وفديناه بذبح عظيم
الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل الحمد لله الغني الحميد؛ كتب آجال العباد وأرزاقهم، وشرع لهم دينهم ومناسكهم، نحمده على ما هدانا وأولانا، ونشكره على ما حبانا وأعطانا؛ فالخير بيديه، والشر ليس إليه، إنَّا به وإليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ اجتمعت قلوب المؤمنين على تعظيمه ومحبته، وتدفقت جموع الحجيج على بيته ومنسكه؛ فله سبحانه يعبدون، ويطوفون بالبيت ويسعون، ويقفون بعرفة ويدعون، وباسمه يذبحون وينحرون، فهم لمرضاته وجنته يطلبون، ومن غضبه وعذابه يحذرون ويفرون، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أقام الحجة، وأوضح المحجة، وقطع المعذرة، وأرسى دعائم الملة، فمن أطاعه رشد واهتدى، ومن عصاه فقد ضل وغوى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وكبروه وعظموه، واعبدوه واشكروه، واحمدوه وسبحوه؛ فإن هذه الأيام هي أعظم الأيام، وفيها تجتمع العبادات الكبار، وتتوج بأكبر أعياد الإسلام.. فأعطوها حقها، وأكثروا من العمل الصالح فيها؛ فإن العمل فيها ليس كالعمل في غيرها ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [الحج: 34، 35].
أيها الناس: التقرب لله تعالى بالذبح قديم قدم البشر، ونقل في بعض شرائع المرسلين ما يدل عليه، وفي قصة ابني آدم المذكورة في سورة المائدة أنهما ﴿ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27]. جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أحدهما تقرب بكبش، وتقرب الآخر بصرة طعام، فتقبل من صاحب الكبش.
وفي أكثر ثقافات البشر ودياناتهم صار القربان وصفا للذبائح التي تذبح على جهة التعبد. وكان الوثنيون يتقربون لمعبوداتهم بالذبح، ومنهم من كان يقرب طفلا أو امرأة حسناء تذبح لصنم أو معبد أو نهر كما كان يفعل الفراعنة واليهود وقدماء الهند وبوذية الصين وغيرهم. ولهم فيها معتقدات خرافية تأباها العقول الصريحة، ولهم فيها شعائر تتقزز منها النفوس المستقيمة، وتأبها الفطر السليمة.
بيد أن أعجب قصة نقلت إلينا في التقرب إلى الله تعالى بالذبائح هي الابتلاء العظيم الذي وقع للخليل عليه السلام بعد هجرته لله تعالى وانقطاعه عن أهله وعشيرته.. ابتلي بما فرح به.. ابتلي في بكره إسماعيل، وهو الأب المشفق على الولد، ولم يرزق ولدا إلا على كبر، والشيخ أجزع على ولده من غيره.. رزق الولد بعد طول انتظار بدعوة دعاها فقال ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الصافات: 100] فاستجيب له، فحمد الله تعالى على ما أعطاه، فقال عليه السلام ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ [إبراهيم: 39].
وفي غمرة الفرح بالولد يؤمر الخليل عليه السلام بمفارقته وأمه، وتركهما في مكة، والهجرة للشام. فتربى إسماعيل في كنف أمه هاجر في مكة. ثم كان الابتلاء الأعظم، والامتحان الأشد حين بلغ الولد مبلغ الشباب، ورجا الخليل نفعه، وهو غلام حليم نجيب، ونفوس الآباء تتعلق بالحلماء العقلاء من أبنائهم؛ إذ أمره الله تعالى بذبحه ﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ﴾ [الصافات: 101- 102].
امتحان للأب الذي سيقدِّم ولده قربانا لربه عز وجل، وامتحان للولد في الاستسلام للذبح إرضاء لله تعالى، مع ملاحظة أنه أُمر أن يذبحه وليس يرميه برمح، أو يرديه من شاهق، أو يسقيه سُمًّا، وإلا لكان أهون.. أُمر أن يباشر نحره بيده، وذلك أشد إيلاما للأب والولد حين يلتقي البصران، ويتبادلان النظرات، والموت أهون على الإنسان من ذلكم الموقف.
