جبروت الإنسان وذل الحيوان لله تعالى
الشيخ سعود الشريم
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجاً * قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ﴾ [الكهف: 1 - 2]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كرم بني آدم، وحملهم في البر والبحر، ورزقهم من الطيبات، وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه، ومَنْ سار على طريقهم واتبع هداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، وراقبوه في السر والنجوى، والخلوة والجلوة؛ فـ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 5 - 6].
عباد الله:
إن الباري - سبحانه وتعالى - بحكمته وعدله وعلمه خلق هذا الكون علويه وسفليه، ظاهره وباطنه، وأودعه من الموجودات: الملائكة، والإنس، والجن، والحيوان، والنبات، والجمادات، وغيرها من الموجودات التي لا يعلمها إلا هو، كل ذلك لأجل أمر واحد لا ثاني له، ولأجل حقيقة كبرى لا حقيقة وراءها؛ إنه لأجل أن تكون العبودية له وحده دون سواه، ولأجل أن تعترف هذه الموجودات بربوبيته، وتحقيق ألوهيته، وتقر بفقرها واحتياجها وخضوعها له جل شأنه، ومن ثم فإن تحقيق العبودية لا يمكن أن يبلغ مكانه الصحيح إلا بتحقيق الطاعة والاستقامة، ولزوم الصراط المستقيم؛ ليكون الدين لله، والحكم لله، والدعوة إلى الله.
كل ذلك يقوم به من جعلهم الله مستخلفين في الأرض، مستعمرين فيها، ومثل هذا لا يتم لبني الإنسان بين سائر المخلوقات إلا من خلال قول اللسان وعمل القلب والجوارح على حد سواء، كما أنه لا يمكن إتمام العبودية على أكمل وجه إلا بتكميل مقام غاية الذل والانقياد مع غاية المحبة لله سبحانه، فأكبر الخلق عبوديةً لله هو أكملهم له ذلاًّ وانقيادًا وطاعة؛ إذ هذه هي الذلة لله ولعزته ولقهره، وربوبيته وإحسانه وإنعامه على ابن آدم.
وجماع العبودية - عباد الله - أنها هي الدين؛ فالدين عند الله الإسلام: ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85].
هذا هو سر خلق الله للخلق، وغاية إيجاده لهم على هذه البسيطة: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: 115]، ﴿ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ﴾ [القيامة: 36].
أيها المسلمون:
يقول الله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 185]، ويقول سبحانه عائبًا فئة من البشر غافلة ساهية، لم تأخذ العبرة والعظة مما تشاهده ليلاً ونهارًا في أنحاء هذا الكون المعمور: ﴿ وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ ﴾ [يوسف: 105 - 106].
فيا سبحان الله! أفلا يرون الكواكب الزاهرات، والأفلاك الدائرات، والجميع بأمره مسخرات؟!
وكم في الأرض من قطع متجاورات، وحدائق وجنات، وجبال راسيات، وبحار زاخرات، وأمواجٍ متلاطمات، وقفار شاسعات، ثم هم يجعلون لله البنات، ويعبدون من دونه من هو كالعزى واللات!! فسبحان الواحد الأحد خالق جميع المخلوقات.
وثم أمر لذي اللبُّ المتأمل، يجعل العجب يأخذ من نفسه كل مأخذ، حينما يرى أمر هذا الكائن البشري، وهو ينكص على عقبيه، ويولي الدبر، منصرفًا عن عبودية خالقه ومولاه، منشغلاً بالأولى عن الأخرى، والفاني عن الباقي، يتقلب بين الملذات والشهوات ملتحفًا بأكنافها، بعد أن أكرمه الله وكرمه، وحمله في البر والبحر، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً، وبعد أن أسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، وبعد أن خلقه وصوَّره، وشق سمعه وبصره: ﴿ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 34].
ومع ذلك يستكبر الإنسان، ويكفر الإنسان، ويجهل الإنسان، ويقتر الإنسان، ويجادل الإنسان؛ فيقول الله عنه: ﴿ إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 34]، ﴿ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾ [الأحزاب: 72]، ﴿ قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ﴾ [عبس: 17]، ﴿ وَكَانَ الإِنسَانُ قَتُوراً ﴾ [الإسراء: 100]، ﴿ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ﴾ [الكهف: 54]، ﴿ كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق: 6 - 7]، ﴿ بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ﴾ [القيامة: 5]، ﴿ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾ [العصر: 2].
وكان الأجدر بهذا الإنسان وقد أكرمه الله ونعمه - أن يكون عابدًا لا غافلاً، طائعًا لا عاصيًا، مقبلاً إلى ربه لا مدبرًا، شكورًا لا كفورًا، محسنًا لا ظالمًا.
