تقديم
الحمدلله، له دعوة الحق، والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه، وما هو ببالغه، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال، يقول عز وجل: ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِم كَافِرِينَ ﴾ [الأحقاف: 5- 6].
ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند له، ولا ظهير له، ولا ولد له، تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولداً، بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه.
ونشهد أن محمداً عبده الكريم ورسوله الأمين، أحب خلق الله إلى الله، وأقربهم إليه طريقاً، وأهداهم إليه سبيلاً، أخرج الله به الناس من ظلمات التقليد الجاهلي الأعمى للآباء والأجداد، وعمى البصر والبصيرة، وعبادة غير الله ودعاء غير الله والاستعانة والاستغاثة بغير الله.
أخرجهم من كل تلك الظلمات إلى نور الحق والهدى واليقين، فصل اللهم وسلم وبارك عليه وعلى آله ومن اهتدى بهديه واستن بسنته وسار على دربه، وانتهج نهجه، صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
لقد قامت جماعة أنصار المحمدية على أيدي رجال نذروا أنفسهم لتطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد، ومحاربة البدع والخرافات والترهات وجهل الجاهلين وإلحاد المبطلين وتأويل الضالين، فبدأت تكافح الخرافات، لا سيما ما كان متعلقاً منها بالعقائد، وترجع بأعضائها، وكل من يشرفها إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم وطريق السلف الصالح، وتنيرهم بالمعارف النبوية وتنشئهم على حب الكتاب والسنة، وتمرنهم على النزول على حكمهما من غير عصبية.
هذا كلام مؤسسها الأول الشيخ محمد حامد الفقي- رحمه الله- الذي كتبه في مجلة الهدي النبوي في العدد الأول الذي صدر في ربيع الثاني 1356هـ/ 1937م، وكان الهدف من إصدارها كما يقول رحمه الله:
لقد كنت في حياتي الأولى سالكاً مع السالكين، وملبساً مع الملبسين ومخرفاً مع المخرفين، وداعياً إلى البدعة والجاهلية وعبادة الموتى والخشب والنصب مع الداعين، فهداني الله إلى دين الهدى، وكشف عن بصيرتي حجب الجهل والعمى وبصرني بنور الحق من كتاب الله وسنة نبيه المصطفى، ووفقني بفضله إلى سبيل السلف الصالح من الصحابة والتابعين، فقذفت حلاوة التوحيد الخالص، وعرفت لله تعالى منته العظمى في تلك الهداية، ونعمته الكبرى في هذا التوفيق، وكان من حق هذه النعمة وأداء شكرها أن أقف حياتي لإرشاد الضال وهداية القائم، فأصدرت مجلة الهدي النبوي لتكون اللسان المعبر عن دعوة أنصار السنة المحمدية والقلم الراسم لخطتها وهي أخت «الإصلاح» التي كنت أصدرها ببلد الله الحرام زمن الإمام المصلح، والملك الراشد المخلص(والذي أحسبه كذلك) «عبد العزيز آل سعود».
حالة المجتمع يوم صدور الهدي النبوي:
تصور الهدي النبوي تلك الحال في عددها (ربيع أول 1358هـ) وهي السنة الثانية لصدورها فتقول:
«إن تسعة وتسعين في المائة من الأمة على جاهلية في علمها وعقيدتها وخلقها وحكمها ونظامها، وقد ضرب الجهل على القلوب نطاقاً مظلماً أسود حجب عنها كل هدى وكل نور، الأكثرية الساحقة على ذل القلوب للموتى، واستخذائها للأحجار والأشجار، واستكانتها وخشوعها للنصب والمقاصير والقبور، والأكثرية معرضة عن التحاكم في عقيدتها وعبادتها وماليتها وشئونها إلى ما أنزل الله من الهدى والذكر الحكيم ».
والأكثرية أيضاً على تحزب وتفرقة وشتات بالطرق الصوفية والمذاهب التقليدية، وكل حزب بما لديهم فرحون، وعن حزبهم وحده يخاصمون وله يتعصبون ولشيخهم وحده ينتسبون مهما كان قوله مخالفاً للمنقول ثم المعقول وفيه يعتقدون علم الغيب وتصريف الأقدار والإنجاء من النار.
وقد تصدى الشيخ محمد حامد الفقي لتصحيح تلك المفاهيم الخاطئة من خلال تفسيره لبعض سور القرآن الكريم وآياته، وعن منهجه في تفسير القرآن الكريم.
قال الشيخ أبو الوفاء درويش:
«كان يفسر آيات الكتاب العزيز فيتغلغل في أعماقها ويستخرج منها درر المعاني ويشبعها بحثاً وفهماً واستنباطاً، ويوضح ما فيها من الأسرار العميقة والإشارات الدقيقة والحكمة البالغة والموعظة الحسنة، ولا يترك كلمة لقائل بعده، وذلك بعد أن يحيط القارئ أو السامع علماً بالفقه اللغوي للكلمات وأصولها وتاريخ استعمالها فيكون الفهم أتم والعلم أكمل وأشمل ».
وها نحن أثلج الله صدرك بالتقوى وأقر عينك بالهداية وثبتك باليقين، وهداك إلى الصواب وجعلك للصواب هادياً، نسوق لك نموذجاً من روائع تفسيره في مجلة الهدي النبوي تحت عنوان: ﴿ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 22].
والله من وراء القصد، وبه الهداية ومنه التوفيق.
