صديقي الصالح .. أنت مشروعي
أميرة محمود عبدالله
الطفل الرضيع يتجاوب مع من يداعبه - والديه أو من يعتني به - بمناغاة تشبه زقزقة الطيور، ثم يبدأ بالتعرف على وجوه المقربين، ويميل للبعض منهم، ويطير فرحًا برؤيتهم، وسرعان ما ينمو، ويلتقي بالأقران من إخوة، وأقارب، وجيران؛ فتتعالى الصيحات والضحكات؛ تعبيرًا عن سعادته بصداقته الجديدة، بعد صداقة الوالدين والمقربين كمن وجد ضالته المنشودة.
تتسع دائرة معارفه، لتشمل الجيران، وأبناء الحي، وطلاب الصف والمدرسة، وما ذلك إلا لكون الإنسان مدنيًّا بطبعه؛ كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى؛ فهو لا يستطيع العيش وحده.
يتأثر الطفل بأصدقائه كثيرًا، ويبدو ذلك من خلال السلوك والكلام - سلبًا أو إيجابًا - فمن باب المسؤولية، ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((كلكم راعٍ، ومسؤول عن رعيته)) - فلا بد للأهل من متابعة الأبناء، ومساعدتهم في اختيار أصدقائهم، وتحذيرهم من رفقاء السوء؛ حمايةً لهم من الانحراف، كما لا يخفى دور المربي في توجيه النصح والإرشاد لتلاميذه كذلك.
من أساليب الدعوة إلى الله عز وجل ضرب الأمثال؛ فقد ضرب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مثلاً لتأثير الرفقة والمجالسة على الفكر والسلوك في حياة الإنسان، وذلك فيما يرويه الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير؛ فحامل المسك إما أن يُحذِيَك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحًا خبيثةً))؛ متفق عليه.
يحذيك: يعطيك.
نافخ الكير: الحدَّاد الذي يصهر الحديد، وينفخه؛ فيتطاير الشرر.
بائع المسك تفوح منه رائحة عطرة بمجرد الاقتراب منه، وقد يضع لنا بعض الطيب على أيدينا، أو يهدينا؛ فتبقى رائحة العطر فواحة، وربما أعجبنا بالرائحة إعجابًا شديدًا فابتعْنا منه؛ هكذا هو حال المرء عندما يلتقي بالمؤمن التقيِّ الورع الذي توافق أقواله أعماله؛ فتعجبه أخلاقه، وعند الاقتراب منه يتأثر بأقواله وأفعاله، فكيف إذا اتخذه صديقًا له؟ لا بد وأن النفع سيكون أكبر بكثير.
الصديق الصالح كحامل المسك؛ يدل صديقه على الطاعات، بل ويأخذ بيد صديقه إليها، فإن أحسَّ من صديقه نشاطًا شاركه، وإن رأى منه فتورًا ذكره، أمينٌ لا يفشي الأسرار، يحفظ غيبة صديقه، سندٌ له في الملمات، يقدم العون ما أمكنه، ويصبر عليه إن استدان منه، أمينٌ في النصح، لا يسكت على تقصير رآه من صديقه تجاه والديه أو الأرحام - مثلاً - فتراه يذكِّره دائمًا بضرورة البر والإحسان، وصلة الأرحام، يحثُّه على التفوق في التحصيل العلمي؛ لخدمة دينه وأمته، مؤنسٌ له في وحدته، ومُواسٍ له عند مصيبته، باعثٌ فيه الأمل.
من كانت هذه صفاته، فنعم الصداقة صداقته؛ فهو كما قال ابن القيم: كالغذاء الذي لا بد منه.
أما نافخ الكير: فتنبعث رائحة كريهة من صهره للحديد، تؤذي عند الاقتراب منها، وقد يُلحق الشرر المتطاير ضررًا بثياب من يقترب أكثر فيحرقها.
الصديق السيئ هو من يبعد صديقه عن طاعة ربه، ويزين له المعاصي: كترك الصلاة، وعقوق الوالدين، يشجعه على التقصير في التحصيل العلمي، مما يسبب له الجهل فيسهل اصطياده من قِبَل لصوص العقل والدين - تجار المخدرات مثلاً - فيكون قد ألحق به الضرر دنيا ودينًا.
وعندما تكون صحبته لمنفعة دنيوية يختفي فور حصوله عليها، فبئس الصديق الذي تكون هذه صفاته؛ فهو كالداء يجب الحذر أو الفرار منه.
