(الأخطاء المتعلقة بالعقيدة)
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله..........
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء:1]
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب:70]
أما بعد....،
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار..
جاء في كتاب "المناهي اللفظية" للشيخ ابن عثيمين رحمه الله أنه قال:
"يقول بعض الناس: "إن قضية العقيدة ليست مهمة، والمفروض ألا يركز عليها عند الدعوة؛ لأن العقيدة مستقرة في القلوب وتابعة؟
والجواب على ذلك: "أننا لابد أن نعلم أن العقيدة هي الأساس، وأنه لابد أن تُصَحَّح العقيدة قبل كل شيء.
- وقول السائل: "إن العقيدة تابعة، فقول هذا خطأ، بل العقيدة متبوعة، وهي الأصل ولا عمل لمَن لا عقيدة له". اهـ بتصرف.
فرحمة الله على الشيخ حيث قال: "إن العقيدة هي الأساس، وأنه لابد أن تُصَحَّح العقيدة قبل كل شيء، وتجد مصداق هذا الكلام: أن ما من نبي إلا بدأ دعوته بالتوحيد وإفراد العبادة لله، ﴿ وما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾
[الأنبياء:25]
- وقد بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته بالتوحيد، فكان يدعو قريشاً ويقول لهم:
"قولوا لا إله إلا الله تفلحوا"
- فمَن وحد الله فهو في أمان يوم الفزع الأكبر، كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام:82]
- ومن أتى بالتوحيد الخالص فإن الله يُحَرِّم عليه النار يوم القيامة.
فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"فإن الله حرَّم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله"
- بل مَن حقَّق التوحيد؛ فلم يرض الله تعالى له جزاء إلا الجنة
فقد أخرج البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل"
- والتوحيد هو سبب لمغفرة الذنوب
ففي "سنن الترمذي" أن الله تعالى يقول:
"يا ابن آدم: لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً؛ لأتيتك بقرابها مغفرة"
- فالشرك هو السيئة الوحيدة التي لا يغفرها الله تعالى، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا ﴾ [النساء:48]
فمع بيان فضل التوحيد وشؤم وجرم الشرك برب العالمين، إلا أنك تجد بعض الناس قد اجتالتهم الشياطين، فحادوا عن الصواب، وأشركوا برب العالمين،
فاتخذوا الأنداد شركاء من دون الله تعالى، فتعلَّقُوا بالقبور والأموات، يطلبون منهم الغوث والمدد، يخافون منهم وينذرون لهم، يستشفون بهم ويجعلونهم وسطاء لله – بزعمهم – وغير ذلك من ألوان الشرك والتي جاء بعضها في الرسالة، أسأل الله تعالى أن ينفع بها، وأن يرد الأمة إليه رداً جميلاً؛ حتى نعبد الله على مراد الله، فتعود للأمة القيادة والريادة والعزة والكرامة كما كانت من قبل.
1. الذهاب إلى السحرة والكهنة والمشعوذين:
ومجرد الذهاب إلى هؤلاء حرام
أولاً: حكم السحر والسحرة والذهاب إليهم:
أما السحر فإنه كفر، ومن السبع كبائر الموبقات، وهو يضر ولا ينفع
قال تعالى في تعلمه: ﴿ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ﴾ [البقرة:102]
وقال تعالى: ﴿ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ﴾ [طه: 99]
والذي يتعاطى السحر كافر، قال تعالى: ﴿ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ﴾ [البقرة: 102]
وحكم الساحر القتل، وكسبه حرام خبيث، والجُهَّال والظلمة وضعفاء الإيمان يذهبون إلى السحرة لعمل السحر يعتدون به على أشخاص، أو ينتقمون منهم، ومن الناس مَن يرتكب مُحَرَّماً بلجوئه إلى الساحر لفك السحر، والواجب اللجوء إلى الله والاستشفاء بكلامه كالمعوذات وغيرها.
