الجار
د. محمد بن عبدالله بن إبراهيم السحيم
فقلت لهم:
إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه،
ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا
مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ ﴾ [النساء: 1] ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران: 102] ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا ﴾ [الأحزاب: 70]
أيها المؤمنون!
المجتمع الإسلامي نسيج متماسك، ولحمة
قوية؛ تقوم على أداء الحقوق، ورعاية الذمام، وإظهار المحاسن؛ فيقوى به
الفرد، ويَلِجُ فيه الراغب، ويرهب المتربص. وإن الجوار من أبرز العُمَدِ
التي أقام عليها الإسلامُ كيانَ المجتمع ورعى أذمّتها؛ وما ذاك إلا لبالغ
أثره في استقرار المجتمع وأمنه وقوته وتقبّله؛ ولذا وجب رَقْبُ هذا الحق
حتى مع الجار الكافر الذي لا يؤمن بالله العظيم. يقول الله - تعالى -: ﴿ وَاعْبُدُوا
اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا
وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي
الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ ﴾
[النساء: 36]. وصاة الإسلام بالجار شديدة بلغت منزلة القرابة الموجبة
للتوارث، فعن رجل من الْأَنْصَار أنه قَالَ: خرجت مَعَ أَهلِي أُرِيد
النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - وَإِذا بِهِ قَائِم، وَإِذا رجل مقبل
عَلَيْهِ، فَظَنَنْت أَن لَهُ حَاجَة، فَجَلَست، فوَاللَّه! لقد قَامَ
رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى جعلت أرثي لَهُ من طول الْقيام،
ثمَّ انْصَرف، فَقُمْت إِلَيْهِ، فَقلت: يَا رَسُول الله، لقد قَامَ
بك هَذَا الرجل حَتَّى جعلت أرثي لَك من طول الْقيام، قَالَ: "أَتَدْرِي
من هَذَا"؟ قلت: لَا، قَالَ: جِبْرِيل - صلى الله عليه وسلم - مَا زَالَ
يوصيني بالجار؛ حَتَّى ظَنَنْت أَنه سيورِّثه". رواه أحمد وجوّده
المنذري. وقال أبو أُمَامَة - رَضِي الله عَنهُ -: سَمِعت رَسُول الله -
صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ على نَاقَته الجدعاء فِي حجَّة الْوَدَاع
يَقُول: " أوصيكم بالجار " حَتَّى أَكثر، فَقلت: إِنَّه يورثه. رَوَاهُ
الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد جيد. وبات الجوار معياراً لإيمان المرء زيادة
ونقصاً، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَه" رواه البخاري ومسلم،
وقال: "وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ
يُؤْمِنُ" قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الَّذِي لاَ
يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ" أي: شروره. رواه البخاري. ومنزلة العبد
المؤمن من ربه بمنزلته عند جيرانه، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-: "خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ
الجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ" رواه الترمذي وصححه
الحاكم ووافقه الذهبي. وحسن الجوار سبب لمحبة الله وتوفيقه عبدَه لحسن
الخاتمة، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أحب الله عبداً
عسّله (أي: طيّب ذكره في الناس)" قالوا: ما عسله يا رسول الله؟ قال:
"يوفق له عملاً صالحاً بين يدي أجله؛ حتى يرضى عنه جيرانُه"، أو قال: "من
حوله" رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم وجوّده العراقي. وحسن الجوار سبيل
لشهادة الجيران بالخير، ومن شُهد له بذلك غُفر له، يقول الرسول - صلى
الله عليه وسلم -: "ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة أهل أبيات من جيرانه
الأدنين أنهم لا يعلمون إلا خيراً، إلا قال الله: قد قبلت علمكم فيه،
وغفرت له ما لا تعلمون" رواه أحمد وابن حبان في صحيحه وصححه الحاكم على شرط
مسلم، وفي رواية: "ثلاثة". وقليل البر في حق الجار كثير، يقول الرسول -
صلى الله عليه وسلم -: "يَا نِسَاءَ المُسْلِمَاتِ، لاَ تَحْقِرَنَّ
جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ (أي: عظماً قليل اللحم)"
رواه البخاري ومسلم.
