د. أمين بن عبدالله الشقاوي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله.
وبعد:
فإن هذه الدنيا دار ابتلاء وامتحان يبتلى فيها المؤمنون بالسراء والضراء، والشدة والرخاء، قال تعالى: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35].
وقال تعالى: ﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: 140].
قال ابن كثير:
أي إن كنتم قد أصابتكم جراح، وقتل منكم
طائفة، فقد أصاب أعداءكم قريب من هذا من قتل وجراح، وتلك الأيام نداولها
بين الناس، أي نديل عليكم الأعداء تارة، وإن كانت لكم العاقبة، لما لنا في
ذلك من الحكمة[1].
وعداوة الكفار للمؤمنين عداوة قديمة، قال تعالى: ﴿ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ﴾ [البقرة: 217].
وقال تعالى: ﴿ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ﴾ [التوبة: 10].
والنصر على الأعداء له أسباب كثيرة، أذكر منها:
أولًا: الإيمان بالله، والعمل الصالح، قال تعالى: ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51].
وقال تعالى: ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47].
والمؤمنون الموعودون بالنصر هم الموصوفون بقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [الأنفال: 2، 3].
وقال تعالى: ﴿
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55].
ثانيًا: الإخلاص والصدق في نصر دين الله، قال تعالى: ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ *
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ
وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ
الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 40، 41].
وقال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7].
ثالثًا: التوكل على الله، قال تعالى: ﴿ إِنْ
يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ
ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران: 160].
وقال تعالى: ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 51].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث
أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تكفل
الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله و تصديق
كلماته بأن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر
أو غنيمة"[2].
رابعًا: الثبات عند لقاء العدو، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث
عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال: "أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم
فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف"[3].
خامسًا: الشجاعة والإقدام عند لقاء العدو، واليقين أن الأجل لا يقدمه إقدام، ولا يؤخره إحجام، قال تعالى عن المنافقين: ﴿ يَقُولُونَ
لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ
كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ
إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ﴾ [آل عمران: 154].
قال الشاعر:
تأخرت أستبقى الحياة فلم أجد
لنفسي حياة مثل أن تقدما
|
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أشجع
الناس، وأقواهم قلبًا عند لقاء العدو، روى مسلم في صحيحه من حديث البراء بن
عازب - رضي الله عنه - قال: كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع
منا للذي يحاذي به - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - [4].
سادسًا: كثرة الذكر والدعاء، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45].
وقال تعالى: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾ [الأنفال: 9].
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو
ربه ويستغيث به في معاركه، كما في معركة بدر وغيرها، وكان من دعائه: "اللهم
منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم"[5].
سابعًا: لزوم طاعة الله تعالى ورسوله، والحذر من المعاصي والتنازع، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46].
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن
عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بعثت بين يدي الساعة بالسيف
حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل والصغار
على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم"[6].
ثامنًا:
لزوم طاعة الأمير، والحذر من الاختلاف عليه، روى البخاري ومسلم في
صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال: "من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع
أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني"[7].
تاسعًا: الصبر على مشاق الجهاد، وخاصة عند لقاء العدو، قال تعالى: ﴿ مَنْ
ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ
أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 245].
وقال تعالى: ﴿ وَكَأَيِّنْ
مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا
أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا
وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 146].
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن
عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "واعلم أن في الصبر على ما
تكره خيرًا كثيرًا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع اليسر
عسرًا"[8].
عاشرًا: الإخلاص لله، فلا يكون المقاتل مجاهدًا في سبيل الله إلا بالإخلاص، قال تعالى: ﴿ وَكَأَيِّنْ
مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا
أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا
وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 146].
روى البخاري في صحيحه من حديث أبي موسى
الأشعري: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الرجل يقاتل للمغنم،
والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - : "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في
سبيل الله"[9].
الحادي عشر: الأخذ بأسباب القوة، والإعداد لذلك امتثالًا لقوله تعالى: ﴿
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ
الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ
مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا
مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا
تُظْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 60].
روى مسلم في صحيحه من حديث عقبة بن عامر -
رضي الله عنه -: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر
يقول: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا أن القوم
الرمي، ألا أن القوة الرمي"[10].
ومن أعظم أسباب الخذلان: المعاصي والذنوب،
فإنها تخون العبد وهو أحوج ما يكون إلى نصر ربه، قال تعالى مبينًا سبب
انهزام بعض المسلمين في إحدى الغزوات: ﴿
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ
إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ
عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 155].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين[11].
[1] تفسير ابن كثير (3/199-200).
[2] البخاري برقم (٣١٢٣)، ومسلم برقم (١٨٧٦).
[3] البخاري برقم (٢٩٦٦)، ومسلم برقم (١٧٤٢).
[4] برقم (١٧٧٦).
[5] صحيح البخاري برقم (٢٩٣٣)، وصحيح مسلم برقم (١٧٤٢) واللفظ له.
[6] سبق تخريجه.
[7] البخاري برقم (٧١٣٧)، ومسلم برقم (١٨٣٥).
[8] (5/19) برقم (٢٨٠٣)، وقال محققوه: حديث صحيح.
[9] البخاري برقم (٢٨١٠)، ومسلم برقم (١٩٠٤).
[10] برقم (١٩١٧).
[11] انظر رسالة الشيخ سعيد بن وهف القحطاني: الجهاد في سبيل الله، فضله، مراتبه، أسباب النصر على الأعداء.
تم النشر يوم
الثلاثاء، 23 يونيو 2015 ' الساعة