الموت وعظاته
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله.
وبعد:
فإن المنهمك في الدنيا المكب على شهواتها وملذاتها يغفل قلبه عن ذكر الموت فلا يذكره، وإن ذكره كرهه ونفر منه، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الجمعة: 8].
وقال تعالى: ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ﴾ [النساء: 78].
وقال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35].
وأما العارف بربه، فإنه يذكر الموت دائمًا، أخذًا بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما قال: "أكثروا ذكر هادم اللذات - يعني الموت -"[1].
وروى ابن ماجه في سننه من حديث ابن عمر أنه قال: جاء رجل من الأنصار فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: يا رسول الله أي المؤمنين أفضل؟ قال: أحسنهم خلقًا قال: فأي المؤمنين أكيس؟ قال: أكثرهم للموت ذكرًا وأحسنهم لما بعده استعدادًا، أولئك الأكياس"[2].
قال الحسن البصري - رحمه الله -: فضح الموت الدنيا، فلم يترك لذي لب فيها فرحًا، وما ألزم عبد قلبه ذكر الموت إلا صغرت الدنيا عليه، وهان عليه جميع ما فيها".
قال الشاعر:
لا طيب للعيش ما دامت لذته
منغصة بأدكار الموت والهرم
|
وقال عمر بن عبد العزيز:
إذا غفل قلبي عن ذكر الموت ساعة فسد، وقال بعضهم: من أكثر ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والكسل في العبادة.
والموت له سكرات وكربات، وهي تعتري كل مخلوق، وقد يهونها الله على بعض عباده، كالشهداء؛ لأن الشهيد "كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة"، كما في الحديث الصحيح[3].
وقد تشدد هذه السكرات على بعض العباد تخفيفًا من الذنوب، ورحمة وزيادة في الدرجات، كالأنبياء، وفي مقدمتهم خاتمهم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، فإنه قد لقي من الموت شدة، وهو أحب الخلق إلى الله.
ففي صحيح الإمام البخاري من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان بين يديه ركوة فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول : لا إله إلا الله إن للموت سكرات، ثم نصب يده فجعل يقول: "في الرفيق الأعلى". حتى قبض ومالت يده[4].
وحينما ثقل النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل يتغشاه فقالت فاطمة - رضي الله عنها -: واكرب أباه، فقال لها: "ليس على أبيك كرب بعد اليوم"[5].
حتى إنه من شدة كربه قال: "هريقوا علي من سبع قرب، لم تحلل أوكيتهن، لعلي أعهد إلى الناس"[6].
وكان كلما اغتسل عليه الصلاة والسلام، وهم بالصلاة مع الناس يغمى عليه - ثلاث مرات -[7].
وتقول عائشة:
مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنه لبين حاقنتي[8] وذاقنتي[9] فلا أكره شدة الموت لأحد أبدًا بعد النبي - صلى الله عليه وسلم[10].
وتشدد هذه السكرات على الكفار، وكذلك على عصاة المسلمين، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [الأنعام: 93].
وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ [الأنفال: 50].
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث البراء بن عازب قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وإن العبد الكافر - وفي رواية: الفاجر - إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الاخرة، نزل إليه من السماء ملائكة - غلاظ شداد -، سود الوجوه، معهم المسوح[11] من النار، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود - الكثير الشعب - من الصوف المبلول، فتقطع معها العروق والعصب"[12].. الحديث.
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يتمنين أحدكم الموت، إما محسن فلعله يزداد خيرًا، وإما مسيء لعلعه يستعتب"[13].
وروى الشيخان من حديث أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان لا بد متمنيًا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي و توفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي"[14].
وحق على كل إنسان أن يستعد للموت قبل نزوله، وذلك بالمبادرة بالعمل الصالح قبل حلول الأجل.
لقد حثنا ربنا - عز وجل - أعظم الحث، ودعا إلى اغتنام الفرص في زمن المهلة، وأخبرنا أن من فرط في ذلك تمناه، وقد حيل بينه وبينه، قال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99- 100].
وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [المنافقون: 9- 10].
قال الشاعر:
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدًا
ندمت على التفريط في زمن البذر
|
روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر قال: "أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وكان ابن عمر يقول إذا أصبحت فلا تنتظر المساء وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك"[15].
وفي رواية للترمذي: "وعد نفسك من أهل القبور، فإنك لا تدري يا عبدالله ما اسمك غدًا"[16].
قال الشاعر:
تفانوا جميعًا فما مخبر
وماتوا جميعًا ومات الخبر
تروح وتغدو بنات الثرى
وتمحي محاسن تلك الصور
فيا سائلي عن أناس مضوا
أما لك فيما ترى معتبر
|
وقال آخر:
ولو أنا إذا متنا تركنا
لكان الموت غاية كلِّ حيِّ
ولكنَّا إذا متنا بعثنا
ونسأل بعدها عن كل شيِّ
|
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] سنن الترمذي برقم (٢٣٠٧) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/266) برقم (1877).
[2] برقم (٤٢٥٩) وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (١٣٨٤).
[3] سنن النسائي برقم (٢٠٥٣) وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (2/441) برقم (1940).
[4] برقم (٤٤٤٩).
[5] قطعة من حديث في صحيح البخاري برقم (٤٤٦٢).
[6] قطعة من حديث في صحيح البخاري برقم (٤٤٤٢).
[7] صحيح مسلم برقم (٤١٨).
[8] قال ابن الأثير: الحاقنة: الوهدة المنخفضة بين الترقوتين من الخلف، النهاية في غريب الحديث (1/64).
[9] قال ابن الأثير: الذاقنة: الذقن، وقيل: طرف الحلقوم، وقيل: ما يناله الذقن من الصدر، النهاية في غريب الحديث (2/162).
[10] صحيح البخاري برقم (٤٤٤٦).
[11] المسوح: وهو ما يلبس من نسيج الشعر على البدن تقشفًا وقهرًا للبدن.
[12] (30/501) برقم (١٨٥٣٤) وقال محققوه: إسناده صحيح، وصححه الشيخ الألباني في كتابه أحكام الجنائز وبدعها، وجمع زيادات الحديث (ص ١٩٨-202).
[13] (13/23) برقم (٧٥٧٨) وقال محققوه: إسناده صحيح.
[14] صحيح البخاري برقم (٦٣٥١)، وصحيح مسلم برقم (٢٦٨٠).
[15] سبق تخريجه.
[16] برقم (٢٣٣٣) وصحح الزيادة الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (١١٥٧).
المصدر : شبكة الألوكة
تم النشر يوم
السبت، 3 مايو 2014 ' الساعة