إن المتأمل في كثير من المخلوقات في هذا العالم المشهود، ليرى أنها لم تحظ من العناية والرعاية والعمارة والاستخلاف كما أعطي الإنسان، ولا كلفت كتكليف ابن آدم؛ بل جعلها الله خادمة مسخرة له: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ﴾ [البقرة: 29]؛ بل حتى الملائكة سخرها لابن آدم، فجعل منهم الكتبة عليهم، والدافعين عنهم من معقبات من بين أيديهم ومن خلفهم، يحفظونهم من أمر الله، ومنهم المسخرين لإرسال الريح والمطر، كما جعل الله من أكبر وظائفهم الاستغفار لبني آدم: ﴿ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأَرْضِ ﴾ [الشورى: 5]!
ومع ذلك - عباد الله - فإن هذه المخلوقات - عدا ابن آدم - قد كملت في عبوديتها لله جل شأنه، وخضوعها له، وذلها لقهره وربوبيته وألوهيته، إلا بعض المخلوقات العاصية كالشياطين وعصاة الجن، وبعض الدواب كالوَزَغ؛ الذي قال عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اقتلوا الوَزَغ؛ فإنه كان ينفخ النار على أبينا إبراهيم))؛ رواه أحمد.
غير أن أولئك مع عصيانهم - إلا أنهم لا يبلغون مبلغ عصيان بعض بني آدم! وما ذاك إلا لأنه قد وجد في بني آدم من يقول: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24]، ومنهم من يقول: ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ [المائدة: 17]، ومن يقول: ﴿ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ﴾ [المائدة: 73]، ووجد منهم من يقول: ﴿ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ [البقرة: 258]، ووجد من يقول: ﴿ اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ ﴾ [الأعراف: 138]، ووجد منهم من يقول عن القرآن: ﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ﴾ [المدثر: 25] ، ومن يقول: ﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ [المدثر: 25]، ناهيكم - عباد الله - عمن يقول: ﴿ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ﴾ [المائدة/64]، ومن يجعل الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا، وكيف إذن بمن يقول: ﴿ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ﴾ [آل عمران: 181]!!!
وهكذا - عباد الله - تمتد حبال الطغيان والجبروت في بني الإنسان، إلى أن يخرج من يقول: "إن الشريعة الإسلامية غير صالحة لكل زمان ومكان"، أو من يقول بفصل الدين عن الدولة؛ "فلا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة"، أو من يقول: "الدين لله، والوطن للجميع"، أو: "دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر"، أو من يصف الدين بالرجعية، والحدود والتعزيرات بالهمجية والغلظة، أو أن يصفه بالمقيِّد للمرأة، والظالم لها، والمحجِّر على هُويتها، أو من يرى حريتها وفكاكها من أسرها إنما يتمثل في خروجها من حدود ربها، وإعلان عصيانها لشريعة خالقها، وجعلها نهبًا لكل سارق، وإناءًا لكل والغ، ولقيطًا لكل لاقط، جسدًا للإغراء والمتاجرة، وحب شيوع الفاحشة في الذين آمنوا!!
هذه هي مقولات بعض بني الإنسان؛ فهل من التفاتة ناضجة إلى مواقف إبليس اللعين في كتاب ربنا؛ لأجل أن تروا: هل تجدونه قال شيئا من ذلك، غير أنه وعد بالغواية؟ بل إن غاية أمره أنه فضل جنسه على جنس آدم؛ فاستكبر عن السجود لمن خُلِقَ طينا؛ بل إنه قد قال لبعض البشر: ﴿ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ العِقَابِ ﴾ [الأنفال: 48]، فلله ما أعظم عصيان بني آدم، وما أشد استكباره ومكره السيئ: ﴿ وَلاَ يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ﴾ [فاطر: 43].
ويؤكد الباري - جل شأنه - حقيقة عصيان بعض بني آدم من بين سائر المخلوقات، واستنكافهم أن يكونوا عبيدًا لله الذي خلقهم وفطرهم؛ فقال سبحانه: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العَذَابُ ﴾ [الحج: 18]، فدل على أن أكثر بني آدم عصاة مستكبرون ضالون : ﴿ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام: 116]، ﴿ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13]، ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف: 103].
أيها المسلمون:
من أجل أن نصل وإياكم إلى غاية واحدة، وهي استشعار عبوديتنا لله - سبحانه وتعالى - وأن منَّا مفرطين ومستنكفين، وأن من أطاع الله بشيء من العمل؛ أخذه الإعجاب بنفسه كل مأخذ، وأقنع نفسه ومجتمعه بأنه يعيش أجواء الأمن والأمان والاستقامة والهداية، وأنه أدى ما عليه، فليس هناك دواعٍ معقولة للتصحيح والارتقاء بالنفس إلى البُلْغَة المرجوَّة.