القاهرة: 1محرم 1423هـ.
وكتبه فتحي أمين عثمان
وكيل جماعة أنصار المحمدية
بسم الله الرحمن الرحيم
قول الله تعالى ذكره: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 21، 22].
«العبادة» في المصباح[1]:
عبدت الله أعبده عبادة. وهي الانقياد والخضوع، واسم الفاعل: عابد. والجمع عبّاد وعبدة مثل كافر وكفار وكفرة، ثم استعمل فيمن اتخذ إلهاً غير الله، وتقرب إليه، فهو عابد الوثن والشمس، وغير ذلك. اهـ.
وفي «الصحاح»:
تقول عبد بيّن العبودة والعبودية.
وأصل العبودية:
الخضوع والذل. والتعبيد: التذليل. يقال طريق معبد. والبعير المعبد: المهنوء بالقطران المذلل.
والعبادة:
الطاعة. والتعبد: التنسك.اهـ.
وفي مفردات الراغب:
العبودية إظهار التذلل. والعبادة أبلغ منها، لأنها غاية في التذلل. ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال. وهو الله تعالى، ولهذا قال: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾، ويقال طريق معبد: أي معبد مذلل بالوطء. وبعير معبد: مذلل بالقطران، وعبَّدت فلاناً إذا ذللته، وإذا اتخذته عبداً. قال تعالى: ﴿ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ اهـ.
وفي فروق العسكري:
الفرق بين العبادة والطاعة: أن العبادة غاية الخضوع، ولا تستحق إلا بغاية الإنعام. ولهذا لا يجوز أن يعبد غير الله تعالى، ولا تكون العبادة إلا مع المعرفة بالمعبود. والطاعة: الفعل الواقع على حسب ما أراده المريد متى كان المريد أعلى رتبة ممن يفعل ذلك، وتكون للخالق والمخلوق، والعبادة لا تكون إلا للخالق. اهـ.
وقال العلامة ابن القيم في مدارج السالكين (1/40):
العبادة تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل والخضوع.
والعرب تقول: طريق معبد، أي مذلل. والتعبد: التذلل والخضوع. فمن أحببته ولم تكن خاضعاً له؛ لم تكن عابداً له. ومن خضعت له بلا محبة، لم تكن عابداً له، حتى تكون محباً خاضعاً، ومن ههنا كان المنكرون محبة العباد لربهم منكرين حقيقة العبودية، والمنكرون لكونه محبوباً لهم، بل هو غاية مطلوبهم، ووجهه الأعلى نهاية بغيتهم: منكرين كونه إلهاً، وأن أقروا بكونه رب العالمين وخالقاً لهم، فهذا غاية توحيدهم، وهو توحيد الربوبية الذي اعترف به مشركو العرب، ولم يخرجوا به من الشرك، كما قال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [الزخرف: 87]، وقال: ﴿ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ﴾[2] [المؤمنون: 84، 85]، ولهذا يحتج عليهم به على توحيد إلهيته، وأنه لا يعبد غيره، كما أنه لا خالق غيره ولا رب سواه.اهـ.
وقال مصححه السيد رشيد رضا (رحمه الله) معلقاً على ما ذكر: العبادة: عبارة من الاعتقاد والشعور بأن للمعبود سلطة غيبية فوق الأسباب، يقدر بها على النفع والضر. فكل دعاء أو ثناء أو تعظيم يصاحبه هذا الاعتقاد والشعور فهو عبادة.اهـ.
﴿ الذي خلقكم ﴾:
أبدعكم وأنشأكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ * وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ * فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ * وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴾ [المؤمنون: 12-22].
وقال تعالى: ﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ [السجدة: 7- 9]، وهذا المعنى في القرآن أكثر من أن يحصى.
وكل ذلك يقول الله للناس: كيف تعبدون وتذلون وتخضعون وتفزعون وتلجئون وتدعون في شدة وكرب وعسر ويسر، وتسألون حاجتكم من تعلمون أنه لا يخلق ولا يرزق، بل هو مخلوق مربوب ذليل معبد لخالقكم وخالق من قبلكم وخالق كل شيء ومسخر لكم؛ بل هو ميت لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً: ﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ فأخلصوا لله وحده العبادة واكفروا بكل ما يعبد من دونه: من إنسان أو ملك أو كوكب، أو شجر، أو حجر، أخلصوا لله وحده الدين- ألا لله الدين القيم-: ﴿ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [الروم: 31- 32]، واكفروا بالجبت والطاغوت: الذي يصرف عن عبادة الله، وعن طاعة الله وحده: من كل كتاب، أو إنسان، أو شيء يصدكم عن الله وعن إخلاص الدين والطاعة له وحده: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾، و«التقوى» اتخاذ ما يقيك ويجنبك ويحفظك من كل ما تخاف وتكره، وأخوف ما يخافه العاقل ويكرهه ويتحفظ منه بكل ما يقدر: غضب الله وسخطه، الذي يعقبه كل مخاوف الدنيا ومكارهها، وكل مخاوف الآخرة وأهوالها ومضايقها وأحزانها الدائمة.
