نماذج مقتبسة من الكتاب والسنة
يستضاء بها في التربية (4)
د. عبدالرب نواب الدين آل نواب
شاهدنا بعضُ النماذج المُقتبسة من الكتاب
العزيز وسُنة النبي - صلى الله عليه وسلم - يستضاء بها في مضمار التربية في
الحلقات السابقة، ونكمل:
الأمانة:
الأمانة من أُمهات الأخلاق التي يتفرَّع
عنها سلسلة من الأخلاق الحميدة، والأمانة من سمات المؤمنين، وعكسها الخيانة
من سمات المنافقين، ومن أوصاف المنافق كما في حديث أبي هريرة - رضي الله
عنه - مرفوعًا: ((وإذا اؤتُمِن خانَ))[1].
ولقد أمر الله - تعالى - بالأمانة بمفهومها الشامل، فقال: ﴿ إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا
وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾ [النساء: 58].
ويدخل فيها الأمانة التي هي بمعنى حفظ
الودائع، وكل ما يتحمَّله المسلم ويجب عليه أداؤه من الحقوق والواجبات؛ من
أمانة السمع، وأمانة البصر، وأمانة الفؤاد، وكل ما يُطالَب به المسلم.
فيُعلَّم الولد ويُبصَّر بأن يَحفظ سمْعه
وبصرَه وجوارحه عما لا يَحِل، وأن يكون مراقبًا لربه - عز وجل - أمينًا على
محارمه وحُرماته، ومتى نشَأ على هذا الوصف الحميد، تجنَّب الغشَّ والخداع،
والخيانة والاختلاس والسرقة، وسائر ما حرَّمه الله - عز وجل - وفعَل هذا
خوفًا من الباري - سبحانه وتعالى - حيت قال في مُحكم التنزيل: ﴿ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ﴾ [الأنبياء: 110].
وهذا مطلب تربوي في غاية الأهمية، ومن الله تعالى التوفيق.
البر بالوالدين:
حقُّ الوالدين مقرون بحق الله - تعالى - في كتابه المجيد؛ قال - تعالى -: ﴿ وَقَضَى
رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا
إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا
تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا
كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 23 - 24].
والبر بالوالدين خُلق يُربَّى عليه الولد
منذ الصغر، لا سيما البر بالأم، وحقُّها أعظمُ وآكَدُ، وذلك من خلال مظاهره
الكثيرة؛ كخفْض الصوت عند مخاطبة الوالدين، وتقبيلهما، واستئذانهما عند
الخروج من البيت، ومناداتهما بسِمة الأُبوَّة والأُمومة، ونحو ذلك مما
يستوعبه عقلُ الطفل المميز.
ثم ومع تقدُّم السنين، يُربَّى على سمات
البر بهما؛ بتبصيره بحقوقهما ومكانتهما في الدين، وأن البر بهما أفضلُ
الأعمال بعد الصلوات المفروضة، وأنه مقدَّم على جلائل الأعمال؛ كالجهاد في
سبيل الله؛ كما في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لَما سأله عبدالله بن
مسعود - رضي الله عنه -: أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: ((الصلاة على
وقتها))، قال: ثم أي؟ قال: ((ثم برُّ الوالدين))، قال: ثم أي؟ قال:
((الجهاد في سبيل الله))[2].
وتعريفهما بعد ذلك بالعقوق وصُوَره، وشَناعته وقُبحه، وأنه ليس من أخلاق المسلمين.
حتى إذا راهَق الولد الحُلُم، عرَف حقَّ
والديه، واستقرَّ ذلك في نفسه، وتمرَّس على أدائه والقيام به، وكلما
تقدَّمت به السن، ازداد برُّه بوالديه، وكثُر دعاؤه لهما؛ كما قال - تعالى
-: ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ
أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ
الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا
تَرْضَاهُ ﴾ [الأحقاف: 15].
وكثير من الآباء يتجرَّعون غُصص العقوق من
أولادهم، إنما يذوقون وبالَ أمرهم بإهمالهم التربيةَ في الصِّغر، ومنه قول
قائلهم: يا أبتِ أهمَلتني صغيرًا، وعقَقتُك كبيرًا!
مراعاة حقوق الجيران:
للجار حقٌّ عظيم في الإسلام، وهو حقٌّ لا يُستهان به، وحسبُنا في تعظيمه قول الله - تعالى -: ﴿ وَاعْبُدُوا
اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا
وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي
الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ ﴾ [النساء: 36].