إنه لأجل أن نعلم ذلك، ولأجل أن نزدري عملنا مهما كان صالحًا، في مقابل أعمال المخلوقات الأخرى من جماد ونبات وحيوان - فإن من المستحسن هنا أن نسلط الحديث على أمثلة متنوعة لمخلوقات الله سبحانه؛ لنبرهن من خلالها الهوة السحيقة بيننا وبينهم في كمال العبودية لله والطاعة المطلقة له.
فمن ذلك: ما ألهم الله به بعض مخلوقاته من استشعار عقيدة التوحيد، وذم الشرك في ألوهيته - جل وعلا - وذلكم من خلال ما ذكره الله سبحانه عن هدهد سليمان - عليه السلام - حينما أنكر عليه أهل السماء من الكفر بالله والشرك به، إضافةً إلى دعوته لتوحيد الله سبحانه؛ فقد قال الله تعالى عن الهدهد: ﴿ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ * أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ ﴾ [النمل: 24 - 26].
ومن ذلك - عباد الله -: ما أودعه الباري سبحانه بعض الجمادات من الغيرة على دينه، والتأذي من انتهاك ابن آدم لحرمات الله سبحانه؛ ففي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مُرَّ عليه بجنازة؛ فقال: ((مُسترِيحٌ ومُسترَاح منه))، فقالوا: يا رسول الله، ما المستريح وما المستراح منه؟ قال: ((إن العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله تعالى، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب))؛ رواه البخاري.
فانظروا - يا رعاكم الله - كيف يتأذى الشجر والدواب من الرجل الفاجر، وما يحدثه في الأرض من فساد وتخريب، وإعلان المعصية لله تعالى، والتي لا يقتصر شؤمها على ابن آدم فحسب.
وفي مقابل ذلكم؛ فإن بعض الدواب تفرح بالتدين، وتشعر بأثره في ابن آدم، وبركته على وجه الأرض؛ فلذلك هي تدعو له، وتصلي عليه، وتستغفر له؛ فقد روى الترمذي في "جامعه"، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله وملائكته، وأهل السموات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت - ليصلون على معلم الناس الخير))، بل إن الدواب جميعًا لتشفق من يوم القيامة، وتفرق من قيام الساعة؛ خوفًا من هولها وعرصاتها؛ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من دابة إلا وهي مصغية يوم الجمعة؛ خشية أن تقوم الساعة))؛ رواه أحمد، والمصغية: هي المنصتة.
ولقد ورد أيضًا ما يدل على عبودية الديك لله، ودعوته للفلاح والخير؛ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تسبوا الديك؛ فإنه يدعو إلى الصلاة))؛ رواه أحمد وأبو داود.
وقد روى الإمام أحمد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إنه ليس من فرس عربي، إلا يؤذن له مع كل فجر يدعو بدعوة، يقول: اللهم إنك خولتني من خولتني من بني آدم، فاجعلني من أحب أهله وماله إليه))، فيقول - صلى الله عليه وسلم -: ((إن هذا الفرس قد استُجيب له دعوته))؛ رواه أحمد.
وأما النمل - يا رعاكم الله - فتلك أمة من الأمم المسبحة له سبحانه، مع صغر خلقتها، وهوان حالها، وازدراء البشر لها، وهي التي قال الله عنها: ﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ [النمل: 18]، هذه النملة يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها: ((قرصت نملة نبيًّا من الأنبياء، فأمر بقرية النمل فأحرقت؛ فأوحى الله إليه: أفي أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح الله!!))؛ رواه البخاري.
وأما الشجر - وهو من النبات عباد الله - فقد قال الله عنه: ﴿ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ﴾ [الرحمن: 6]، وروى ابن ماجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما من ملبٍّ يلبي، إلا لبَّى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا)).
وأما ولاء الحجر والشجر للمؤمنين، ونصرته لدين الله حينما يستنطقه خالقه، فينبئ عن عمق عبوديته لربه، وغيرته على دينه؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال عنه: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر؛ فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي، تعال فاقتله))؛ رواه البخاري.
انظروا - يا رعاكم الله - هذه المخلوقات الآنفة!