ألا وإنه لا وقاية تقي غضب الله وسخطه، وتحفظ من خزي الدنيا وعذاب الآخرة وتقي من شقاء الدنيا وخسران الآخرة، إلا إخلاص الدين لله، وإخلاص الطاعة لله، وإخلاص العبادة بجميع أنواعها: من قلبية، وجسمية ومالية وقولية لله وحده، وإسلام القلب لله وإحسان العمل لله والتجرد لله من كل غير، فلا يتوجه القلب إلا لله وحده، ولا يرغب إلا إليه، ولا يرهب إلا منه، ولا يذكر اللسان ذكر الخشية والرغبة إلا له ولا يضرع إلا إليه، ولا يدعو سواه، ولا تخرج اليد شيئاً من المال إلا تقرباً إليه وحده، ولا تتحرك الجوارح إلا ابتغاء مرضاته وحده، ولا تتقرب إليه إلا بما يحب مما ارتضاه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 123- 124]، ﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْوَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ * وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ﴾.
﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً ﴾:
وقال تعالى في سور نوح: ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجًا ﴾، وقال في سورة النبأ: ﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا ﴾ [النبأ: 6]، وقال في سورة الزخرف: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 10]، وقال في سورة طه: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى ﴾.
قال الراغب الأصبهاني في مفرداته: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً ﴾: أي ذللها ولم يجعلها نائية لا يمكن الاستقرار عليها، وقال: المهد؛ والمهاد: المكان الممهد الموطأ. قال: ﴿ الذي جعل لكم الأرض مهداً ﴾، ﴿ ومهاداً ﴾ وذلك مثل قوله: ﴿ الأَرْضَ فِرَاشاً ﴾، ومهدت لك كذا: هيأته وسويته.
يعني الله أنه تفضل على الناس بأن هيأ لهم الأرض كالفراش الممهد الموطأ، الذي يجد النائم فيه كل راحته، بلا تعب ولا عناء، ليعرفوا لله تعالى فضله في ذلك فيشكروه بإخلاص العبادة وحده؛ لأنه لم يشركه أحد من أوليائهم ومعبوداتهم في تسويتها ولا تمهيدها، وتوفير الراحة عليها، فلا ينبغي أن يشركوا معه في عبادته أحداً.
﴿ وَالسَّمَاءَ بِنَاء ﴾:
قال تعالى في سورة الذاريات: ﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾ [الذاريات: 47] «الأيد» القوة. وقال في سورة ق: ﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ﴾ [ق: 6] «الفروج»: الشقوق والفتوق.
وقال في سورة غافر: ﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [غافر: 64]، وقال في سورة الشمس: ﴿ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ﴾ [الشمس: 5]، وقال في سورة النبأ: ﴿ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ﴾ [النبأ: 12]، يعني الله جل ذكره ؛ أنه هو الذي أحكم بناء السماء وحبكها، وشد بناءها، ﴿ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ﴾ [النازعات: 28، 29]، وقال في سورة فاطر: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [فاطر: 41]، وهو الذي قال لها وللأرض: ﴿ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾، وهو القوي القاهر لهذا العالم العلوي وما فيه، المسخر له، المحكم أمره القابض على زمامه وحده. فهل ينبغي أن يعظم القلب أو يجل، أو يخضع لأحد سواه من العبيد الأذلاء الضعفاء، العاجزين عجزاً ذاتياً، حتى أنهم لأعجز من الذبابة، ومن ذا الذي يسوي هؤلاء الموتى برافع السماء وبانيها، وسامكها وحابكها، وممسكها فيعطيه من العبادة: دعاء ونذراً، وذبحاً ورجاءً، ورغباً ورهباً، ما هو حق القاهر فوق عباده الحكيم الخبير؟! إنه لا يفعل ذلك إلا من حرم نعمة الإدراك وفقد ميزة الإنسانية، فهو كالأنعام بل أضل سبيلاً، فهو يمشي مكباً على وجهه، بل هو ميت حقت عليه كلمة العذاب، مهما زين له الشيطان ذلك بأسماء ما أنزل الله بها سلطان، تخلع بهرجها فينكشف عن حقيقة الشرك الأكبر الذي حرم الله على صاحبه الجنة ومأواه النار، وما للظالمين من أنصار.
﴿ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾:
قال تعالى في سورة البقرة: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 165-167]، وقال تعالى في سورة إبراهيم: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ * وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّار ﴾ [إبراهيم: 28-30]، وقال في سورة سبأ: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [سبأ: 13]، وقال في سورة الزمر: ﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ﴾ [الزمر: 8]، وقال في سورة فصلت: ﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [فصلت: 9].
قال الإمام ابن جرير: الند العدل والمثل، كما قال حسان:
أتهجوه، ولست له بند؟
فشركما لخيركما الفداء
|
يعني بقوله: «ولست له بند»: لست له بمثل ولا عدل، وكل شيء كان نظير الشيء وشبيهاً له فهو ند.اهـ.
ويدل على أن معنى الند العدل قوله تعالى أول سورة الأنعام: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأنعام: 1] أي: يسوون به تعالى غيره ممن لم يخلق سماء ولا أرضاً ولا جعل ظلمات ولا نوراً، ويجعلونه له نداً وشبيهاً في العبادة والطاعة، والمحبة والذل، والخوف والرغبة والرهبة، فيحبونهم كما يحب المؤمن الله، ويدعونهم كما يدعو المؤمن الله، ويستمدون منهم المدد، كما يستمد المؤمن من الله، ويجعلون لهم من أموالهم النذور كما يجعل المؤمن لله، والله هو الأحق بذلك وحده، ولا ينبغي شيء من هذا لغيره، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون وعما يظنون به من ظن السوء: أنه لا يستجيب الدعاء إلا بواسطة أوليائهم الذين اتخذوهم من دونه ليقربوهم إلى الله زلفى، ويقدمون لهم من الحرث والأنعام والنقد والشموع[3]، وغيرها ما لا يليق إلا بالله رب العزة، ويطوفون حول قبورهم والأنصاب التي نصبوها عليها كما يطوف المؤمن حول بيت الله، ويتعلقون بأستار قبورهم رجاء المغفرة والقبول، كما يتعلق المؤمن بأستار بيت الله[4]، ويحجون إلى قبورهم من البلاد الشاسعة كما يحج المؤمن إلى بيت الله، ويتخذون لهم الأعياد- يسمونها موالد- يجتمعون فيها ويحرصون عليها كما يجتمع المؤمنون في مناسك ومشاعر بيت الله، وكل ذلك مضاهاة من أولئك المشركين لأولئك الموتى بالله، واتخاذهم أنداداً مع الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها: ﴿ أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾.