هذا الابتلاء العظيم لا يثبت فيه إلا الصديقون المستسلمون لأمر الله تعالى، والخليل قد جمع بين النبوة والصديقية، فاستحق القرب والخلة ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ﴾ [مريم: 41].
وحين شاور الخليل ابنه في ذبحه بعد الرؤيا التي رآها لم يكن الخليل مترددا، ولا مخيرا لإسماعيل في ذبحه، وإنما أراد منه أن يستعد لهذا البلاء، وأن يبلو صبره واستعداده للتسليم لأمر الله تعالى، وطاعة أبيه المأمور بذلك.. ﴿ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ﴾ [الصافات: 102] فكان جواب الولد دليلا على ما وُصف به من الحلم ورجاحة العقل ﴿ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الصافات: 102]. فأعان الولد والده على تنفيذ أمر الله تعالى باستسلامه وطاعته، ووعده بالصبر على ألم الموت.
وحانت ساعة التنفيذ، والأب يسوق ابنه للموت، ويضجعه للذبح، فأمر الله تعالى لا بد أن يمضيه الأب وابنه.. استسلم إبراهيم وإسماعيل لأمر الله تعالى، فجاء الفرج منه سبحانه بالفداء العظيم ﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ [الصافات: 103 - 107]. وكان هذا الذبح كبشا عظيما فدى الله تعالى به إسماعيل، فذبحه الخليل عليه السلام، واحتفظ إسماعيل بقرنيه، فجعله في الكعبة، وظلت قريش تتوارثه إلى بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، واحترق القرنان في خلافة بني أمية لما احترق البيت. قَالَ الشَّعْبِيُّ: رَأَيْتُ قَرْنَيِ الْكَبْشِ فِي الْكَعْبَةِ.
ولم يكن الله تعالى إلا مبتليا للأب وابنه، فثبتا في الابتلاء، وصدَّقا الرؤيا، فكان بلاء عظيما اجتازه الرسولان الكريمان بخير اختيار، فكان إبراهيم وافيا لربه، وكان إسماعيل صادقا في وعده.. ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾ [النجم: 37] ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ﴾ [مريم: 54].
حادثة عظيمة خلَّد الله تعالى بها ذكر إبراهيم وإسماعيل، وفيها من صور الاستسلام لله تعالى ما يزيد الإيمان، ويقوي محبة الأنبياء؛ لأنهم قدوة البشر، وهم الصلة بينهم وبين الله تعالى، فما عُرف الوحي إلا منهم عليهم الصلاة والسلام.
وبعد قرون من هذه الحادثة العظيمة، يعيد التاريخ نفسه في مكة بحادثة أخرى تشبهها، وهي أن عبد المطلب نذر إن رزقه الله تعالى عشرة من الولد يمنعونه ويكونون قوة له أن يذبح أحدهم عند الكعبة؛ شكرا لله تعالى على هبته.. فرزق عشرة من الولد، فضرب الأزلام لينظر من يذبح من ولده على عادة أهل الجاهلية، فخرج القدح على ابنه عبد الله والد النبي عليه الصلاة والسلام، وكان أحب ولده إليه، فعظم ذلك عليه وعلى أخوال الولد، فمنعوه أن يذبحه، فاستفتى الكهان، فأفتوه بأن يقدح على ولده وعلى الإبل حتى خرج القدح على الإبل حين بلغت مئة جزور ففداه بها، ونجا من الذبح؛ ولذا سُمي النبي عليه الصلاة والسلام ابن الذبيحين، باعتبار والده عبد الله، وجده إسماعيل عليه السلام.
وكان اليهود يتقربون بالذبح لله تعالى على نجاتهم من فرعون وبطشه، ولما خلفهم النصارى وبدلوا دين المسيح عليه السلام زعموا أن المسيح قتل وصلب، وزعموا أن المصلوب قد فدى البشرية بدمه، فعبدوه وجعلوه لله تعالى ندا، وألغوا التقرب لله تعالى بالذبح.