(مُحَرَّمات استهان بها الناس: صـــ14، 15)
فـوائد:
1ـ جاء في "فتاوى العقيدة"(ص331-333):
أن السحر ينقسم إلى قسمين:
الأول: عقد ورقي: أي قراءات وطلاسم يتوصل بها الساحر إلى الإشراك بالشياطين فيما يريد لضرر المسحور
قال الله تعالى: ﴿ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ ﴾ [البقرة:102]
الثاني: أدوية وعقاقير تؤثر على بدن المسحور وعقله، وإراداته وميله، وهو ما يسمَّى عندهم بالعطف والصرف، فيجعلون الإنسان ينعطف على زوجته أو امرأة أخرى حتى يكون كالبهيمة تقوده كما تشاء، والصرف بالعكس من ذلك، فيؤثر في بدن المسحور بإضعافه شيئاً فشيئاً حتى يهلك، وفي تصوره بأن يتخيل الأشياء على خلاف ما هي عليه.
- وتعلُّم السحر مُحَرَّم، بل هو كفر إذا كانت وسيلته الإشراك بالشياطين، قال الله تعالى :
﴿ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ...﴾ [البقرة:102]
فتعلُّم هذا النوع من السحر ـ وهو الذي يكون بواسطة الإشراك بالشياطين ـ كفر، واستعماله أيضاً كفر وظلم وعدوان على الخلق، ولهذا يُقتل الساحر إما ردة وإما حدًّا، فإن كان سحره على وجه يكفر به فإنه يُقتل ردة وكفراً، وإن كان سحره لا يصل إلى درجة الكفر، فإنه يُقتل حداً دفعاً لشره وأذاه عن المسلمين" اهـ بتصرف.
2- ما هو حكم النشرة " حل السحر عن المسحور"
جاء في "فتاوى العقيدة" (ص 334) أن النشرة الأصح فيه أنها تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن تكون بالقرآن الكريم، والأدعية الشرعية، والأدوية المباحة، فهذه لا بأس بها لما فيه من المصلحة وعدم المفسدة، بل ربما تكون مطلوبة؛ لأنها مصلحة بلا مضرة.
القسم الثاني: إذا كانت النُشرة بشيء مُحَرَّم، كنقض السحر بسحر مثله، فهذا موضع خلاف بين أهل العلم: فمن العلماء مَن أجازه للضرورة ومنهم من منعه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن النشرة فقال:
"هي من عمل الشيطان" (رواه أبو داود بسند جيد)
وعلى هذا يكون حل السحر بالسحر مُحَرَّماً، وعلى المرء أن يلجأ إلى الله بالدعاء والتضرع لإزالة ضرره، والله تعالى يقول:﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة:186]
ويقول الله تعالى:﴿ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾[النمل: 62]. والله الموفق". اهـ
ثانياً: الذهاب إلى الكهنة والعرافين:
تعريف الكاهن والعراف:
قال الإمام البغوي كما في "شرح السنة" (12/182):
فالكاهن: هو الذي يخبر عن الكوائن في مستقبل الزمان، ويدعي معرفة الأسرار ومطالعة علم الغيب، وكان في العرب كهنة يدَّعُون معرفة الأمور، فمنهم مَن كان يزعم أن له رئيساً من الجن وتابعة تلقي إليه الأخبار، ومنهم مَن يدَّعِي أنه يستدرك الأمور بفهم أعطيه.
أما العرَّاف: فهو يدَّعي معرفة الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها، كالمسروق مَن الذي سرقه، ومعرفة مكان الضالة، وعندما تتهم المرأة بالزنا فيقول مَن صاحبها... ونحو ذلك من الأمور، ومنهم مَن يُسَمِّي المُنَجِّم: كاهناً.
وقال ابن باز رحمه الله: "الكاهن مَن يزعم أنه يعلم بعض المغيبات، وأكثر ما يكون ذلك مما ينظرون في النجوم لمعرفة الحوادث، ويستخدمون مَن يسترقون السمع من شياطين الجن، أو يخط الرمل، أو يضرب الحصى، أو ينظر في الفنجان، أو في الكف، أو بفتح الكتاب؛ زعماً منهم أنهم يعرفون بذلك علم الغيب، وهم كفار بهذا الاعتقاد لأنهم بهذا يدَّعُون مشاركة الله في صفة من صفاته الخاصة وهي علم الغيب.اهـ والذي يأتي إلى كاهن أو عرَّاف فيسأله من غير أن يصدقه فهذا مُحَرَّم، وعقوبة ذلك أن لا تُقبل له صلاة أربعين يوماً، ودليل ذلك:
ما أخرجه الإمام مسلم من حديث صفية بنت أبي عبيد عن بعض أزواج النبي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن أتى عرَّافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة".