لم يسووهم بالله في خلق ولا رزق ولا إحياء ولا أمانة، ولا أي شيء من صفات الربوبية وخصائصها، بدليل ما قص الله عنهم وما سألهم مقرراً فأجابوا: ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [يونس: 31]، ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [يونس: 18].
وليس يلزم في الندية المماثلة من كل وجه، والمناظرة في كل صفة، بل يكفي فيها التشبيه ولو بوجه واحد، فإنك تقول: فلان ند فلان، إذا كان مماثلاً له في السن فقط، وإن لم يجتمع معه في أي صفة أخرى، من اللون والعقل والعلم، والدين.
وقد روى ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في الأدب المفرد والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس قال: «قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال: جعلتني لله نداً؟ ما شاء الله وحده».
والمشرك شبه أولياءه بالله في أنه جعل لهم من قبله الحب، والذل والخضوع، واعتقاد التأثير الغيبي بدون سبب ظاهر، ودعاهم في شدائده؛ ونذر لهم، وحلف بهم، وكل ذلك تعظيم لا يستحقه إلا الله. فلما أعطاهم ذلك من قلبه ولسانه وجوارحه كان ذلك اتخاذ أنداداً. وإن لم يشبههم به سبحانه في قدرة أو خلق أو إرادة، بلى قد شبه بعض المشركين في زمننا أولياءهم بالله في الملك وعلم الغيب، فزعموا أنهم يتصرفون في الكون، ويعلمون شئونه ويحفظونه، ويدفعون عنه البلاء من الأمراض ونحوها، مما يكون الله قد قضاه؛ ويفتخر بذلك بعضهم فيزعمه مما مُنّ به عليه، وأن مجلسهم الباطني يشير على الله بما يفعل في الخلق من أرزاق وآجال وسعادة وشقاوة، ولم نسمع بشيء من ذلك في جاهلية العرب الأولى. تعالى الله عن كل ذلك علواً كبيراً: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ورضي عنه: العبد يراد به المعبد الذي عبده الله، فذلله ودبره وصرفه، وبهذا الاعتبار فجميع المخلوقين عبيداً لله، من الأبرار والفجار، والمؤمنين والكفار، وأهل الجنة وأهل النار، إذ هو ربهم كلهم ومليكهم، لا يخرجون عن مشيئته وقدره وكلماته التامة التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر؛ فإذا عرف العبد أن الله ربه وخالقه، وأنه مفتقر إليه تعالى ومحتاج إليه عرف عبوديته المتعلقة بربوبيته، وهذا العبد يسأل ربه ويتضرع إليه ويتوكل عليه، لكن قد يطيع أمره وقد يعصيه، وقد يعبده مع ذلك، وقد يعبد الشيطان والأصنام، ومثل هذه العبودية لا تفرق بين أهل الجنة وأهل النار، ولا يصير بها الرجل مؤمناً، قال تعالى: ﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾ [يوسف: 106]، فإن المشركين كانوا يقرون أن الله خالقهم ورازقهم، وهم يعبدون غيره، قال تعالى: ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾، فمن وقف عند هذه الحقيقة من الموحدين أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر دينه وآخرته ولم ينزل به سخط الله، أو يحل عليه غضبه، وله العتبى حتى يرضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.
وكلما قوى طمع العبد في فضل الله ورحمته، ورجاؤه لقضاء حاجته ودفع ضرورته قويت عبوديته لله وغناه مما سواه، فكما أن طمعه في المخلوق قد يوجب عبوديته له؛ ويأسه منه يوجب غنى قلبه عنه، كما قيل: «استغن عمن شئت تكن نظيره وأفضل من شئت تكن أميره. واحتج إلى من شئت تكن أسيره»، فكذلك طمع العبد في ربه ورجاؤه له يوجب عبوديته له، وإعراض قلبه عن الطلب من الله والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية لله، لا سيما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق، بحيث يكون قلبه معتمداً إما على رياسته وجنوده وأتباعه ومماليكه، وإما على أهله وأصدقائه، وإما على أمواله وذخائره، وإما على سادته وكبرائه كمالكه وملكه وشيخه؛ ومخدومه وغيرهم، ممن هو قد مات أو يموت.
