هل الموتى يَسمعون كلامَ الأحياء؟
الدار الآخرة أسئلة وأجوبة حول القبر
الشيخ ندا أبو أحمد
س: هل الموتى يَسمعون كلامَ الأحياء؟
ج: اختلف أهلُ العِلم في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: ذهب إلى نفي سماع الأموات للأحياء، وهو رأي السَّيدة عائشة وابن عباس وابن مسعود - رضي الله عنهم - وغير واحد من الصحابة وهو مذهب الجمهور، وهو قول ابن عابدين، وابن الهمام، وابن نُجَيم، والحصفكي، وغيرهم من أئمة الأحناف، والمازري والباجي والقاضي عياض من المالكية، والقاضي أبي يعلى من الحنابلة، ومالَ إليه الشيخ الألباني في تحقيقه "للآيات البيِّنات في عدم سماع الأموات"، ورجَّح ذلك أيضًا ابن باز وابن عُثيمين - رحمهم الله - ودليلهم:
الدليل الأول: قوله تعالى: ﴿ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ﴾ [النمل: 80].
قال ابنُ جرير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية (21/36):
هذا مَثَلٌ معناه: فإنك لا تَقدر أن تُفِهم هؤلاء المشركين الذين قد خَتم الله على أسماعهم، فسلَبهم فَهم ما يُتلى عليهم من مواعظ تنزيله، كما لا تقدر أن تُفهم الموتى الذين سلبهم الله أسماعهم بأن تجعل لهم أسماعًا.
ثم روى بإسناده الصحيح عن قتادة قال: "هذا مَثَلٌ ضربه الله للكافر، فكما لا يسمع الميتُ الدعاء كذلك لا يَسمع الكافر، ﴿ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ ﴾ أي: لو أن أصَمَّ ولَّى مُدبرًا ثم ناديتَه لم يَسمع، كذلك الكافرُ لا يسمع ولا ينتفع بما سمع.
فثبت من هذه النُّقول عن كتب التفسير المعتمدة أن الموتى في قبورهم لا يسمعون، كالصُّمِّ إذا ولَّوْا مُدبرين.
وهذا الذي فَهمته عائشةُ - رضي الله عنها - واشتهر ذلك عنها في كتب السُّنة وغيرها، وهذا الذي فهمه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أيضًا؛ (انظر فتاوى اللجنة الدائمة: 9216).
الدليل الثاني: قوله تعالى: ﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾ [فاطر: 13، 14].
ووجه الدلالة من الآية: أن الصالحين لا يسمعون بعد موتهم، وغيرهم مثلهم بَداهة، بل ذلك من باب أولى كما لا يخفى، فالموتى كلُّهم إذًا لا يسمعون.
الدليل الثالث: حديث قَليب بدر: والحديث أخرجه البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - على قَليب بدرٍ فقال: ((هل وَجدتم ما وَعد ربُّكم حقًّا؟)) ثم قال: ((إنهم الآن يَسمعون ما أقولُ))، فذُكِر لعائشة فقالت: إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنهم الآن يعلمون أنَّ الذي كنتُ أقول لهم هو الحق)) ثم قرأت: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} حتى قرأت الآية".
وعند البخاري ومسلم أيضًا من حديث أبي طلحة رضي الله عنه:
"أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أمرَ يوم بدرٍ بأربعةٍ وعشرين رجلاً من صناديد قريش فقذفوا في طويٍّ من أطواء بدر خبيث مُخبَّث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليالٍ، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى واتبعه أصحابه وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجتِه حتى قام على شَفَة الرَّكِيِّ، فجعل يُناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: ((يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربُّنا حقًّا، فهل وجدتم ما وعدكم ربُّكم حقًّا؟!)) فقال عمر: يا رسول الله، ما تُكَلِّم من أجسادٍ لا أرواح فيها؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفس مُحمد بيده، ما أنتم بأسمع مما أقول منهم)).