قال النووي رحمه الله: "معناه أنه لا ثواب له فيها وإن كانت مجزئة بسقوط الفرض عنه، ولابد من هذا التأويل، فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى عرافاً إعادة صلاة أربعين ليلة.
- أما إذا أتى العراف أو الكاهن فصدقه بما يقول، فقد برئ أو كفر بما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، ومما أُنزل على النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ﴾ [الجن: 26- 27]
ودليل ما سبق ما أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"مَن أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد".
2. الذبح لغير الله:
قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [ الأنعام:162-163]
والنسك: هو الذبح، والذبح عبادة لا تصرف إلا لله.
ومع أن الصلاة والنسك هما من المحيا، إلا أن الله تعالى ذكر هاتين العبارتين بصورة خاصة، دلالة على تعظيمها وأنه لا ينبغي إلا أن يكونا لله، ولذلك قرن بينهما رب العالمين كذلك في قوله تعالى:
﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ [الكوثر:2]
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
"أمره أن يجمع بين هاتين العبادتين: وهما الصلاة والنسك الدالتان على القرب، والتواضع، والافتقار، وحسن الظن، وقوة اليقين، وأجلّ العبادات البدنية الصلاة، وأجلّ العبادات المالية النحر".
- فالذبح لغير الله حرام:
قال تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ﴾[المائدة:3]
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعليقاً على قوله:﴿ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ﴾
"ظاهره أن ما ذُبح لغير الله، مثل أن يقول: "هذه الذبيحة لكذا"، وإذا كان هذا هو المقصود، فسواء لفظ به أو لم يلفظ فهو مما أهل لغير الله به.
قال الشيخ حامد الفقي رحمه الله:"أصل الإهلال: رفع الصوت والإعلان، فالمقصود بـ﴿ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ﴾: ما أعلن فيه أنه منذور به لغير الله، سواء كان هذا الإهلال والإعلان قبل الذبح كأن يقول: "هذه شاة السيدة فلانة، أو السيد فلان" فيعرف الناس ذلك وأنها مُتهل بها لغير الله، ولو سمَّى الذابح باسم الله، فإن هذه التسمية اللفظية لاغية، والعبرة بالإهلال الحقيقي بما أنطوى من قصد التقرُّب به لغير الله، وكذلك أيضاً ما سمى من الطعام أو الشراب أو غيره نذراً وقربة لغير الله، فكل طعام يضع ليوزع على العاكفين عن هذه القبور والطواغيت باسمها وعلي بركتها هو مما أهل به لغير الله.
- الذابح على غير اسم الله ملعون
أخرج الإمام مسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات:"لعن اللهُ([1]) مَن ذبح لغير الله، لعن الله مَن لعن والديه، لعن الله مَن آوى محدثاً، لعن الله مَن غير منار الأرض"
- قال النووي رحمه الله كما في "شرح مسلم" (7/156):
"أما الذبح لغير الله، فالمراد به أن يذبح باسم غير الله تعالى، كمَن ذبح للصنم أو للصليب أو لموسى أو لعيسي ـ عليهما السلام ـ أو للكعبة... ونحو ذلك، فكل هذا حرام ولا تحل هذه الذبيحة.
فإن كان قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله تعالى والعبادة له؛ كان ذلك كفراً، فإن كان مسلماً قبل ذلك صار بالذبح مرتداً"
- قال صاحب "تيسير العزيز الحميد"(صــ158):
"وقد يجتمع في الذبيحة مُحَرَّمان وهما: الذبح لغير الله، والذبح على غير اسم الله، وكلاهما مانع للأكل منها، ومن ذبائح الجاهلية- الشائعة في عصرنا -" ذبائح الجن"، وهي أنهم كانوا إذا اشتروا داراً أو بنوها أو حفروا بئراً ذبحوا عندها، أو على عتبتها ذبيحة خوفاً من أذى الجن.