قال تعالى: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 58]، وكل من علق قلبه بالمخلوقين: أن ينصروه، أو يرزقوه، أو يهدوه. خضع لهم قلبه وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك.وإن كان في الظاهر أميراً لهم مدبراً لهم، متصرفاً بهم، والعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر، فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له، يبقى قلبه أسيراً لها تحكم فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها لأنه زوجها، وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فالحرية حرية القلب ؛ والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى القلب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس».ومن أعظم هذا البلاء إعراض القلب عن الله، فإن القلب إذ ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له لم يكن شيء قط عنده أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أطيب، والإنسان لا يترك محبوباً إلا بمحبوب آخر يكون أحب إليه، أو خوفاً من مكروه. فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح أو الخوف من الضرر، قال تعالى في نبيه يوسف: ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ [يوسف 24]، فالله يصرف عن عبده ما يسوءه من الميل إلى الصور والتعلق بها ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله، ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية لله والإخلاص له تغلبه نفسه باتباع هواها. فإذا ذاق طعم الإخلاص وقوي في قلبه انقهر هواه بلا علاج، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45]، فإن في الصلاة دفعاً للمكروه، وهو الفحشاء والمنكر، وفيها تحصيل المحبوب وهو ذكر الله، وحصول هذا المحبوب أكبر من دفع المكروه فإن ذكر الله وعبادة القلب لله مقصود لذاتها، فأما اندفاع الشر عنه فهو مقصود بغيره على سبيل التبع.
والقلب فقير بالذل إلى الله من جهتين: من جهة العبادة والعلة الغائبة. ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلية، فالقلب لا يصلح ولا يفلح، ولا يسر ولا يلتذ ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن، إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعيم والسكون، والطمأنينة. وهذا لا يحصل إلا بإعانة الله له. ولا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله. فهو دائماً مفتقر إلى تحقيق: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾. اهـ ببعض الاختصار.
هذا، وليست العبادة تلك الصورة الظاهرة، والحركات الميكانيكية، والأعمال التقليدية، فإنها كلها ميتة لا تحقق معنى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾، بل طالما كانت شراً على أهلها المرائين المخادعين الكاذبين، اتخذوها شبكة لصيد مآرب الدنيا، وحبلاً يحتطبون فيه حطامها الفاني، وصرفت القلوب عن خوف الله وخشيته وطال عليها الأمد فقست وكثير منهم فاسقون خارجون على الله وعلى شرائعه، وعلى حدوده.
العبادة:
تعبيد الروح والقلب لله، وامتزاج ذلك بكل ذرة، وكل عمل وكل خلق وكل حال. ومن كان كذلك كان من عباد الله المخلصين.
وبعد أن يسأل الشيخ حامد رحمه الله الناس قائلاً: كيف تعبدون وتذلون وتخضعون وتفزعون وتلجئون وتدعون في الشدة والكرب والعسر واليسر، وتسألون حاجتكم ممن تعلمون أنه لا يخلق ولا يرزق، بل هو ميت لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً. نراه يقول[5]:
ويجعل السادة المستكبرون والأتباع المستضعفون مما رزقهم الله حظاً ونصيباً- كل بحسبه- للموتى الذين لا يعلمون عن أحوالهم في القبور شيئاً، وذلك الجعل ناتج عن أنهم يقلدون الآباء والشيوخ، ويتبعون الأهواء والشهوات والظنون التي لا تغني من الحق شيئاً، فيعتقدون عقائد وثنية، ويجمعون في رءوسهم خرافات وأباطيل وأوهاماً وتقاليد جاهلية، تجتمع رواسبها وتتكاثر، حتى يكون من نتائجها – ولا بد - أن يعبدوا الموتى، وأنصابهم ويتقربوا إليهم بتقديم القرابين المالية، من الحرث والأنعام والنقود، يبذلونها بطيب نفس باسمهم، وابتغاء المدد منهم، في موالدهم وأعيادهم، وفي صناديق النذور المخصصة عند الأصنام المقامة على القبور الحقيقية، أو المزعومة، وشئون الموتى في قبورهم وحياتهم البرزخية مجهولة للإنسان بأصل الفطرة؛ لأنه لا سبيل لأي حاسة من حواسه إلى علم هذه الشئون، فقد حيل بين الحياة الأولى والحياة الثانية في القبر- للمؤمنين والكافرين- ببرزخ يحجب بين أهل الحياتين حجباً يستحيل على الحواس البشرية أن تخترقه وتتجاوزه. وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم ببعض شئون المقبورين: لم يكن بحواسه البشرية، وإنما كان بالوحي.
فلا يُقاس عليه أحد مطلقاً، ومن ادعى ذلك: فهو إما واهم مخدوع، أو دجال كاذب، وسنن الله لا تتبدل.
والمعجزة للأنبياء من سنن الله، وقيام الحجاب الحائل حيلولة كلية تامة بين الحياتين: من رحمة الله بأهل الحياتين ؛ فإن أهل الحياة الدنيا لو علموا ما يلاقيه الموتى في القبور ما طابت لهم حياة في الأولى، ولا هنأ لهم عيش فيها، ولو أن المقبورين علموا كل ما يعلمه الأحياء وما يدينون به: لم ينعم الأنبياء والمؤمنون في قبورهم، لما تتابع فيه آلهم والمنتمون لهم من جاهلية، وكفر وفسوق وعصيان، ومحادة لله ولهم. وذلك لا يتفق مع رحمة الله وحكمته وعدله. وما أوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك إلا ما يكفي لموعظتنا وإيقاظنا من غفلتنا، وتحذيرنا من الافتتان بزينة الحياة الدنيا. ولكن أكثر الناس غرقوا في بحار الغرور والغفلة والجاهلية فخاضوا في ظلمات الهوى والجهل في عالم الأرواح الذي هو من خصائص الربوبية ولا سبيل للعقل مطلقاً إليه[6]. فزين لهم الشيطان أن يفتروا على الله الكذب، وأن يقولوا على الله وفي الله ما ليس لهم به علم، فضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل، حتى أوحى إليهم الشيطان -في غمرة هذه الجاهلية- أن يعبدوا الموتى، الذين لا يعلمون من شئونهم شيئاً، بأنواع العبادات القلبية في العقائد، والجسمية بالطواف والتمسح والأسفار وشد الرحال، والمالية في الموالد وصناديق النذور، والحبوس والأوقاف، زاعمين أنهم وسطاؤهم عند الله، يستخدمونهم ويرشونهم بتلك الأموال، ليقوموا بهذه الوساطات، وسبحان الله وتعالى، وبرأ الله أولياءه: ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ﴾ من هذه الوثنية الجاهلية.
