سددوا وقاربوا
الحمد لله على نعمه الكاملة، ومراحمه الشاملة، وعواطفه التي أضحت بها بدور الإسلام بازغة غير آفلة، ومواهبه التي تجول وتجود وتحيي رميم الآمال في يومها بعد رمسها بأمسها، في أضيق اللحود، ويقرّ لها بالفضل كل جحود. أحمده حمداً يعيد سالف النعم، ويفيد آنف الكرم، الذي خص وعم. ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة نؤدي حقوقها، ونجتنب عقوقها. ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، المبعوث بمكارم الأخلاق، والموصوف بالعلم والحلم على الإطلاق، صلاة لا تزال عقودها حسنة الأنساق، ونسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:
عباد الله: يقول -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ)[1]
وفي رواية للبخاري: (لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ) قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ، سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاغْدُوا وَرُوحُوا وَشَيْءٌ مِنْ الدُّلْجَةِ، وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا)[2]
وفي رواية لمسلم: (سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وابشروا فَإِنَّهُ لَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ أَحَدًا عَمَلُهُ) قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَبَّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ)[3] "فإن المشروع المأمور به الذي يحبه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- هو الاقتصاد في العبادة" "فمتى كانت العبادة توجب له ضرراً يمنعه عن فعل واجب أنفع له منها، كانت محرمة، مثل أن يصوم صوما يضعفه عن الكسب الواجب أو يمنعه عن العمل أو الفهم الواجب، أو يمنعه عن الجهاد الواجب. وكذلك إذا كانت توقعه في محل محرم لا يقاوم مفسدته مصلحتها، مثل أن يخرج ماله كله، ثم يستشرف إلى أموال الناس ويسألهم. وأما إن أضعفته عما هو أصلح منها، وأوقعته في مكروهات، فإنها مكروهة"[4].
عباد الله: أن أحب الأعمال إلى الله ما كان على وجه السداد والاقتصاد والتيسير، دون ما كان على وجه التكلف والاجتهاد والتعسير. وقال ابن رجب - رحمه الله - في معنى: (سددوا وقاربوا): المراد بالتسديد: العمل بالسداد، وهو القصد، والتوسط في العبادة فلا يقصر فيما أمر به، ولا يتحمل منها ما لا يطيقه. و في معنى قوله -صلى الله عليه وسلم- (وابشروا) "يعني أن من مشى في طاعة الله على التسديد والمقاربة فليبشر، فإنه يصل ويسبق الدائب المجتهد في الأعمال. فإن طريق الاقتصاد والمقاربة أفضل من غيرها، فمن سلكها فليبشر بالوصول، فإن الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في غيرها. وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- فمن سلك طريقه كان أقرب إلى الله من غيره. وليست الفضائل بكثرة الأعمال البدنية، لكن بكونها خالصة لله - عز وجل - صواباً على متابعة السنة، وبكثرة معارف القلوب وأعمالها. فمن كان بالله أعلم وبدينه وأحكامه وشرائعه وله أخوف وأحب وأرجى فهو أفضل ممن ليس كذلك، وإن كان أكثر منه عملاً بالجوارح"[5].
وقد ثبت في الصحيح عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: آخَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا فَقَالَ: كُلْ، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَان: قُمْ الْآنَ، فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (صَدَقَ سَلْمَانُ)[6]. فينبغي مراعاة الواجبات والموازنة بينها وأن لا يجتهد المؤمن في جانب ويترك جوانب أخرى من الواجبات التي عليه. وليعلم المؤمن أن المشقة ليست مقصودة في التكليف كما قرره علماء الأصول من أهـل السنة، بل الأصل هو رفع الحرج والعنت عن الناس. فليس لأحد أن يقصد المشقة طالباً بذلك الأجر. "والمشقة ليس للمكلف أن يقصدها في التكليف نظراً إلى عظم أجرها، وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل". " فإذا كان مقصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد الشارع، من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل". " ومما ينبغي أن يعرف أن الله ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس وحملها على المشاق، حتى يكون العمل كلما كان أشق كان أفضل، كما يحسب كثير من الجهال أن الأجر على قدر المشقة، في كل شيء، لا ! ولكن الأجر على قدر منفعة العمل، ومصلحته، وفائدته، وعلى قدر طاعة أمر الله ورسوله. فأي العملين كان أحسن، وصاحبه أطوع، وأتبع، كان أفضل. فإن الأعمال لا تتفاضل بالكثرة، وإنما تتفاضل بما يحصل في القلوب حال العمل"[7].