3. لبس الحلقة، والخيط، وتعليق التمائم، والخرزة، وحدوة الحصان، وخمسة وخميسة، وقرن الفلفل، والحذاء القديم، والحظَّــاظة، ورش الملح في أسبوع المولود، وتجميع سبع حبات فول بخيط:
وغير ذلك مما يفعله العامة؛ ظناً منهم أن هذا يجلب نفع أو يدفع ضر، والذي يملك هذا على الحقيقة هو الله وحده، قال تعالى: ﴿ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾[الزمر: 8]
قال في "فتح المجيد":
"فهذه الآية وأمثالها تبطل تعلُّق القلب بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر، وأنه شرك بالله".
1ـ أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه :
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إليه رهط، فبايع تسعة وأمسك عن واحد، فقالوا: يا رسول الله، بايعت تسعة وتركت هذا؟ قال: إن عليه تميمة([2])، فأدخل يده فقطعها فبايعه، وقال: مَن علَّق تميمة فقد أشرك"
2ـ أخرج أبو داود بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:
"سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: إن الرقى والتمائم والتولة([3])شرك"
وكان هذا الشرك في الجاهلية منتشراً، ومازال هذا الشرك منتشراً إلى الآن وإن تغيَّرت الأسماء، فقديماً كانوا يضعون هذه الخرزات أو الوتر على البعير دفعاً للعين، والآن يضع الناس حدوه الفرس على باب الدار، أو قرن فلفل، أو خرزة زرقاء داخل السيارة، أو تعليق حذاء قديم بها دفعاً للعين، أو رش الملح؛ ظناً منهم أنه يقع في عين الحسود، فكل هذا شرك أصغر لا يخرج من الملة، إذا ظنَّ أن هذه وسائل لدفع العين، وأن النافع الضار على الحقيقة هو الله, أما إذا ظن أنها تدفع ضر أو تجلب نفع بذاتها وينسب هذا إليها فهو شرك أكبر مخرج من الملة ،وذلك بعد إقامة الحجَّة على فاعلها إن كان جاهلاً بحكمها.
3- وأخرج ابن أبي حاتم: "أن حذيفة رضي الله عنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى فقطعة وتلا قوله:
﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾ [يوسف: 106]
بل انظري أيتها الأخت الكريمة إلى هذا الحديث
حديث أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح من حديث زينب زوج ابن مسعود رضي الله عنه تقول:
"كان عبد الله إذا جاء من حاجة، فأراد أن يدخل المنزل تنحنح ليعلمنا مخافة أن يهجم منا على أمر يكرهه، وأنه جاء ذات يوم وعندي عجوز ترقي من الحمرة، فلما جاء عبد الله تنحنح، قالت: فأدخلتها تحت السرير، قالت: فجاء حتى جلس معي على السرير، فرأى في عنقي خيطاً، فقال: ما هذا الخيط؟ قالت: خيط رقى لي فيه، قالت: فأخذه فقطعه، ثم قال: أنتم آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الرقى والتمائم والتولة شرك، فقلت له: لِمَ تقول هذا؟ لقد كانت عيني تقذف، وكنت اختلف إلى فلان اليهودي يرقيها، فإذا رقاها سكنت، فقال عبد الله: إنما ذلك من الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقى فيها كف عنها، إنما يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اذهب الباس رب الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاءك، شفاء لا يغادر سقما"
4. التشـاؤم:
أخرج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا عدوى ولا طيرة([4])وتعجبني الفأل: الكلمة الحسنة، والكلمة الطيبة"
ومن صور التشاؤم: التشاؤم بكثرة الضحك، التشاؤم من ذكر كلمة الموت، التشاؤم من اللون الأسود، التشاؤم من صوت البومة، أو الغراب، أو الحدأة، وطنين الأذن، ورفيف العين، وأكلان اليد وتنميل القدم.
لأن ذلك ينافي كمال التوحيد الواجب؛ لكونه من إلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته، وذلك بتعلُّق القلب به خوفاً وطعماً، ومنافاته للتوكُّل على الله الذي لا ينفع ولا يصده غيره.