و«النصيب» القسم المعين. قل أو كثر ؛ لأن الوثنيين يتفاوتون فيما يجعلون لآلهتهم الموتى، فمقل ومكثر.
و«الرزق» العطاء الجاري الذي يقصد به النفع للمرزوق، سواء كان عيناً - كالنقد والطعام والشراب، واللباس والأنعام، والأبناء وغيرها- أو كان نفعاً، كالمعرفة والصحة والقوة والزمن، وأشباهها، ولقد جعلوا لآلهتهم الموتى نصيباً من كل ذلك. فهم يبذلون كل وسائل المعرفة في الترويج لعبادة هؤلاء الآلهة، وإغراء الجماهير بالحرص عليها، وشدة الاستمساك ببيوت عنكبوتها، وهم ينفقون في ذلك الصحة والقوة والزمن، وهم يخصصون لعبادتها بالموالد والأعياد- أياماً وألواناً من الطعام والأعمال الكثيرة مما رزقهم الله وحده، وأعطاهم إياه من آثار تجليات أسمائه وصفاته، والموتى لا يقدرون على إعطاء ولا أخذ؛ فالموت قد حال بينهم وبين العمل والسعي في مناكب الأرض لاكتساب الرزق أو بذله، وجوارحهم قد أتى عليها البلى وعادات تراباً، فليس لهم أيد يبطشون بها، ولا أرجل يمشون بها، ولا أعين يبصرون بها، ولا آذان يسمعون بها، كما قال الله عنهم، وقوله الحق وقول عبيد الهوى والظنون والشهوات، بل عبيد الشيطان: أبطل الباطل، وهم كذلك لا يستطيعون أن يأخذوا من قرابينهم المالية شيئاً؛ لتعطل الأيدي والأفواه والبطون بالموت والبِلَى. وما يوحي به شياطين الإنس والجن لترويج سوق الجبت والطاغوت، إذ يغررون بأنفسهم وبالدهماء بزخرف القول: إن النذور ينتفع بها العاكفون حول هذه الأوثان، وثوابها للولي الميت، فما أبين الباطل فيه، وما أبعده عن الهدى، لو كانوا يعقلون ويعلمون؛ فإن السبيل إلى ثواب الآخرة لن يدل عليه إلا الله أو رسوله، ولن يجدوا في كتاب الله ولا عن الرسول صلى الله عليه وسلم حرفاً يسند باطلهم هذا، إلا إذا حرفوا القول عن موضعه، وزاغوا به عن مقصده. ثم إنهم يعتقدون أن أولياءهم أقرب إلى الله منهم- ولذلك اتخذوهم وسائط – فهم بذلك قد بلغوا بهم إلى درجة لا يحتاجون معها إلى زيادة، فهل يصح في عقل عاقل: أن يعطي الفقير المحتاج الغني الذي ليس به حاجة إلى العطاء؟ لقد أعماهم التقليد وأصمهم فهم ينعقون بما لا يفقون؛ لأنهم صم بكم عمي لا يعقلون: ﴿ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴾ [الأنعام: 121]، وما أولياء الشياطين إلا سدنة تلك الأوثان الذين يتخذون منها فعلاً ومتجراً يعيشون به مترفين كلا على الطغام وأشباه الأنعام الذين لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، فيندفعون مخدوعين بالأماني الكاذبة، والجاهلية العمياء في غواية وأهواء أولياء الشيطان الغواة المضللين.
﴿ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ﴾ [النحل: 56]:
يتهدد الله السادة - من أولياء الشيطان المضللين بزخرف القول غروراً، والأتباع من الطغام أشباه الأنعام - بهذا التهديد الشديد، المؤكد بالقسم باسمه «الله» الدال على ذاته العلية، المتصفة بجميع الصفات، ومنها: القوي العزيز، المنتقم الجبار القاهر فوق عباده الحكيم الخبير- والمؤكد باللام وبنون التوكيد الثقيلة ﴿ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ ﴾ أي: ليوقفنكم الله موقف السؤال الرهيب الشديد، وليناقشنكم الحساب العسير.
ليسألن التابعين عن جاهليتهم وتقليدهم الأعمى، وإعراضهم عن آيات الله في أنفسهم وفي الآفاق، وعن آياته القرآنية، وعن هدى رسوله، حتى نقضوا- بغباء وبلادة قبيحة – حبل رسالته من قلوبهم، في حين تلوك ألسنتهم في غفلة وجهالة: «أشهد أن محمداً رسول الله»، فلا يفكرون في معناها، ولا يخطر على قلوبهم مقتضاها، فباءوا بأعظم خيبة وخسران: بتقليد الخونة من أولياء الشيطان ؛ والإعراض عن هداية الرحمن.
