الغيبة بلية ومصيبة
الشيخ عبدالله بن صالح القصيِّر
أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا الله حق التقوى واستمسكوا بالإسلام العروة الوثقى، واحذروا الغيبة فإنها تجلب لكم عذاب النار وأجسامكم على النار لا تقوى واعلموا أن الغيبة محرمة لم يستثنى في الشرع منها إلا ما كان بين اثنين حيث يذكر الإنسان غيره بسوء بما يكره للحاجة الداعية إلى ذلك.
عباد الله:
الغيبة هي الوقيعة في الناس سميت بذلك لأنها لا تقال إلا في حال الغيبة ولهذا عرفها بعض أهل العلم بقوله "هي ذكر العيب بظهر الغيب"، وحقيقتها: ذكر الإنسان غيره "من غير محوج لذكره" بما يسوءه لو بلغه سواءً ذكره بما يكره في نفسه أو دينه أو عقله أو خلقه أو لبسه وهيئته أو في دنياه من أهله وولده وماله ونحو ذلك من شأنه وسوءاً أكان ذكره بما يكره بالمقال أو بالإشارة والأفعال ولهذا عرفها النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أوتي جوامع الكلم واختصر له الكلام باختصار تعريفاً جامعاً مانعاً فقال - صلى الله عليه وسلم - "هي ذكرك أخاك بما يكره، قيل يا رسول الله: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته" فبين - صلى الله عليه وسلم - أن المتكلم عن الغائبين بما يكرهون ظالم بكل حال! فإما بالغيبة وإما بالبهت وكلاهما ذنب خطير وإثمه كبير وشره مستطير، وكيف يجرؤ المتكلم في الغائبين على معصية الله تعالى في حق إخوانه والله عليه رقيب شهيد لا يخفى عليه شيء وهو السميع البصير، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير وإن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور.
معشر المسلمين:
الغيبة كبيرة من كبائر الذنوب نهى عنها ربكم علام الغيوب بقوله ﴿ وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ﴾ وشبهها سبحانه محذراً منها منفراً عنها بقوله ﴿ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾[1] ففي ذلك أبلغ الزجر عنها والحض على المبادر بالتوبة منها للتخلص من شرها وشؤمها في العاجلة والآجلة.
معشر المسلمين:
إنما يقع في غيبة الناس الجبناء، ومرضى القلوب والنفوس واللئام والمتجبرة الجبناء الذين يحبون الظلم والبغي، والحسرة والمعارضون لله تعالى في قدره وقسمته وأشباههم ممن يشعرون بالدونية والنقص فيغتابون غيرهم ليرفعوا أنفسهم، أو من قلوبهم مليئة بسوء الظن أو فيهم خور يحملهم على مجاملة أقرانه أو جلسائه فيغتابون الآخرين أو يسكت فلا ينكر ومجاملتهم ولو في معصية رب العالمين غيبتهم أو يهتم مجاملة لهم في معصية رب العالمين وظلم الآخرين.
أيها المؤمنون:
إن الغيبة كلها إثم مبنية على إثم، فهي ظلمات بعضها فوق بعض فإنه مما يحمل الشخص غيبة غيره عدة أمور إما الخصومة التي تحمل المرء على التشفي من خصمه بغيبته وبهته، أو مجاملة الأقران والجلساء إذا وقعوا في الغيبة والبهتان، وإما سوء الظن الذي يحمل سيء الظن على غيبة صاحبه لسوء اعتقاده فيه وحكمه الباطل على سريرته أو شعوره بنقص في نفسه فيغتاب أنداده ليظهر فضله عليهم عند مجالسيهم أو قناعته بعيب في نفسه يعترف به قد فشل في التخلص منه فيغتاب الآخرين ليشعر الحاضرين بمشاركة أولئك له بالعيب الذي فيه.
معشر المؤمنين:
وقد يحمل الشخص على غيبة الآخرين حسرة لهم على ما آتاهم الله وفضله به عليه وهذا اعتراض على الله قدر الله تعالى وتدبيره وشؤمه يعود على المغتاب من جهتين من جهة إثم الغيبة وجهة إثم اعتراضه على ربه في قدره وقسمته.
معشر المؤمنين:
ومن شر الغيبة أن بعض الناس قد يغتاب غيره مستهزئ ساخراً ليضحك الحاضرين مما ينتقص به الآخرين ويغضب به رب العالمين.
أيها المؤمنون اتقوا الغيبة فإنها كلها شؤم ولإثم مصنفة من كبائر الذنوب والعظام التي عصى بها علام الغيوب ذلكم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جعلها عديله الظلم بقتل النفس وأخذ المال بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه" قوله - صلى الله عليه وسلم - في مكة البلد الحرام في الشهر الحرام في يوم حرام "إن دمائكم وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم في شهركم هذا" وكفى بذلكم زجراً عن الغيبة وتنبيهاً على خطر تلكم الغيبة.
معشر المؤمنين:
ولقد مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير بلا إنه أما أحدهما فكان لا يستنـزه أو قال لا يستبرئ أو قال لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة" والغيبة هي أصل النميمة ومقدمتها، والنميمة نتيجة الغيبة وثمرتها.
عباد الله:
ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجلس من أصحابه رضي الله عنهم فارتفعت ريح منتنة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أتدرون ما هذه الريح، ريح الذين يغتابون المؤمنين" رواه الإمام أحمد والطبراني وصحح الحافظ بن حجر إسناده، وقال - صلى الله عليه وسلم - محذراً من الغيبة: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته" وفي ذلكم التوجيه النبوي الكريم تنبيه على أن الغيبة نوع من النفاق وأنها من أسباب أن يفضح المغتاب في بيته وذلكم العقاب المعجل قبل أن تبلغ الروح التراق وفي المسند وغيره بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "قال من أربى الربا "أي أظلم الظلم" الاستطالة في عرض المسلم بغير حق" وفي المسند كذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "لما أُعرج بي مررت بقوم لهم أظافر من نحاس يخمشون وجوههم فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم"، وفي الطبراني بإسناد جيد "كما قال المنذري" عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ذكر امرءاً بشيء ليس فيه ليعيبه به، حبسه الله في نار جهنم حتى يأتي بنفاد ما قال فيه" فاتقوا الله معشر المؤمنين واتركوا الغيبة وتوبوا إلى ربكم مما اقترفتم منها فإنها داء، وداهية دهياء، تذهب الحسنات، وتجلب السيئات، وتكشف العورات، وتفرق المؤمنين، وتغضب رب العالمين داعية للشرور وجالبة للخسران والإفلاس والحسرة يوم النشور ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا ﴾[2].
[1] (الحجرات: من الآية 12).
[2] (الفرقان: 27 - 29).
شبكة الألوكة
تم النشر يوم
السبت، 20 يوليو 2013 ' الساعة