والتطيُّر من أعمال الجاهلية، حيث كانوا يعتمدون على الطير في إمضاء الشيء أو الحجب عنه، فإذا رأى أحدهم طائراً طار يمنة استبشر واستمر، وإن طار يسرة تشاءم ورجع عمَّا عزم.
بل كان بعضهم إذا أراد شيئاً تعمَّد على تهيج الطير ليرى هل تطير يسرة أو يمنة، وكانوا يُسمُّون ما طار يمنة بالسانح وما طار يسرة بالبارح، وجاء الإسلام وأبطل كل هذه الخرافات، فنهانا عن التشاؤم لأن المسلم الصادق يعلم أن الأمور كلها بيد الله، فإذا عزم على أمر فليستعن به، وليمض فيه ولا يصده التشاؤم عن فعله.
أخرج الإمام مسلم عن معاوية بن الحكم رضي الله عنه - في حديث الجارية- قال:
"يا رسول الله منَّا رجال يتطيَّرون، قال: ذلك شيء تجدونه في صدوركم ولا يصدنكم"
وعلى هذا فينبغي علينا ترك التشاؤم والمضي في الأمر والتوكل على الله، وحسن الظن به، والاعتماد عليه؛ لأن الطيرة تتنافى تماماً مع هذا كله، فإن التشاؤم فيه سوء الظن بالله وتوقُّع البلاء، وهذا من الشرك.
أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطيرة شرك"
- وقد برأ النبي صلى الله عليه وسلم من الذين يتشاءمون.
فقد أخرج الطبراني في "الكبير "عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"ليس منَّا مَن تَطَيَّر أو تُطُيِّرَ له، ولا تَكَهَّنَ ولا تُكُهِّنَ له، أو تَسَحَّرَ أو تُسُحِّر له" ( ( صحيح الجامع:5435)
- ومَن وقع في شيء من ذلك فكفارته ما أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم
حيث قال كما عند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما:
"مَن ردَّته الطيرة من حاجة فقد أشرك، فقالوا: يا رسول الله، ما كفارة ذلك؟ قال: أن يقول أحدهم: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك"
- والتشاؤم من طبائع النفوس يقل ويكثر وأهم علاج له التوكل على الله تعالى
كما في قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال:
"وما منَّا إلا ويقع في نفسه شيء من ذلك، ولكن الله يذهبه بالتَّوكُّل"
وقفة:
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وتعجبني الفأل": يقول الإمام النوويرحمه الله:
"ومن أمثال التفاؤل أن يكون له مريض فيتفاءل بما يسمعه، فيسمع مَن يقول: "يا سالم" أو يكون طالب حاجة فيسمع مَن يقول: "يا واجد" فيقع في قلبه رجاء البرء أو الوجدان.. والله أعلم".
5. الحلف بغير الله:
أخرج الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"مَن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك"
وقوله: "فقد كفر أو أشرك" أخذ به طائفة من العلماء، فقالوا: يكفر مَن حلف بغير الله كفر شرك،
قالوا: ولهذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم بتجديد إسلامه بقوله: "لا إله إلا الله".
ولكن الجمهور قالوا: "لا يكفر كفراً ينقله عن الملَّة، لكنه من الشرك الأصغر كما نص على ذلك ابن عباس وغيره؛ وذلك لأن الحالف لا يعتقد أن عظمة المحلوف به كعظمة الله تعالى.
- وأخرج الحاكم بسند صحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"كل يمين يُحلَف بها دون الله شرك".
- وأخرج أبو داود وغيره بسند صحيح عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَن حلف بالأمانة فليس منا" (السلسلة الصحيحة:94)
- وأخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنه:
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب يحلف بأبيه، فقال: ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، ومَن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت".
- قال الحافظ ابن حجر رحمه الله كما في "فتح الباري" (11/540):
"قال العلماء: "السر في النهي عن الحلف بغير الله؛ أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه، والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده".