وأما أمة العرب فانحرفت عن دين الخليل عليه السلام إلى عبادة الأوثان فكانوا يتقربون لها بالذبح من دون الله تعالى.
ثم لما بعث النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام أعاد الحنيفية ملة إبراهيم، ووجه الذبح لمن يستحق العبادة دون سواه، فشرعت الأضاحي والهدايا تذبح لله تعالى وعلى اسمه ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي ﴾ -أي: ذبحي- ﴿ وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163]. ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ [الكوثر: 2] وقال النبي صلى الله عليه وسلم:« لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ» رواه أحمد.
فكانت الأضحية شعيرة ظاهرة، وسنة باقية، وهي دليل على التوحيد: أن يذبح لله تعالى، ولا يذبح لغيره، وحرمت الذبيحة إذا ذبحت لغير الله تعالى، كتعظيم الأصنام أو الأشخاص أو القبور أو نحوها ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 173].
بارك الله لي ولكم في القرآن....
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين؛ عظَّم شأن الذبح والنحر، وأمر في هذه الأيام بالتكبير والذكر، ورتب عليه عظيم الأجر، نحمده فهو أهل الحمد، ونشكره على نعم لا تحصى ولا تعد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
أيها الناس: من خصائص هذه الأيام العظيمة أن رأسها وتاجها يوم النحر قد خص بعبادة الذبح لله تعالى، وإنهار دماء الأنعام تعظيما له سبحانه، وشكرا لنعمه وعطائه؛ فالحجاج ينسكون له بالهدايا، وأهل الأمصار يتقربون له بالضحايا، وهي منهم وإليهم، فينالون أجرها، ويأكلون لحمها ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ﴾ [الحج: 37]. والسنة أن يباشر صاحب الهدي والأضحية ذبحها بنفسه، وأن يأكل منها ويهدي ويتصدق. قال أَنَس رضي الله عنه:«ضَحَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ على صِفَاحِهِمَا يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ فَذَبَحَهُمَا بيده»رواه الشيخان.
ولأنها لله تعالى كان لا بد أن تكون طيبة سالمة من العيوب فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ فَيْرُوزَ، قَالَ: سَأَلْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ: مَا لَا يَجُوزُ فِي الْأَضَاحِيِّ. فَقَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -... فَقَالَ: " أَرْبَعٌ لَا تَجُوزُ فِي الْأَضَاحِيِّ: الْعَوْرَاءُ بَيِّنٌ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ بَيِّنٌ مَرَضُهَا، وَالْعَرْجَاءُ بَيِّنٌ ظَلْعُهَا، وَالْكَسِيرُ الَّتِي لَا تَنْقَى". قَالَ: قُلْتُ: فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ فِي السِّنِّ نَقْصٌ. قَالَ: «مَا كَرِهْتَ فَدَعْهُ وَلَا تُحَرِّمْهُ عَلَى أَحَدٍ»رواه أبو داود.
والأفضل أن يأخذ أطيب شيء يقدر عليه، قال أَبَو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلٍ: «كُنَّا نُسَمِّنُ الأُضْحِيَّةَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ المُسْلِمُونَ يُسَمِّنُونَ».
وصاحب الأضحية يمسك عن شعره وأظفاره إلى أن تُذبح أضحيته؛ لحديث أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:«إذا دَخَلَتْ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أحدكم أَنْ يُضَحِّيَ فلا يَمَسَّ من شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شيئاً» وفي رواية:«فلا يَأْخُذَنَّ شَعْرًا ولا يَقْلِمَنَّ ظُفُرًا» رواه مسلم.
ومن طرأت عليه الأضحية أثناء العشر، أو وجد ثمنها بعد مضيِّ أيام منها فيشرع له أن يضحي، ولو كان قبل نيته قد أخذ من شعره وأظفاره، فتقربوا لله تعالى بها في أفضل أيامه، وطيبوا بها نفسا؛ فإنها من شعائر الله تعالى المعظمة ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32].
وصلوا وسلموا على نبيكم..
تم النشر يوم
الأربعاء، 1 أكتوبر 2014 ' الساعة