَلْيُحسِنِ الظَّنَّ بِهِ، وَلْتَكُنْ لَهُ عَزِيمَةٌ صَادِقَةٌ عَلَى الوَفَاءِ، وَنِيَّةٌ جَادَّةٌ في القَضَاءِ، وَلْيَحذَرْ مِن تَبيِيتِ النَّوَايَا السَّيِّئَةِ أَو إِخفَاءِ المَقَاصِدِ الخَبِيثَةِ، أو سُلُوكِ مَسَالِكِ المُرَاوَغَةِ وَالمُخَادَعَةِ؛ فَإِنَّ مَن نَوَى السَّدَادَ وَالقَضَاءَ أَعَانَهُ اللهُ وَأَدَّى عَنهُ وَقَضَى دَينَهُ، وَمَن بَيَّتَ نِيَّةً سَيِّئَةً أَو أَضمَرَ مَقصِدًا خَبِيثًا بِعَدَمِ الوَفَاءِ بِحُقُوقِ العِبَادِ، فَقَد عَرَّضَ نَفسَهُ لِلتَّلَفِ وَنَقصِ البَرَكَةِ، فَضلاً عَن عَذَابِ الآخِرَةِ، قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مَن أَخَذَ أَموَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللهُ عَنهُ، وَمَن أَخَذَ أَموَالَ النَّاسِ يُرِيدُ إِتلافَهَا أَتلَفَهُ اللهُ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ.
ثم احذَرُوا - مَعشَرَ المُسلِمِينَ - ممَّا اعتَادَهُ بَعضُ النَّاسِ مِن تَكرَارِ الدَّينِ مَرَّةً بَعدَ أُخرَى، مُعتَمِدًا عَلَى مَسأَلَةِ الآخَرِينَ وَالإِلحَافِ في استِعطَائِهِم، فَقَد قَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: " لا تَزَالُ المَسأَلَةُ بِأَحَدِكُم حَتى يَلقَى اللهَ - تَعَالى - وَلَيسَ في وَجهِهِ مُزعَةُ لَحمٍ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ. أَلا فَاتَّقُوا اللهَ - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - وَاحذَرُوا الاغتِرَارَ بِالدُّنيَا وَالتَّسَاهُلَ بِالدُّيُونِ، وَاحرِصُوا عَلَى السَّدَادِ وَلا تَتَسَاهَلُوا، فَإِنَّ أَحَدَكُم لا يَدرِي مَتى يَأتِيهِ المَوتُ، وَإِيَّاكُم وَالإِسرَافَ وَتَقلِيدَ المُسرِفِينَ، فَإِنَّهُ مِن أَكبَرِ دَوَاعِي الاقتِرَاضِ وَأَسبَابِ تَرَاكُمِ الدُّيُونِ، وَ﴿ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 7] اللَّهُمَّ اكفِنَا بِحَلالِكَ عَن حَرَامِكَ، وَأَغنِنَا بِفَضلِكَ عَمَّن سِوَاكَ، اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤتي المُلكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلكَ ممَّن تَشَاءُ، وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ، بِيَدِكَ الخَيرُ إِنَّكَ عَلَى كُلَّ شَيءٍ قَدِيرٌ، رَحمَنَ الدُّنيَا وَالآخِرَةِ وَرَحِيمَهُمَا، تُعطِيهِمَا مَن تَشَاءُ وَتَمنَعُ مِنهُمَا مَن تَشَاءُ، اِرحمْنَا رَحمَةً تُغنِينَا بها عَن رَحمَةِ مَن سِوَاكَ.
الخطبة الثانية
أَمَّا بَعدُ، فَاتَّقُوا اللهَ - تَعَالى - وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 4].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ:
إِنَّهَ لَمِن أَعجَبِ العَجَبِ، أَنَّ كَثِيرًا مِمَّن يَقعُونَ في الدُّيُونِ وَيَتَحَمَّلُونَ هُمُومَهَا، إِنَّمَا يَحصُلُ ذَلِكَ مِنهُم بِسَبَبِ الإِغرَاقِ في الكَمَالِيَّاتِ وَالبَذخِ في المُنَاسَبَاتِ، وَكَثرَةِ شِرَاءِ مَا لا يَحتَاجُونَهُ مِنَ مَلابِسَ وَأَثَاثٍ بل وَهَوَاتِفَ وَجَوَّالاتٍ. وَثَمَّةَ مَن يَستَدِينُ لِيَشتَرِي سَيَّارَةً فَارِهَةً يُبَاهِي بها، وَهُنَاكَ مَن يَستَدِينُ لِيُسَافِرَ لِلسِّيَاحَةِ وَيَفخَرَ عَلَى مَن حَولَهُ، إِلى غَيرِ ذَلِكَ مِن أَسبَابٍ وَاهِيَةٍ وَدَوَاعٍ غَيرِ نَبِيلَةٍ. وَلَو رَضِيَ كُلٌّ بما قُسِمَ لَهُ وَعَرَفَ قَدرَ نَفسِهِ، وتَدَثَّرَ بِالقَنَاعَةِ بما في يَدِهِ وَالرِّضَا عَن رَبِّهِ، لَمَا احتَاجَ إِلى الدَّينِ إِلاَّ نَادِرًا، وَلَكِنَّهُ نَظرُ كُلِّ أَحَدٍ إِلى مَن هُوَ فَوقَهُ، يَحمِلُهُ عَلَى تَقلِيدِهِ وَلَو لم تَكُنْ لَهُ قُدرَةٌ عَلَى ذَلِكَ، فَيُضطَرُّ إِلى أَن يَشغَلَ ذِمَّتَهُ بِالدُّيُونِ وَيَغرَقَ في القُرُوضِ، أَلا فَاتَّقُوا اللهَ - عبادَ اللهِ - وَاحذَرُوا حُقُوقَ الآخَرِينَ مَهمَا قَلَّت، فَإِنَّ حُقُوقَ اللهِ مَبنَاهَا عَلَى المُسَامَحَةِ مِنهُ - سُبحَانَهُ - وَأَمَّا حُقُوقُ العِبَادِ فِيمَا بَينَهُم، فَمَبنَاهَا عَلَى المُشَاحَّةِ، وَلَرُبَّمَا وَافَى بَعضُ النَّاسِ يَومَ القِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ وَأَعمَالٍ صَالِحَاتٍ، فَذَهَبَت بَينَ يَدَيهِ هَبَاءً مَنثُورًا، لا لأَنَّهَا غَيرُ مَقبُولَةٍ في ذَاتِهَا، وَلَكِنْ لِكَثرَةِ مَن يُطَالِبُهُ مِنَ الغُرَمَاءِ وَالدَّائِنِينَ، فَتُفَرَّقُ عَلَيهِم عِندَ مَن لا يُظلَمُ عِندَهُ أَحَدٌ وَلا يَضِيعُ لَدَيهِ حَقٌّ، فَيَخرُجُ مُفلِسًا خَاسِرًا، وَالمُوَفَّقُ مَن وَفَّقَهُ اللهُ، وَقَد قَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: " قَد أَفلَحَ مَن أَسلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللهُ بما آتَاهُ " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ.
تم النشر يوم
الثلاثاء، 28 يناير 2014 ' الساعة