قال قتادة رحمه الله: "أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخًا وتصغيرًا ونِقمة وحدةً وندمًا".
ووجه الاستدلال بهذا الحديث يتضح بملاحظة أمرين:
الأول: ما في الرواية الأولى من تقييده - صلى الله عليه وسلم - سماع موتى القَليب بقوله: "الآن" فإن مَفهومه أنهم لا يَسمعون في غير هذا الوقت وهو المطلوب، وهذه الفائدة نبَّه عليها العلَّامة الألوسي في كتابه "روح المعاني" (6/455): ففيه تنبيه قوي على أن الأصل في الموتى أنهم لا يسمعون".
الأمر الآخر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرَّ عمر وغيره من الصَّحابة على ما كان مُستقرًّا في نفوسهم واعتقادهم أن الموتى لا يسمعون، فقد قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: "ما تكلِّم من أجساد لا أرواح فيها؟".
وجاء في "مسند الإمام أحمد" عن أنس - رضي الله عنه - قال: "فسمع عمر صوته فقال: يا رسول الله، أتناديهم بعد ثلاث؟ وهل يسمعون؟ يقول الله عز وجل: ﴿ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى ﴾، فقال: ((والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوا))".
ومن هذا يتضح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر الصَّحابة - وفي مُقدِّمتهم عمر - على فَهمهم للآية على ذلك الوجه العامِّ الشامل لموتى القَليب وغيرهم؛ لأنه لم يُنكره عليهم، ولا قال لهم: "أخطأتم" فالآية لا تنفي مُطلقًا سماع الموتى، بل إنه أقرَّهم على ذلك، ولكن بيَّن لهم ما كان خافيًا عليهم في شأن القليب، وأنهم سمعوا كلامه حقًّا، وأنَّ ذلك أمرٌ خاصٌّ مُستثنى من الآية مُعجزة له - صلى الله عليه وسلم.
يقول قتادة - رحمه الله - أحدُ رواة الحديث: "أحياهم الله حتى أسمعهم توبيخًا، وتصغيرًا، ونقمة، وحسرة، وندامة".
الدليل الرابع: ما أخرجه الإمام أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن لله ملائكة سيَّاحين في الأرض، يُبلغونني عن أمتي السَّلام)).
ووجه الاستدلال به أنه صَريح في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يَسمع سلام المُسلِّمين عليه، إذ لو كان يَسمعه بنفسه لما كان بحاجَة إلى مَن يُبلِّغه إليه، كما هو ظاهر لا يخفى على أحد إن شاء الله تعالى.
وإذا كان الأمر كذلك، فبالأولى أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يسمع غير السلام من الكلام، وإذا كان كذلك، فلَأَنْ يسمع السلام غيره من الموتى أولى وأحرى، ثم إن الحديث مطلق يشمل حتى مَن سلَّم عليه - صلى الله عليه وسلم - عند قبره.
قال الشيخ الألباني رحمه الله:
"لم أرَ مَن صرَّح بأن الميِّت يسمع سماعًا مطلقًا كما كان شأنه في حياته، ولا أظن عالمًا يقول به".
القول الثاني: ذهب فريق من أهل العلم إلى أن الموتى يسمعون في الجملة، ولا يسمعون في كل الأحوال.
وهناك فريق آخر رأى أنهم يسمعون في كل الأحوال، لكنَّهم لا يستطيعون الانتفاع بما يسمعونه أو حتى مجرَّد الردِّ.
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - كما في كتابه "الروح" (ص 60):
"وأما قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾ [فاطر: 22]، فسياق الآية يدل على أن المراد منها: أن الكافر الميِّت القلب لا تقدر على إسماعه إسماعًا يَنتفع به، كما أن مَن في القبور لا تقدر على إسماعهم إسماعًا ينتفعون به، ولم يُرد سبحانه أن أصحاب القبور لا يسمعون شيئًا البتَّةَ، كيف وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم يسمعون خَفق نعال المُشيِّعين؟ وأخبر أن قتلى بدر سمعوا كلامه وخطابه، وشُرع السلام عليهم بصيغة الخطاب للحاضر الذي يسمع، وأخبر أن مَن سلَّم على أخيه المؤمن ردَّ عليه السلام، وهذه الآية نظير قوله: ﴿ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ﴾ [النمل: 80].