- وقال الشيخ حامد الفقي رحمه الله:
"فالنهي عن الحلف بغير الله إنما جاء لأن حقيقة اليمين والقصد منه إنما هو تأكيد حالف قوله بالقسم بالمحلوف به الذي يقدر أن ينتقم منه ويعاقبه إن كان كاذباً، ولذلك يُرَى أكثر العامة يحلفون بالله كذباً غير مبالين، فإذا استُحْلفوا بمَن يعظِّمُونَهُ في الموتى والأولياء ويعتقدون له السر والتصرف تكعكعوا وصدقوا، وإن كان في ذلك ذهاب بعض ما يحرصُون عليه في منفعة يُضَحُّون بها خوفاً من عقاب وانتقام وتصرف ذلك الولي فيهم.
- وقال في "تيسير العزيز الحميد" ما ملخصه:
"أجمع العلماء: على أن اليمين لا تكون إلا بالله أو بصفاته، وأجمعوا على المنع من الحلف بغيره".
فوائد:
1. من أخطأ وحلف بغير الله بلا قصد أو تعمُّد، فليقل في نفس اللحظة: "لا إله إلا الله"
فقد أخرج البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"مَن حلف منكم، فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله، ومَن قال لصاحبه:
تعال أقامرك فليتصدق بشيء".
2. الحلف بالقرآن جائز على تفصيل:
إذا كان مقصد الحالف بالقرآن أن يحلف على الجلدة أو الورق أو المداد (الحبر)؛ فهذا غير جائز وهو من الشرك، أما إن كان مقصد الحالف بالقرآن أنه يحلف بكلام الله فهذا مشروع.
- جاء في "فتاوى العقيدة"(ص 288): "وأما الحلف بالقرآن الكريم فإنه لا بأس به؛ لأن القرآن الكريم كلام الله تعالى تكلم به حقيقة بلفظه مريداً لمعناه، وهو موصوف بالكلام، فعليه يكون الحلف بالقرآن الكريم حلفاً بصفة من صفات الله تعالى وذلك جائز.
6. النذر لغير الله:
خرج علينا في هذا الزمان بعض النساء – هداهن الله – تنذر لكن لغير الله فتقول إحداهن: "دستة شمع لأم هاشم" أو تقول: "لو حدث كذا، أو شفى الله وحيدي، أو جاء فلان من السفر؛ وضعت نقود في صندوق النذور للشيخ الفلان".
- قال الإمام السيوطي رحمه الله: "هذا نذر معصية باتفاق العلماء، لا يجوز الوفاء به، بل عليه كفارة يمين عند كثير من العلماء منهم أحمد وغيره".
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (24/319):
"ولهذا لا يشرع باتفاق المسلمين أن ينذر للمشاهد التي على القبور لا زيت ولا شمع ولا دراهم ولا غير ذلك وللمجاورين عندها وخُدَّام القبور، ومَن نذر ذلك فقد نذر معصية
فقد أخرج البخاري في كتاب "الأيمان والنذور" عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"مَن نذر أن يطيع الله فليطعه([5])، ومَن نذر أن يعصي الله فلا يعصه"
وقد أجمع العلماء على أن مَن نذر طاعة لشيء يرجوه، كأن شفي الله مريضاً؛ فعليَ أن أتصدق بكذا... ونحو ذلك وجب عليه إن حصل له ما علق النذر على حصوله.
وقد مدح الله الأبرار الذين من وصفهم: ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ﴾[الإنسان:7]
وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ﴾ [البقرة:70]
- وقال الشيخ قاسم الحنفي في "شرح درر البحار":
"النذر الذي ينذره أكثر العوام على ما هو مشاهد كأن يكون للإنسان غائب، أو مريض، أو له حاجة؛ فيأتي إلى بعض العلماء أو الأولياء، ويقول: "يا سيدي فلان إن ردَّ الله غائبي، وعُوفي مريض، أو قضيت حاجتي؛ فلك من الذهب كذا، أو الفضة كذا، أو من الطعام كذا، فهذا النذر باطل بالإجماع لوجوه منها: أنه نذر لمخلوق، والنذر لمخلوق لا يجوز، وكذلك لأنه عبادة العبادة لا تكون لمخلوق، وإذا ظنَّ أن الميت يتفرَّد بالأمور دون الله واعتقد ذلك فقد كفر.
