السبت، 29 مارس 2014


الوصية (خطبة)


الشيخ عبدالله بن صالح القصيِّر

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه.

أما بعد:
فيا أيها الناس أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، وشكره على ما من به علينا من النهج القويم، الذي أنزل به الشرع الحكيم وهدى إليه الرسول الكريم، محمد عليه من ربه أكمل الصلاة وأزكى التسليم قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ وقال سبحانه ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾.

عباد الله:
إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أرحم بكم من الوالد، وأبر بكم من أي أخ كريم، فلا خير إلا دلكم عليه، وكان أسوتكم في المبادرة إليه، ولا شر إلا نبهكم عليه، وكان صلى الله عليه وسلم أولكم في البعد منه، والنأي عنه، وقد قال صلى الله عليه وسلم "إن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم" وقال صلى الله عليه وسلم "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي" وقال عليه الصلاة والسلام "ومن رغب عن سنتي فليس مني"، وقال صلى الله عليه وسلم "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا ومن يأبى يا رسول الله قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى".

أيها المسلمون:
مما هداكم الله تعالى إليه ووصاكم به في كتابه، وندبكم إليه نبيه صلى الله عليه وسلم وحضكم عليه في كريم خطابه، الوصية بحقوق الله تعالى، وحقوق أنفسكم، وحقوق عباده عليكم، قال تعالى ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ ﴾، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ﴾ الآية وقال صلى الله عليه وسلم ما حق امرئ مسلم له شيء - وفي رواية يريد أن - يوصي به يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده، متفق عليه.

معشر المسلمين:
الوصية هي العهد المؤكد بالنظر في شيء، أو التبرع بالمال - لغير وارث - بعد الموت - وهي من محاسن الدين الإسلامي أن جعل من حق المسلم أن يعهد بما يبريه نفسه وغيره من ماله - لا يبر بغيره - بعد وفاته قال تعالى ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾.

أيها المؤمنون: فالحكمة من الوصية شرعاً أمران.
الأول: إبراء ذمة الموصي من حقوق تعلقت بها لله تعالى من نذر أو زكاة أو صوم أو حج لو فجأه الموت دون أن يتمكن من أدائها بنفسه أو لأحد من خلق الله من دين أو وديعة ونحوهما.

الثاني: الاعتناء بمزيد من البر يستمر له بعد الموت كالوصية بالصغار وتنمية الوقف وحسن تصريفه وفق الوصية العادلة فالوصية بهذا دلالة على التقوى، ومحاسبة النفس، والاستعداد للقاء الله عز وجل على صلاح سريرة، وجمال سيرة، والخوف من أسباب الخسران، وموجبات النقصان.

معشر المؤمنين:
اعلموا أن كتابة الوصية لا تقرب أجلاً، ولا تقطع أملا، بل هي من الحزم، وفعل أولي العزم، وحسن نظر المرء لنفسه وغيريها في حياته، وبعد وفاته، وهي كذلكم عون لأولياء المرء لو فجأة أجله، على نفعه وإبراء ذمته من حقوق الله تعالى وحقوق خلقه، وقد قال تعالى في تنزيله الكريم ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ وقال رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم "من أخذ أموال الناس وهو يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذ أموال الناس وهو يريد إتلافها أتلفه الله" وكتابة الوصية من أدل الدليل على الحرص على أداء الحقوق خشية من الخالق وبراءة من حق المخلوق.

أمة الإيمان:
بادروا مناياكم، بصالح أعمالكم وبصادق وصاياكم، قبل أن تبلغ الحلقوم، وتفضوا إلى الحي القيوم، فإن القوى في انقضاض، والأعمال في انتقاص، والآجال مغيبة، والمنايا لا تأتي إلا فجأة.

معشر المؤمنين:
انتفعوا من أموالكم، ما دامت لكم وفي أيديكم، وما دمتم في فسحة من آجالكم، وفي مهلة لزيادة صالح أعمالكم، ففي التنزيل المصون ﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أفضل الصدقة قال: "أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان"، وفي سنن أبي داود وصحيح ابن حبان رحمهما الله عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يتصدق المرء في حياته بدرهم خير من أن يتصدق بمائة عند موته".

أمة الإسلام:
إن الوصية بالخير منحة من الله تعالى لعبده عند انقطاع عمله، وإدباره عن دنياه وورثته فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: "يا ابن آدم اثنتان لم تكن لك واحدة منهما - يعني فمننت بهما عليك - جعلت لك نصيباً من مالك حين أخذت بكظمك - أي الوصية بشيء من مالك بالخير لنفسك - عند موتك، لأطهرك به وأزكيك، وصلاة عبادي عليك، بعد انقضاء أجلك علي " - رواه ابن ماجة وفي الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجل المسلم ليضع في ثلثه عند موته خيراً فيوفي الله بذلك زكاته، وفيه أيضاً عن معاوية بن قرة عن أبيه رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حضره الموت فوضع وصيته على كتاب الله كان ذلك كفارة لما ضيع من زكاته في حياته".

ألا وإن الله تعالى أعطاكم ثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في أعمالكم وفي البيهقي عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات على وصية مات على سبيل وسنة، ومات على تقى وشهادة، ومات مغفوراً له".

وفي البيهقي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المحروم من حرم الوصية".

أمة الإسلام:
إن شرك الوصية - مع الحاجة إليها - من وجود حق لله تعالى أو لعبادة في ذمة العبد عار في الدنيا وخسران في الآخرة، ومن لم يوصي لم يؤذن له في الكلام مع الموتى.

هكذا نقل عن بعض السلف، ونقل كذلك إن الله تبارك وتعالى قد قسم الميراث بنفسه على قرابة الإنسان الذين هم أولى به، فقسم التركة بين الآباء والأزواج، والأولاد والحواشي أحسن قسمة وأوضح منهاج وقال سبحانه محذراً من الجور والإعوجاج.. آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً فريضة من الله إن الله كان عليماً حكيماً، وقال نبيه المبلغ عنه دينه محمد صلى الله عليه وسلم إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث، فلا يحل لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يوصي لأحد من ورثته بشيء من أعيان ماله أو شيء من منافعه أو غلاته مدة معينة أو أبدية فإن تخصيص بعض الورثة بزيادة وصية معصية كبيرة ومظلمة لبعض الورثة خطيرة، وتحدث بينهم عداوة وقطيعة ومفاسد كثيرة. لأنها زيادة على الفرض، الذي فرضه رب السموات

فالموصي بزيادة بعض الورثة عن حقه أو حرمان أحدهم من مستحقه، قد عصى المعبود، وتعدى الحدود، وأوجب لنفسه النار، وبئس ما اختار قال تعالى في سياق قسمة المواريث ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾.

فبادروا - عباد الله - الوصايا قبل المنايا، واعدلوا فيها تصلح السرائر والنوايا، واحذروا الجور في الوصايا فإنه موجب للائمة، وسبب لسوء الخاتمة، وموجب للفتنة و الشر بين الورثة وربما كان من أسباب نزع البركة من التركة وربما فتح عنه العقوق والشقاق، وغضب الله تعالى على الجائر في وصيته يوم التلاق فاختموا بخير واتقوا الشر فإنه ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ بارك الله لي ولكم في القرآن.

المصدر : شبكة الألوكة
 تم النشر يوم  السبت، 29 مارس 2014 ' الساعة  9:41 ص


 
Toggle Footer