وليسألن السادة من أولياء الشيطان عما افترت وروجت ألسنتهم وأقلامهم من الزور والبهتان، والشرك والوثنية، باسم حب الرسول وآل الرسول، وبرّأ الله الرسول وآله صلى الله عليه وسلم وعليهم مما أفك أولياء الشيطان في شعرهم ونثرهم، وما حب الرسول وآله إلا بمعرفته من كتاب الله وحديثه، وسيرته الخالية من الخرافات والغلو الباغي، ومعرفة رسالته التي ميزه الله بها عن جميع البشر، والتي تقوم على سورتي الإخلاص: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴾ و﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ وهما تناديان بأصرح بيان لكل إنسان: اعرف الله بأسمائه وصفاته، من آياته الكونية في نفسك وفي الآفاق، من آياته القرآنية التي أنزلها ليعرفك بنفسه، ويصل حبل قلبك به سبحانه، فإذا عرفته هذه المعرفة برئت وطهرت قلبك من كل معبود ومألوه غيره، مهما كان مؤلهوه وعابدوه، وتحريت بكل يقظة وحذر أن لا تعبده إلا بما شرع فلا تعبده بالهوى والتقليد والجهل والآراء، فتكون من الضالين: ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾ [القصص: 50]؟ هذه هي محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا هو تعظيم رسول الله: بالعلم والإيمان، والطاعة بالعمل الصالح والإحسان.
ولما كان للهدى والإيمان الصادق والعمل الصالح أسباب ومقدمات تؤدي إليهما هي المعرفة الصادقة لنعم الله في الإنسان وعليه شكرها بحسن الانتفاع بها، وأهمها: الإنسانية الكريمة- وهي العاقلة المفكرة- والتأمل العميق في آياته الكونية في الأنفس والآفاق، والتدبر الصحيح لآيات القرآن، وبيان الرسول صلى الله عليه وسلم فيعرف كل شيء على حقيقته، ويضع نفسه وكل شيء من عطاء ربه في موضعه اللائق بحقيقته، ويعطي كل ذي حق حقه، فيعطي الرب حقه من الطاعة والعبادة، ويعطي الرسول صلى الله عليه وسلم حقه من الطاعة والاتباع، مؤمناً أنه بشر مثله- كان كذلك للضلال والشرك والفسوق والعصيان أسباب ومقدمات تؤدي إليها ولا بد- هي نقائض أسباب الإيمان والهدى وأضدادها – وكل هذه الأسباب وتلك مهيأة لكل إنسان: بما جُبل عليه من الطبائع، والخلق الحسي والمعنوي أن يأخذ به، فينتهي إلى غايته، ويبلغ إلى عاقبته، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 2، 3]، وفي الحديث: «كل ميسر لما خلق له»، فلذلك كان أهم ما يُعْنَى به الرب الرحمن الرحيم: الإنسانية الكريمة، فعلم آدم الأسماء كلها، ويسر لبنيه كل أسباب العلم النافع، والعقيدة الصحيحة، والعمل الصالح، وأرسل رسله في كل أمة وجماعة من بني آدم، وفي كل فترة من الزمان، يبشرون وينذرون، ويبذلون كل ما يمدهم به ربهم من مدد السماء والأرض، في إيقاظ هذه الإنسانية الكريمة من غفلتها، وبعثها من مرقدها، لتشهد آيات ربها الكونية، وآياته العلمية، وتعرف ربها ونعمه عليها، فتقدرها حق قدرها، وتشكرها بحسن الانتفاع بها، فتسلم وجهها وعملها لله الواحد القهار وتستقيم على هدي شرعه الحكيم، الذي أنزله هدى للناس وفرقاناً، وبياناً واضحاً وشفاءً لما في الصدور من الأهواء والشهوات والشبهات ووساوس الشيطان فيطيب عيشها، وتأمن من مخاوفها، وتسعد في الأولى والأخرى.
وكذلك كان أهم ما يعني به إبليس عدو الله وعدو الإنسان: هو هذه الإنسانية الكريمة فيعمل جاهداً على تحذيرها بسمومه، وصرفها عن معناها الكريم، ثم تحويلها عن صراط الله المستقيم شيئاً فشيئاً، حتى يدسها في أكفان الغفلة، والإعراض عن آيات ربها، فيقيدها بأغلال التقليد الأعمى، ثم يقيم فيها الطواغيت المعبودة والمطاعة، ويوحي على ألسنتها ما يزيد في غوايتها وارتكاسها، ويدفعها في بيداء الضلالة حتى يصل بها إلى الغاية التي سجلها الله على لسان هذا العدو المبين، وحذرنا منها أشد التحذير: ﴿ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 16- 17]، وما صراط الله المستقيم: إلا أن يعرف العبد نفسه، أنه مخلوق من تراب، ثم من ماء مهين، وأن البشر من بني آدم جميعاً كذلك، وأن الضعف والفقر المطلق، والعجز التام، لوازم ذاتية لهم جميعاً بالفطرة، التي يستحيل كل الاستحالة عليهم أن يتخلوا عنها. ويعرف أن ربه هو الله الأحد الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في تدبيره وتشريعه، وأن نسبة الجميع إليه واحدة: عبيد مخلوقون من تراب ثم من نطفة، ورب خالق: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، هو الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، هو الرزاق ذو القوة المتين، هو رب العالمين الرحمن الرحيم، هو الذي يصطفي من الخلق ما يشاء، ومن يشاء: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 33]، هو الذي يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير، فكما يرزقهم وحده لأجسامهم- من الهواء والطعام والماء واللباس وغيرها- ما يمدها بالحياة والقوة إلى أجل مسمى، كذلك وحده الذي يعطي نفوسهم وعقولهم الإنسانية – من الدين والشرائع والعقائد والعبادات والأحكام، والآداب والأخلاق- ما يمدها بالحياة والقوة والصلاح والاستقامة والحكمة والرشد والأمن والسلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى صراط مستقيم.