وقد يقال: نفي إسماع الصُّم مع نفي إسماع الموتى، يدل على أن المراد عدم أهليَّة كل منهما للسماع، وأن قلوب هؤلاء لمَّا كانت ميِّتة صمَّاء كان إسماعها ممتنعًا بمنزلة خطاب الميِّت والأصم، وهذا حق، ولكن لا ينفي إسماع الأرواح بعد الموت إسماع توبيخ وتقريع بواسطة تعلقها بالأبدان في وقت ما، فهذا غير الإسماع المنفي، والله أعلم.
وحقيقة المعنى: أنك لا تستطيع أن تُسمع من لم يشأ الله أن يُسمعه، ﴿ إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ ﴾ [فاطر: 23]، أي: إنما جعل الله لك الاستطاعة على الإنذار الذي كلَّفك إياه لا على إسماع من لم يشأ الله إسماعه".
وقال الشيخ عمر الأشقر في "القيامة الصغرى":
"ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الميِّت يسمع قَرع نعال أصحابه، بعد وضعه في قبره؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن العبد إذا وُضِع في قبره، وتولَّى عنه أصحابه، إنه ليسمع قرع نعالهم))؛ (مسلم).
ووقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد ثلاثة أيام من معركة بدر على قتلى بدر من المشركين فنادى رجالاً منه، فقال: ((يا أبا جهل بن هشام، يا أُميَّة بن خلف، يا عُتبة بن ربيعة، يا شَيبة بن ربيعة، أليس قد وجدتم ما وعدكم ربُّكم حقًّا؟ فإني قد وَجدت ما وعدني ربي حقًّا)) فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، كيف يسمعوا؟ أنَّى يجيبوا وقد جيَّفوا؟! قال: ((والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا)) ثم أمر فسُحبوا، فألقوا في قَليب بدر؛ (البخاري).
واستدل فريق من أهل العلم بهذا الحديث على أن الموتى يسمعون، وممن ذهب إلى ذلك: ابن جرير الطبري وابن قُتيبة وغيرهما من العلماء.
وقال ابن أبي العز شارح الطحاوية (ص 85):
"من قال: إن الميت ينتفع بقراءة القرآن عنده باعتبار سماعه كلامَ الله، فهذا لم يصحَّ عن أحد من الأئمة المشهورين، ولا شكَّ في سماعه، ولكن انتفاعه بالسَّماع لا يصحُّ، فإن ثواب الاستماع مشروط بالحياة، فإنه عمل اختياري، وقد انقطع بموته، بل ربما يتضرَّر ويتألم لكونه لم يمتثل أوامر الله ونواهيه، أو لكونه لم يزدد من الخير".
وقد ساق ابن تيميَّة جملة من الأحاديث التي تدل على أن الموتى يسمعون، ثم قال:
"فهذه النصوص وأمثالها تُبيِّن أن الميت يسمع في الجملة كلام الحي، ولا يجب أن يكون السمع له دائمًا، بل قد يسمع في حال دون حال، كما قد يَعرض للحي فإنه يَسمع أحيانًا خطاب من يُخاطبه، وقد لا يسمع لعارض يعرِض له"؛ (مجموع الفتاوى: 5/366).