وهذه الأمور لا تدرك إلا بالعلم وطلبه، ولذلك ورد في حديث عائشة السابق: (واعلموا) وهو إشارة إلى أهمية العلم النافع الذي يثمر العمل الصالح المقبول. نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-. وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه المترادف المتوال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أضاءت أوصافه الحسنى إضاءة اللآل، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أولي الهمم العوال، صلاة وسلاماً دائمين ما دامت الأيام والليال.
أما بعــد: أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله - عز وجل - فاتقوا الله رحمكم الله.
ومع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أشد الناس اجتهاداً في العبادة إلا أنه كان يقول: (خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يملُّ حتى تملُّوا، وأحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل) [8] وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا عَمِل عملاً أثبته[9] . وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى صلاة داوم عليه [10]. وقد تقالَّ عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم- نفر من أصحابه -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: وأين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم- ؟ وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال بعضهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبدًا، وقال بعضهم: أنا أصوم ولا أفطر، وقال بعضهم: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، وقال بعضهم: لا آكل اللحم. فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فجاء إليهم فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم الله أتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)[11].
والمراد بالسنة الهدي والطريقة لا التي تقابل الفرض، والرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره. " ثم ختم ذلك بأن المداومة على عمل من أعمال البر ولو كان مفضولاً أحب إلى الله من عمل يكون أعظم أجراً لكن ليس فيه مداومة". وقوله: (واكلفوا من الأعمال ما تطيقون): (ما تطيقون) أي قدر طاقتكم، والحاصل أنه أمر بالجد في العبادة والإبلاغ بها إلى حد النهاية، لكن بقيد ما لا تقع معه المشقة المفضية إلى السآمة والملال".
أيها المسلمون: وأوضح من ذلك وأبلغ إرشاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما إذ قال له: (يا عبد الله بن عمرو! إن لكل عابد شِرة، ولكل شِرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي أفلح، ومن كانت فترته إلى بدعة خاب وخسر)[12] . وقال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان، إما إلى تفريط وإما إلى مجاوزة، ولا يبالي بأيهما ظفر، زيادة أو نقصاناً.
أيها الإخوة: الأمر خطير فبعض الناس قد لا يفوته علم أو عبادة، ولكن يفوته التوفيق والصواب، استقامة في اقتصاد، وعمل بعد علم، وإخلاص في القلب، ومتابعة للسنة، اقتصاد يعصم عن بدعة التفريط والإضاعة، ويحفظ من حد الغلو والإسراف والمجاوزة. فاتقوا الله رحمكم الله، واستقيموا إلى ربكم واستغفروه. اللهم يا رب الأرباب، ويا مسبب الأسباب، ويا أرحم الراحمين، نسألك أن تعيذنا من النار، اللهم أعذنا من النار، واجعلنا ممن يكرم في روضات الجنات. عباد الله: صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[الأحزاب:56] ويقول - صلى الله عليه وسلم - :(من صلى عليَّ صلاة واحدةً، صلى الله عليه بها عشراً)[13].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
-------------------------------
1- صحيح البخاري - (ج 1 / ص 69 - 38)
2- صحيح البخاري - (ج 20 / ص 99 - 5982)
3- صحيح مسلم - (ج 13 / ص 438 - 5043)
4- مجموع الفتاوى جزء 25 - صفحة 273
5- فتح الباري لابن رجب - (ج 1 / ص 77)
6- صحيح البخاري - (ج 7 / ص 76 - 1832)
7- الموافقات للشاطبي جزء 2 - صفحة 129
8- صحيح البخاري - (ج 18 / ص 200)
9- صحيح مسلم - (ج 4 / ص 106)
10- صحيح البخاري - (ج 7 / ص 79) وصحيح مسلم - (ج 4 / ص 284 - 1378)
11- صحيح البخاري - (ج 15 / ص 493 - 4675) وصحيح مسلم - (ج 7 / ص 175 - 2487)
12- مسند أحمد - (ج 13 / ص 291) و وهو صحيح كما في صحيح الترغيب والترهيب - (ج 1 / ص 13).
13- صحيح مسلم - (ج 2 / ص 327 - 577 )
موقع إمام المسجد
تم النشر يوم
الأربعاء، 11 فبراير 2015 ' الساعة