وما دام الإنسان حريصاً في أشد اليقظة، على تحري الاستقامة في خطوات سيره في حياته وشئونه كلها على هذا الصراط المستقيم على بصيرة ويقظة: فهو على نور من ربه، وهو منتصر على الشيطان العدو المضل المبين.
لكن الشيطان يزين للإنسان أن يعني ببهيميته ويهتم لها، ويوحي إليه ما يعتقده قواعد لا تنقض- مثل «العقل السليم في الجسم السليم» وأشباهها- فيوغل في الاهتمام والعناية بجسمه الحيواني- الذي هو قشره وغلافه – حتى يجعل كل سعيه في تحصيل ما يغذيه ويقويه وينسى روح الإنسانية الكريمة- التي هي لبه ومعناه وحقيقته- فإذا عقل فبعقل الحيوان، وإذا حصل فللحيوان، حتى يصير أشد افتراساً من وحوش الحيوان البهيم، كما هو شأن الناس اليوم في حروبهم وأحقادهم، ثم لا يقف به عند شفير هذه الهاوية، بل يدفعه إلى هاوية أعمق منها وأبعد في الشقاء والهلاك، فيوحي إليه بعقيدة أخرى يمرغه بها في حمأة الكفر الشنيع، وهي «الله عرفناه بالعقل» أي بعقل وهوى هذا الوحش المفترس في مسلاخ إنسان باغ معتد، فيمتطيه ويجري به في ظلمات بهيميته المتوحشة- وقد سمى له ذلك الوحي الشيطاني فلسفة، وتعمقاً في طلب الحقائق، وإعزازاً للعقل وتكريماً له- ولا يزال يمد له في الحبل، ويهمزه في جنبيه، حتى يصل به إلى ما يسميه «الحقيقة» وهي الأوهام المظلمة الكاذبة، وهي أن ربه: هو المادة الأولى، التي تولد منها كل الحقائق، وتفرع عنها كل الموجودات، مثله كمثل «النواة» تولدت منها النخلة وخرج منها الجذع والسعف والليف والسباطة والعراجين والثمر، من هذا الثمر الجيد والشيص، فإذا ما بلغ به إلى هذا الدرك، انحدر به إلى أسفل، فأوحى إليه: أن هذا الثمر الجيد إنما هو أولياءه من الشيوخ والسادة المتبوعين ومن تناسل منهم وهم العترة الطاهرة والسلالة المقدسة، وهم أهل الله، وهم النور الذي انبثق من الرب سبحانه، فلهم بذلك حق التقديس والتأليه، هم وأبناءهم وبناتهم، وأن العامة والجماهير هم السعف والليف، والشيص ورديء الثمر، ثم يقيم حولهم الأسوار الوهمية.
وقد بلغ من سخفهم وغبائهم أن صاروا أضل من الأنعام سبيلاً - وقد راج عندهم ما أوحي به في ظلمات جاهليتهم وتقاليدهم العمياء، من ضرب المثل لربهم بالرؤساء والكبراء، لا تقضي الحوائج منهم إلا بالوسائط والشفعاء من ذويهم وآلهم. فيروج عليهم ضرب أمثال لله بأنفسهم، فيوحي إليهم أن الملائكة بنات الله، كما أن بنات السادة والشيوخ المقدسين بنات الله؛ لأن الله رحيم. ومن لوازم الرحمة: العطف على الجنس الضعيف، فآية رحمته: أن كل ملائكته إناث، فإن عنوان الشفقة فيكم: هو العطف على الإناث لأنهن الجنس الضعيف، سبحان ربنا وتعالى عما أوحي به الشيطان إلى أولئك الوثنيين- قديماً وحديثاً- علواً كبيراً.
قال ربنا جل ثناؤه: ﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ ﴾ [النحل: 57].
وكتبه فقير عفو الله ورحمته
محمد حامد الفقي
[1] مجلة الهدي النبوي – ربيع أول – سنة (1358هـ).
[2] والآيات بعدها كذلك سؤال للمشركين وتقرير لهم عن رب السماوات السبع، رب العرش العظيم، من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه وختمها كلها «سيقولون لله».
[3] عدا الشموع فإن إيقادها لغير ضرورة من عبادات المجوس عباد النيران. (وذكره الشيخ على سبيل المضاهاة).
[4] التعلق بكسوة وأستار الكعبة أو الالتصاق بها لم يثبت لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه – رضي الله عنهم - أنه فعل ذلك، فكل ذلك من البدع التي أحدثها الناس. راجع فتاوى ابن باز رحمه الله «الحج والعمرة على الكتاب والسنة».
[5] وذلك في معرض تفسير قوله تعالى: ﴿ وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ﴾ [النحل:56].
[6] إلا ما جاء به النص الصحيح الصريح.
موقع الألوكة
تم النشر يوم
السبت، 22 نوفمبر 2014 ' الساعة