يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعاظمها بآبائها
عبد العزيز بن محمد
عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم فتح مكة فقال: يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان: بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله، والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب قال الله: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } أخرجه الترمذي، وأورده الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة.
قوله: قد أذهب عنكم فيه أن دين الإسلام دين كمال، شامل لكل الخيرات منقىً من جميع السلبيات، دين شمل جميع المصالح الذي يكون بها قوام الدين والدنيا والآخرة. وقوله: عِِبِّيَّة أو عُبِّيَّة الجاهلية يعني الكبر والتفاخر، قال بعضهم: مأخوذ من عباب الماء إذا ارتفع، والمتكبر يرتفع على الآخرين.
وقوله: وتعاظمها بآبائها فيه ذم التعاظم بالأنساب على سبيل انتقاص الآخرين وازدرائهم، وأن من اتصف بذلك بتعصبه بالنسب أنه متشبه بالجاهليين في تعصبهم وتفاخرهم بآبائهم، وهنا يحسن أن يقال: إن تفاضل الناس فيما بينهم في الغالب لا يخرج عن أربعة أمور: بالنسب ،وبالحسب، وبكثرة المال، أو كثرة الولد، في الغالب أن هذه الموازين يفخر بعض الناس على بعض أو يتفاخر الناس بها، ولكن هذه الموازين لاغية لا تنفع أصحابها إلا إذا كانت في طاعة الله: { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ } هذا ميزان النسب، وميزان الحسب والفخر بالعشيرة: { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ } فإن كان حسبه منصبه أو سلطانه، فقارون وفرعون لم ينفعهما جاههما ولا حسبهما.
وأما ميزان كثرة المال والولد: { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ } بقي ميزان واحد جاء مفصلًا:{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } وليس على عبد تقي نقيصة إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم، فإذا رأيت الإنسان يفتخر بنسبه أو بعنصره، أو بقوميته الإقليمية أو القبلية، ويزدري الآخرين فاعلم أنه متشبه بصفات الجاهليين؛ فالجاهليون كانوا يتفاخرون ويتعاظمون، وانظر إلى أبي جهل لما صعد ابن مسعود على ظهره أو على بطنه احتقره قبحه الله، ولمزه برويع الغنم من الأنفة التي كان يعتز بها، ولكن لم ينفعه ذاك:
فقـد رفـع الإسلام سلمان فارسا وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب
وقوله: بر تقي وفاجر شقي هين على الله، أيضًا يفيد أن التقوى هي الميزان وهي الرفعة الحقيقية، وقوله والناس بنو آدم، هذا فيه رد على النظرية الإلحادية التي تزعم أن أصل الإنسان كان حيوانًا، وهي نظرية كما قيل: بطلانها يغني عن إبطالها، ونكارتها تغني عن إنكارها، وسقوطها يغني عن إسقاطها، نظرية النشوء والارتقاء والتطور، بأن أصل الإنسان كان قردًا، ثم مع تقادم الزمن تكوَّن حتى أصبح بهذه الصورة، فهذه نظرية كفرية إلحادية.
وقوله: والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب فيه أن أولى الناس بالبعد عن ذلك هم أهل العلم ودعاة الخير؛ لأنهم أعلم الناس بأسباب التقوى، وأسباب التواضع، وأن يكونوا أبعد الناس عن التفاخر بأنسابهم وأحسابهم، ومن أسباب تفرق المسلمين التعصب للقومية، فهناك قومية عربية بحكم الانتماء للعنصر العربي، وهناك قومية إقليمية، أو قطرية أو قَبَلية، وكل هذه القوميات كلها من طبائع الجاهليين؛ لأن الإسلام نبذها وجعل الرابطة الشمولية: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } .
وفي استدلاله أو في ذكره -صلى الله عليه وسلم- لهذه الآية مسألة يحسن أن تذكر، وهي ما يسمى بتضمين الكلام للآيات، يقول بعض أهل العلم: لا يجوز أن تضمن الآيات في كلام الناس ألبتة، بمعنى: لو كنت تتكلم في كلام ثم دخل شخص أو تكلم شخص مثلًا اسمه يوسف، فتقول يوسف أعرض عن هذا، أو رجل اسمه موسى في يده شيء تقول وما تلك بيمينك يا موسى يمنع من هذا منعًا باتًا، وبعض أهل العلم يقسم المسألة إلى أقسام ثلاثة فيقول: إذا كان تضمين القرآن للكلام الماجن فهذا حرام لا يجوز؛ لأنه استخفاف واستهزاء بالقرآن الكريم، وقد ذكر بعض الأدباء في كتبهم أمثلة أُجِلُّ لساني وأسماعكم عنها.
والقسم الثاني: أن تذكر الآية في الكلام الجادّ وليس بالهزل من باب التأكيد، وهذا يجوز كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في كثير من الأحاديث ومنها: إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه؛ إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ومنها: لما أتى النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى بيت علي وفاطمة -رضي الله تعالى عنهما- فقال: قوما فصليا، فقال علي -رضي الله تعالى عنه - إن شاء الذي خلقنا بعثنا، فخرج عليه الصلاة والسلام، وهو يضرب فخذه بيده ويقول: وكان الإنسان أكثر شيء جدلًا .
وقد ذكر ابن حجر وغيره، أن فيه جواز انتزاع الشاهد أو الاستشهاد بالآية في الكلام، قسم آخر وهو تضمين القرآن في الشعر، طبعًا إن كان الشعر ماجنًا فيلحق بالقسم الأول؛ لأن النبي -عليه السلام- يقول: الشعر كالكلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح أما إذا كان الشعر جادًّا ومعانيه صحيحة، قالوا فيترخص في هذا، ومثلوا بقول الشاعر:
يا من عدا ثم اعتـدى ثم اقـترف ثم انتهـى ثم ارعـوى ثم اعترف
أبشـر بقـول اللـه في آياتــه إن ينتهـوا يغفر لهم ما قـد سلف
أبشـر بقـول اللـه في آياتــه إن ينتهـوا يغفر لهم ما قـد سلف
وقول الآخر لما أقرض صاحبه دينًا، قال: أنلني، يعني: أعطني من النيل:
أنلـني بالـذي استقـرضت خطـا وأشـهد معـشرًا قـد شاهــدوه
فـإن اللــه خــلاق البرايــا عنـت لعظمـة هيبتـه الوجــوه
يقــول إذا تــداينتم بـديــن إلـى أجــل مســمى فاكتبـوه
فـإن اللــه خــلاق البرايــا عنـت لعظمـة هيبتـه الوجــوه
يقــول إذا تــداينتم بـديــن إلـى أجــل مســمى فاكتبـوه
وبكل حال من منع استشهاد الآيات في الشعر قال من باب قوله تعالى: { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } عودًا على الحديث فيه على دعاة الخير أن يكونوا أبعد الناس من هذه الخصال الجاهلية، التعصب والتفاخر وأن ذلك يدل على ضعف في الإيمان، وعلى عدم عدل مع الإخوان، فأولى الناس بالتواضع والبعد عن التفاخر هم دعاة الخير،
تم النشر يوم
الاثنين، 29 سبتمبر 2014 ' الساعة