إضافة إلى الجبال الراسيات والأوتاد الشامخات، كيف تسبح بحمد الله، وتخشى علاه، وتشفق وتهبط من خشية الله، ومن الكفر به ونسبة الولد إليه سبحانه: ﴿ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَداًّ * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً ﴾ [مريم: 90 - 92]، وهي التي خافت من ربها وخالقها؛ إذ عرض عليها الأمانة فأشفقت من حملها، وكيف أنه تدكك الجبل لما تجلى له ربنا - جل وعلا -: ﴿ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً ﴾ [الأعراف: 143]؛ فهذه حال الجبال وهي الحجارة الصلبة، وهذه رقتها وخشيتها وتدكدكها من جلال ربها وعظمته، وقد أخبر الله أنه لو أنزل عليها القرآن لتصدعت من خشية الله.
فيا عجبًا من مضغة لحم أقسى من صخر صلب، تسمع آيات الله تتلى عليها، ثم تصر مستكبرة كأن لم تسمعها! كأن في أذنيها وقرًا، فهي لا تلين ولا تخشع، ولكن صدق الله: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، ثم أما بعد.
فيا أيها الناس:
تكلم ذئب كلامًا عجبًا إبان حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - كلامًا يفيد بأن الذئب يؤمن بأن الرزق من عند الله؛ بل قد أمر هذا الذئب راعي الغنم بتقوى الله سبحانه، إضافةً إلى علم الذئب بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ورسالته! فلقد أخرج الإمام أحمد في "مسنده" من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "عدا الذئب على شاة فأخذها، فطلب الراعي فانتزعها منه، فأقع الذئب على ذنبه، قال: ألا تتقِ الله، تنزع مني رزقًا ساقه الله إليَّ! فقال: يا عجبي! ذئب مقعٍ على ذنبه يكلمني كلام الناس!! فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك، محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق))؛ الحديث، وفي رواية للبخاري: "فقال الناس: سبحان الله، ذئب يتكلم!! فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((فإني أؤمن بذلك أنا وأبو بكر وعمر)).
فاتقوا الله - أيها المسلمون - واقدروه حق قدره، واستشعروا أثر عبودية الجماد والنبات والحيوان وكمالها لله تعالى، وهي أقل منكم فضلاً وتكريمًا، واعلموا أنكم مقصرون مهما بلغتم، وظالمون لأنفسكم مهما ادعيتم القصد أو الكمال؛ فإن بُعد البشر عن الحقيقة، وضعف يقينهم بالآمر الناهي، وغلبة شهواتهم مع الغفلة - تلك كلها تحتاج إلى جهاد أعظم من جهاد غيرهم من المخلوقات الطائعة المسبحة لله.
يصبح أحدنا وخطاب الشرع يقول له: استقم في عبادتك، واحذر من معصيتك، وتنبه في كسبك، وقد قيل قبلُ للخليل - عليه السلام -: اذبح ولدك بيدك، واقطع ثمرة فؤادك بكفك، ثم قم إلى المنجنيق لتُرمى في النار، ويقال للغضبان: اكظم، وللبصير: اغضض، ولذي المقول: اصمت، ولمستلذ النوم: تهجد، ولمن مات حبيبه: اصبر، وللواقف في الجهاد بين الغمرات: لا يحل لك أن تنفر، وإذا وقع بك مرض فلا تشكو لغير الله.
فاعرفوا - أيها المسلمون - شرف أقدار بني آدم بهذا الاستخلاف، وصونوا هذا الجوهر بالعبودية الحقة عن تدنيسها بشؤم الذنوب، ولؤم التفريط في الطاعة، واحذروا أن تحطكم الذنوب إلى حضيض أوهد؛ فتخطفكم الطير، أو تهوي بكم الريح في مكان سحيق: ﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ ﴾ [الحج: 32].
والعجب - عباد الله - ليس من مخلوقات ذُلِّل لها الطريق فلا تعرف إلا الله، ولا من الماء إذا جرى، أو من متحدِّر يسرع، ولكن العجب من مصَّعِدٍ يشق الطريق شقًّا، ويغالب العقبات معالجة، ويتكفأ الريح إقبالاً، ولا عجب فيمن هلك كيف هلك؟! ولكن العجب فيمن نجا كيف نجا؟! ﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 35].
والعبد كلما ذل لله، وعظم افتقارًا إليه وخضوعًا له - كان أقرب له، وأعز وأعظم لقدره، فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الله سبحانه: ((يا ابن آدم، تفرغ لعبادتي؛ أملأ صدرك غنًى وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك))؛ رواه ابن ماجه.
هذا وصلوا - رحمكم الله - على خير البرية، وأزكى البشرية، محمد بن عبدالله صاحب الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وأيه بكم أيها المؤمنون؛ فقال - جل وعلا -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ الله عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر صحابة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واخذل الشرك والمشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفث كرب المكروبين، واقضِ الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
شبكة الألوكة
تم النشر يوم
الأحد، 17 أغسطس 2014 ' الساعة