وقد أجاب شيخ الإسلام على إشكال من يقول:
"إن الله نفى السَّماعَ عن الميِّت" في قوله: ﴿ فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى ﴾ [الروم: 52]، وكيف تزعمون أن الموتى يسمعون؟ فقال: "وهذا السمع سمع إدراك ليس يترتب عليه جزاء، ولا هو السمع المنفي بقوله: ﴿ فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى ﴾ [الروم: 52]، فإن المراد بذلك: سمع القبول والامتثال، فإن الله جعل الكافر كالميت الذي لا يستجيب لمن دعاه، وكالبهائم التي تسمع الصوت، ولا تفقه المعنى، فالميِّت وإن سمع الكلام وفقه المعنى، فإنه لا يُمكنه إجابة الداعي، ولا امتثال ما أُمر به ونُهي عنه، فلا ينتفع بالأمر والنهي، وكذلك الكافر لا ينتفع بالأمر والنهي، وإن سمع الخطاب وفهم المعنى، كما قال تعالى: ﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ ﴾ [الأنفال: 23]، وقد جاءت النُّصوص دالَّة أيضًا على أن الميت مع سماعه يتكلم، فإن مُنكرًا ونَكيرًا يسألونه، فالمؤمن يوفَّق للجواب الحق، والكافر والمنافق يضلُّ عن الجواب، ويتكلم أيضًا في غير سؤال منكر ونكير، وكل هذا مخالف لما عهده أهل الدنيا من كلام، فإن الذي يُسأل ويتكلم الرُّوح، وهي التي تجيب وتَقعد وتُعذَّب وتُنعَّم، وإن كان لها نوعُ اتصال بالجسد، وقد سبق القول أن بعض الناس قد يسمعون الكلمة من الميت، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يسمع من هذا شيئًا كثيرًا؛ (مجموع الفتاوى: 5/364).
وأيضًا استدل هذا الفريق بحديث الدعاء عند دخول المقابر، وهو: ((السلام عليكم دار قوم...)) الحديث، وقالوا: لا يكون السلام إلا على مَن يسمعون.
والرد: أن هذا استدلال نظري استنباطي، ولا يدل الحديث على التصريح بسماعهم.
وأيضًا المقصود من السلام هو طلب الرحمة للموتى، فالمقصود من السلام عليهم الدعاء لا الخطاب.
وحاول البعض الجمع بين حديث ابن عمر (وهو محادثة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل القليب)، وبين حديث عائشة أنها أنكرت ذلك وقرأت عليهم قوله تعالى: ﴿ فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى ﴾.
فقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في "الفتح" (3/301):
"إن الجمع بين حديث ابن عمر وعائشة بحمل حديث ابن عمر على أن مُخاطبة أهل القَليب وقعت وقت المسألة، وحينئذ كانت الرُّوح قد أعيدت إلى الجسد"؛ اهـ.
وقال المُناوي - رحمه الله - في "فتح القدير":
"وأما الجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: "أنه يسمع قَرع نعالهم"، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾ [فاطر: 22]، أجيب: بأن السماع في الحديث بخصوص أول الوضع في القبر مقدمة السؤال، فالحديث لا يدل على العموم".
والراجح في المسألة:
هو ما ذهب إليه الفريق الأوَّل من عدم سماع الموتى، وهذا ما انتصر له الشَّيخ الألباني - رحمه الله - فقال في مقدمة "الآيات البينات في عدم سماع الأموات" للألوسي رحمه الله:
"وخلاصة البحث والتحقيق: أن الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال أئمة الحنفية وغيرهم: على أن الموتى لا يسمعون، وأن هذا هو الأصل، فإذا ثبت أنهم يسمعون في بعض الأحوال كما في حديث خفق النعال، أو أن بعضهم سمع في وقت ما كما في حديث القليب، فلا ينبغي أن يُجعل ذلك أصلاً، فيقال: إن الموتى يسمعون، كَلَّا، فإنها قضايا جزئيَّة لا تُشكل قاعدة كليَّة يعارض بها الأصل المذكور، بل الحق أنه يجب أن تستثنى منه على قاعدة استثناء الأقل من الأكثر، أو الخاص من العام، كما هو مقرر في أصول الفقه.