هناك صداقات من نوع مختلف، صداقة آلات نسمع من خلالها أصواتًا، ونرى صورًا، فالمذياع مثلاً كان أهم وسيلة من وسائل التواصل مع العالم وله شهرته، ثم تسلل الرائي (التلفاز) إلى البيوت، ولا ينكر أحدٌ أهميتهما ونفعهما؛ فهما يقدمان ما يرضي جميع الأذواق، ولجميع الأعمار؛ فهناك برامج: دينية، وثقافية، ورياضية، وعلمية، وتعليمية، بالإضافة للمسلسلات والأغاني، فكان ارتباط الأفراد بهاتين الوسيلتين كارتباط الأصدقاء.
نعيش الآن في عصر الفضائيات، والكثير منها متخصصة في مجال واحد منها ما يقتصر مثلاً على بث العلم الديني، وأخرى للأخبار، وبعضها للطب، وأخرى للطهو، وبعضها يهتم بالتكنولوجيا، ومنها ما يبث الفنون، وأخرى للمجون إلى غير ذلك من التخصصات.
الناس مختلفون في ميولهم؛ فالبعض يعجب بعلماء الدين، والبعض بالمذيعين، وهناك من يعجب بفئة من الناس تخصصوا في تزيين المعاصي والآثام، وانخلعوا من كل ما يمتُّ إلى الدين والعادات بصلة، فأفسَدوا الشباب؛ حتى أصبحنا نرى من يقتدي بهم، ويقلدهم في اللباس والأقوال والأفعال، ويهتمون بمتابعة أخبارهم، كأنهم أحد أفراد أسرتهم - إن لم يكن أكثر - متناسين أن ذلك كله ما هو إلا بريق أنى لهم أن يكون كالنجوم؟
الخطورة تكمن في أن هؤلاء الذين يدعون النجوم! كانوا لمحبيهم أصدقاء سوء؛ أضعفوا عزائمهم وهممهم، وغيبوا عقولهم عن التفكير، ثم سخروا منهم، فكان دورهم كالشياطين.
الكمبيوتر والهواتف الذكية أهم صديقين حاليًّا لمختلف الأعمار؛ حيث أصبح العالم وكأنه بين أيدينا، والمرء يتواصل مع الكثيرين دون معرفة سابقة بهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تحتوي على الغرائب والعجائب، فمن بحث عن الخير وجده، ومن بحث عن غير ذلك أيضًا وجده.
الصداقات في الغالب وهمية، ولا ندري عن سلوك أصحابها شيئًا؛ فينبغي التعامل معها بحذر شديد، وتحذير الأبناء والطلاب من مخاطرها، فعلى قدر الخير المرجو منها فيها أيضًا الخطر.
قد يعز الصديق الصالح، ويصبح كالعملة النادرة؛ بسبب عدم التوافق مع الأقارب والأصدقاء في العمل، لدرجة الإحساس بالغربة، يُنصَحُ بصحبة الكتب النافعة؛ ففيها الأنس والفائدة في كل المجالات، كما أن صحبتها أقل وطأة، والقارئ الجيد والمتمكن يستطيع التمييز بين الغثِّ والسمين من الكتب، والتي تعكس فكر أصحابها.
يقول أبو الطيب المتنبي:
أعزُّ مكانٍ في الدُّنا سرج سابحٍ == وخير جليس في الزمان كتابُ
ويقول أحدهم:
نعم المؤانس والجليس كتابُ == تخلو به إن خانك الأصحابُ
لا مفشيًا سرًّا ولا متكدرًا == وتفاد منه حكمة وصوابُ
أما القرآن الكريم، فهو أشرف الكتب السماوية، وهو أساس كل العلوم؛ فينبغي أن يكون جليس المؤمن الدائم، فتلاوته عبادةٌ وقرب من الله عز وجل، وهو شفاء للصدور والأبدان.
إن حسن اختيار الأصدقاء كالمشروع الذي نأمل أن يعود علينا بالربح الوفير في الدنيا والآخرة، فمتى كانت لله وفي الله، استمرت في الدنيا ونفعتهم في الآخرة.
أما الاستمرار في الدنيا، نجد أن الكثيرين توجوا صداقاتهم بالمصاهرة، وبعضها استمرت طوال العمر، وأثمرت عن برٍّ وإحسان من الأبناء لأصدقاء الآباء.
أما في الآخرة، فما كان لغير الله ينقلب إلى عداوة؛ قال تعالى: ﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 67].
أسأل الله عز وجل أن يجعلني وإياكم ممن يحملون المسك، ويجودون بالعطاء والنفع لكل من خالطهم.
شبكة الألوكة
تم النشر يوم
السبت، 11 أبريل 2015 ' الساعة