أيها المسلمون!
وكما حظي حسن الجوار بالأجر الجزيل؛ فقد
باء سوؤه بالوزر الوبيل، فالذنب في الجار مضاعف عشراً، فقد سأل رسول -
صلى الله عليه وسلم - أَصْحَابَهُ عَنِ الزِّنَا فقَالُوا: حَرَامٌ؛
حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَقَالَ: "لِأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ
بِعَشْرِ نِسْوَةٍ أيسرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ
جَارِهِ"، وَسَأَلَهُمْ عَنِ السَّرِقَةِ فقَالُوا: حَرَامٌ حَرَّمَهَا
اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - وَرَسُولُهُ، فَقَالَ: "لِأَنْ يَسْرِقَ مِنْ
عَشرَةِ أَهْلِ أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يسرق من بيت جاره"
رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني.
وإيذاء الجار سبب للعنة الجبار - جل وعلا -
ولعنة الخلق، شَكَا رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -
جَارَهُ، فَقَالَ: "احْمِلْ مَتَاعَكَ، فَضَعْهُ عَلَى الطَّرِيقِ،
فَمَنْ مَرَّ بِهِ يلعنُه". فَجَعَلَ كُلُّ مَنْ مَرَّ بِهِ يَلْعَنُهُ،
فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ:
مَا لَقِيتُ مِنَ الناس؟ فقال: "إِنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ فَوْقَ
لَعْنَتِهِمْ" رواه البيهقي وقال الألباني: حسن صحيح. فإن تسبب أذاه في
خروج جاره من منزله فقد باء بالهلاك، كان ثوبان - رضي الله عنه - يقول:
"مَا مِنْ جارٍ يَظْلِمُ جَارَهُ وَيَقْهَرُهُ حَتَّى يَحْمِلَهُ ذَلِكَ
عَلَى أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهِ إِلَّا هَلَكَ" رواه البخاري في الأدب
المفرد وصححه الألباني.
وأذى الجار قد يمنع من قبول العمل الصالح،
ويكون سبباً لدخول النار، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا
يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ" رواه مسلم.
وقِيلَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ
فُلَانَةً تَقُومُ اللَّيْلَ، وَتَصُومُ النَّهَارَ، وَتَفْعَلُ،
وَتَصَّدَّقُ، وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لَا خَيْرَ فِيهَا، هِيَ مِنْ أَهْلِ
النَّارِ »، قَالُوا: وَفُلَانَةٌ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ، وَتَصَّدَّقُ
بِأَثْوَارٍ (قطع من الإقط)، وَلَا تُؤْذِي أَحَدًا؟ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "هِيَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ" رواه
البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني. وخصومة الجار أول ما يقضى فيه
بين العباد يوم القيامة، يقول رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"أَوَّلُ خَصْمَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَارَانِ" رواه أحمد وجوّده
المنذري. وسوء الجوار خصلة الأشرار؛ ولذا فإنها تكثر في نهاية الزمان؛
إيذاناً بدنوِّ الساعة التي لا تقوم إلا على شرار الخلق، يقول رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَظْهَرَ
الْفُحْشُ وَالتَّفَحُّشُ وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ وَسُوءُ الْمُجَاوَرَةِ،
وَيُخَوَّنُ الْأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنُ الْخَائِن" رواه أحمد وصححه الحاكم.
ويقول صلى الله عليه وسلم: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَقْتُلَ
الرَّجُلُ جَارَهُ وَأَخَاهُ وَأَبَاهُ" رواه البخاري في الأدب المفرد
وحسنه الألباني. والدور إنما ترخص وتغلو بجوارها. كان لعبد الله بن
المبارك جارٌ يهودي، فأراد أن يبيعَ داره، فقيل له: بكم تبيع؟ قال:
بألفين؛ فقيل له: إنها لا تساوي إلا ألفاً؛ قال: صدقتم؛ ولكنْ ألفٌ للدار،
وألفٌ لجوار عبد الله بن المبارك؛ فأُخبر ابنُ المبارك بذلك، فدعاهُ
فأعطاه ثمن داره، وقال: لا تبعها.