ولذلك قال العلامة الألوسي في "روح المعاني" بعد بحث مستفيض في هذه المسألة (6/455):
والحق أن الموتى لا يسمعون في الجملة، فيقتصر على القول بالسماع بما ورد السماع بسماعه.
وهذا مذهب طوائف من أهل العلم، كما قال الحافظ ابن رجب الحنبلي.
وما أحسن ما قاله ابن التين رحمه الله:
"إن الموتى لا يسمعون بلا شكٍّ، لكن إذا أراد الله تعالى إسماع ما ليس من شأنه السماع لم يمتنع".
فإذا علمت أيها القارئ الكريم أن الموتى لا يسمعون، فقد تبيَّن أنه لم يبق هناك مجال لمناداتهم من دون الله تعالى، ولو بطلب ما كانوا قادرين عليه وهم أحياء، بحكم كونهم لا يسمعون النداء، وأن مناداة من كان كذلك والطلب فيه سخافة في العقل وضلال في الدين، وصدق الله العظيم القائل في كتابه الكريم: ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ [الأحقاف: 5، 6].
وقال الطحطاوي في "حاشيته على الدر المختار" (2/381):
"إن الميت لا يسمع ولا يفهم".
وقال ابن عابدين في كتابه "رد المحتار على الدر المختار" (3/180):
"وأما الكلام: فالمقصود منه الإفهام، والموت ينافيه: ﴿ فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى ﴾، شبه فيه الكفار بالموتى لإفادة بُعد سماعهم، وهو فرع عدم سماع الموتى".
وقال إمام الحنفية ابن الهمام في "فتح القدير حاشية الهداية":
"وأكثر مشايخنا على أن الميِّت لا يسمع عندهم، وصرَّحوا به في كتاب "الأيمان" في باب اليمين بالضرب".
لو حلف لا يكلمه فكلَّمه ميِّتًا لا يَحنث، لأنها تنعقد على ما حيث يفهم، والميت ليس كذلك لعدم السماع، ولمزيد بيان في هذه المسألة راجع رسالة نعمان بن محمد الألوسي - رحمه الله - (ت: 1317هـ) والرسالة بعنوان الآيات البينات في عدم سماع الأموات.
والخلاصة:
أن قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾ [فاطر: 22]، هذه قاعدة كونيَّة عامَّة ثابتة لا تتغير، وهي أن الميت - أي ميِّت - لا يسمع إلا من جاء في حقِّه دليلٌ خاصٌّ وفي حالات خاصة، فهذا خصوص يبقى معه العموم على حاله، فمن أين الدليل على أن الموتى يسمعون؟
وكذلك الموتى لا يدرون بما يحدث حولهم، ففي حديث الحوض الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا رب، أمَّتي أمَّتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيقول النبي: سُحقًا سُحقًا، بُعدًا بُعدًا)).
ووُجِّه هذا السؤال إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، فتوى رقم (9216) وفيه:
س: قرأت في كتاب "الحاوي للفتاوى" للإمام السيوطي أن الميت يسمع كلام الناس، وثناءهم عليه، وقولهم فيه، كذلك يَعرف من يزوره من الأحياء، وإن الموتى يتزاورون، فهل هذا حسن؟ فقد اعتمد على بعض الأحاديث وبعض الآثار، وذلك في (ج2/ 169، 170، 171)؟
ج: الأصل عدم سماع الأموات كلامَ الأحياء إلا ما ورد في النص؛ لقول الله سبحانه يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى ﴾ [الروم: 52]، وقوله سبحانه: ﴿ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾ [فاطر: 22].
وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
(اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء).
ملاحظة:
الحديث الذي أخرجه الخطيب في التاريخ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا، وفيه: ((ما من رجل يمرُّ بقبر رجلٍ كان يعرفه في الدنيا فيُسلِّم عليه إلا عرفه وردَّ عليه))؛ (ضعيف، قال ابن الجوزي: لا يصح).
المصدر : شبكة الألوكة
تم النشر يوم
الجمعة، 28 مارس 2014 ' الساعة