ففي هذه الآية الشريفة نوَّه - تعالى - عن ثلاثة أنواع من الجيران:
1- (الجار ذي القُربى): هو الذي بينك وبينه قرابة، وهو مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أو هو الجار المسلم، وتكون القرابة قَرابة الإسلام.
2- (الجار الجُنُب): وهو
الغريب - مسلمًا كان، أو يهوديًّا، أو نصرانيًّا - وهو اختيار الطبري، أو
هو الجار عن يمينك وشمالك، وبين يديك وخلفك، وهو مروي عن ابن عباس - رضي
الله عنهما.
3- (الصاحب بالجَنب): وهو الزوجة، أو الرفيق في السفر[3].
وهذا يدل على أن للجار في الإسلام مكانة
عالية، بيَّنها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله كما في حديث عائشة -
رضي الله عنها -: ((ما زال جبريل يُوصيني بالجار، حتى ظننتُ أنه
سيُورِّثه))[4]؛
أي: يأمر الله بتوريث الجار جارَه؛ قال ابن حجر: واسم الجار يشمل المسلم
والكافر، والعابد والفاسق، والصديق والعدو، والغريب والبلدي، والنافع
والضار، والقريب والأجنبي، والأقرب دارًا والأبعد، وله مراتبُ بعضها أعلى
من بعضٍ، ثم شرَع يُفصِّلها[5].
ولعل من أهم أساليب تربية الأولاد على
مراعاة حقوق الجيران بعد تعليمهم وتبصيرهم بها - الممارسة العملية؛
كالزيارة وتفقُّد الأحوال، والمواساة والإهداء والإتحاف، والعون المادي
والمعنوي؛ فالابن إذا اصطَحبه أبوه في زيارة أو ناوَل جاره هديَّة، وبصَّره
والداه من قبلِ ذلك بحقِّ الجيرة بأسلوب القصة وغيرها - تعوَّد على ذلك
وأحبَّه، ورسَخ في قلبه.
ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم -
يتَّبع هذا الأسلوب العملي، ولقد كان غلام يهودي يخدم النبي - صلى الله
عليه وسلم - فمرِض، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده، فقال:
((أسلِم))، فأسلَم؛ رواه أنس - رضي الله عنه[6].
وقال - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذرٍّ -
رضي الله عنه - في الإهداء وتعهُّد الحاجات: ((يا أبا ذرٍّ، إذا طبَخت
مَرقة، فأكثِر ماءها وتعاهَدْ جيرانك))[7].
وقال في حَضِّ المسلم على أن يكون طويلَ
البال واسعَ الصدر مع جاره، لا سيما فيما يتعلق بالأمور المعاشية: ((لا
يَمنع أحدُكم جارَه أن يَغرِز خشبة في جداره))، قال أبو هريرة - رضي الله
عنه -: "ما لي أراكم عنها مُعرضين، والله لأَرْمِيَنَّ بها بين أكتافكم"[8].
وسلسلة الحقوق المتعلقة بالجيرة أكثر من أن تُحصى في مثل هذا المقام، ولعل في هذا القدر كفاية، وبالله التوفيق.
[1] متفق عليه، وقد تقدَّم ص 180.
[2] متفق عليه؛ رواه البخاري في كتاب الأدب، حديث (5970)، ومسلم في كتاب الإيمان، حديث (85).
[3] زاد المسير (2/ 79).
[4] متفق عليه؛ رواه البخاري في كتاب الأدب، حديث (6014)، ومسلم في كتاب البر والصلة، حديث (2624).
[5] انظر: الفتح (10/ 441).
[6] رواه البخاري في كتاب المرضى، حديث رقم (5657)، وأبو داود في كتاب الجنائز، حديث (3095).
[7]
رواه مسلم في كتاب البر والصلة، حديث (2625) واللفظ له، والترمذي في كتاب
الأطعمة، حديث (1756)، وابن ماجه في كتاب الأطعمة، حديث (3362)، وأحمد في
مسند الأنصار، حديث (20147).
[8] متفق عليه؛ رواه البخاري في كتاب المظالم، حديث (2463) واللفظ له، ومسلم في كتاب المُساقاة، حديث رقم (1609).
المصدر : شبكة الألوكة
تم النشر يوم
الاثنين، 20 مايو 2013 ' الساعة