يلومونني أن بِعت بالرخص منزلي
ولم يعلموا جارًا هناك ينغِّص
|
فقلت لهم:
كفّوا الملام؛ فإنما
بجيرانها تغلو الديار وترخص
|
قال لقمان الحكيم لابنه:
"يَا بُنَيَّ، قَدْ حَمَلْتُ الْحِجَارَةَ وَالْحَدِيدَ وَالْحِمْلَ
الثَّقِيلَ، فَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا قَطُّ أَثْقَلَ مِنْ جَارِ السَّوْءِ".
وجار السوء شر استعاذ منه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمر بالاستعاذة
منه، فقال: "تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَارِ السَّوْءِ فِي دَارِ
الْمُقَامِ؛ فَإِنَّ جَارَ الْبَادِيَةِ يَتَحَوَّلُ عَنْكَ" رواه النسائي
وصححه العراقي، وكان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ
إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ جَارِ السُّوءِ فِي دَارِ الْمُقَامَةِ؛ فَإِنَّ
جَارَ الْبَادِيَةِ يَتَحَوَّلُ" رواه ابن أبي شيبة وصححه الحاكم على شرط
مسلم.
بارك الله...
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد، فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله...
أيها المؤمنون!
الجوار وصف لكل ذي مسكن قريب مما تعارف
عليه الناس. وحقوق أهله متفاوتة بحسب بُعدهم وقربهم؛ فليس الجار ذو القربى
كالجار الغريب، وليس المسلم كالكافر، ولا التقي كالفاسق، ولا الملاصق
كالمقابل، ولا المقابل كالبعيد. وحسن جوار أولئك يكون بكف الأذى عنهم؛
قولاً كان أو فعلاً، وإن كان رائحة طعام، وتلك أقل درجات حسن الجوار.
والدرجة الأعلى تكون ببذل النفع لهم؛ دينياً كان أو دنيوياً، كالأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشاد الجاهل، وإعانة الفقير، والوقوف معهم
حال نكبتهم، والسؤال عنهم حال الافتقاد، ومشاركتهم أفراحهم وأتراحهم،
وإهدائهم، والدعاء لهم، ومياسرة الأمور معهم، وإنهاء الخصام بالصفح
والصلح، وعدم التقصي في مطالبة الحق. وليحذر المؤمن من منع جاره معروفَه؛
لئلا ينقص إيمانه، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ
الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَبِيتُ وَجَارُهُ إِلَى جَنْبِهِ جَائِعٌ" رواه أبو
يعلى وصححه الحاكم ووافقه الذهبي؛ وحساب الآخرة في ذلك مشهود، قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: "كم من جار متعلق بجاره، يقول: يا رب، سل
هذا: لِمَ أَغلقَ عني بابه ومنعني فضله؟" رواه الأصبهاني وحسنه الألباني.
وبعدُ - أيها الإخوة - قد تجلّى سموُّ قدر
الجوار في الإسلام، وسوء إخفار ذمة الله فيه. وذلك يقضي أن نرعى ما رعى
الله بالقيام بما أوجب من حق الجوار؛ كفاً للأذى، وبذلاً للمعروف،
والنصحَ والوعظَ لمن قصّر في ذلك الحق، ومباشرةَ الإصلاح بين الجيران
المتخاصمين بجهد فردي أو جماعي ينبثق من لجان الإصلاح التي يحسن إقامتها في
الحارات[1].
وَلِلْجَارِ حَقٌّ فَاحْتَرِزْ مِنْ إذَائِهِ
وَمَا خَيْرُ جَارٍ لَا يَزَالُ مُؤَاذِيًا
|
[1]في لسان العرب (4/225): "والحَارَة: كُلُّ مَحَلَّةٍ دَنَتْ مَنازِلُهم ؛ فَهُمْ أَهل حارَةٍ".
شبكة الألوكة
تم النشر يوم
الاثنين، 8 أبريل 2013 ' الساعة