يقول صاحب "سبل السلام": "وأما النذور المعروفة في هذه الأزمنة على القبور والمشاهد والأموات فلا كلام في تحريمها؛ لأن الناذر يعتقد في صاحب القبر أنه ينفع ويضر، ويجلب الخير، ويدفع الشر، ويعافي الأليم، ويشفي السقيم، وهذا هو الذي كان يفعله عباد الأوثان.
7. شد الرحال إلى قبور الأولياء والصالحين ودعاؤهم من دون الله:
بداية ينبغي أن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بالغ في حماية جناب التوحيد، وحذَّر وأنذر وتوعَّد كلَّ مَن فتح باباً للشرك، وقام النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحق فسَدَّ جميع الطرق المؤدية إلى الشرك، ومنها بناء وإقامة المساجد على القبور.
فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنه قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى؛ اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد، قالت: فلولا ذلك أبرز قبره غير أن يخشى أن يتخذ مسجداً"
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
"وكأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه مرتحل من ذلك المرض؛ فخاف أن يعظم قبره كما فعل مَن مضى؛ فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذم مَن يفعل فعلهم". اهـ
فعُلِمَ بهذا أنه لا يجتمع في شرع الله تعالى مسجد وقبر.
- ولكننا خالفنا هذا الأمر، وأدخلنا القبور المساجد، أو شيَّدنا المساجد على القبور، بل ازدادت المخالفة بأن نذر بعضنا إلى القبور، ودُعي المقبور من دون الله، وشدت إليها الرحال.
وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا تشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي"
وعلى هذا يحرم شد الرحال إلى زيارة قبور الصالحين والمواضع الفاضلة المتبرك بها والصلاة فيها.
- قال شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب "الزيارة"( صـ47):
"ليس الدعاء عند القبور بأفضل من الدعاء في المساجد وغيرها من الأماكن، ولا قال أحد من السلف والأئمة أنه مستحب أن يقصد القبور لأجل الدعاء عندها، لا قبور الأنبياء ولا غيرهم".
وقال صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس:"إن مَن كان قبلكم، كانوا يتَّخِذُون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك" (رواه ابن أبي شيبة)
- فإذا كان قد حرم اتخاذها مساجد والإيفاد عليها، عُلِمَ أنه لم يجعلها محلاً للعبادة لله والدعاء
قال تعالى:﴿ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [يونس: 19]
وقال تعالى: ﴿ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النمل:62]
ومع هذا تجد البعض يتوجَّه إلى قبر الأولياء؛ اعتقاداً منهم أنهم يقضون الحاجات، ويفرجون الكربات، فإذا ما وقعت عليهم مصيبة أو بلاء، يستغيثون بالنبي صلى الله عليه وسلم أو الولي، فمنهم من يقول: "يا محمد"، ومنهم من يقول: "يا علي"، ومنهم من يقول: "يا حسين، أو يا بدوي، أو يا جيلاني، أو يا شاذلي، أو يا رفاعي والله يقول: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ﴾ [الأعراف:194]
وبعض عُبَّاد القبور يطوفون بها ويستلمون أركانها ويتمسَّحُون بها، ويُقَبِّلُون أعتابها، ويُعَفِّرُون وجوههم في تربتها، ويسجدون لها إذا رأوها، ويقفون أمامها خاشعين متذللين متضرعين، سائلين مطالبهم وحاجتهم: من شفاء مريض، أو حصول ولد، أو تيسير حاجة، وربما نادى صاحب القبر، ويقول:
"يا سيدي جئتك من بلد بعيد فلا تخيبني"، وكل هذا مُحَرَّم شرعاً ولا يجوز في دين الله، وأين هم من قوله تعالى:﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ﴾[الأحقاف:5] - وأخرج البخاري في "صحيحه" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"مَن مات وهو يدعو من دون الله ندًّا دخل النار"
بل هناك مَن يعتقد أن الأولياء يتصرَّفُون في الكون وأنهم يضرُّون وينفعون، وهذا شرك في الربوبية
والله تعالى يقول: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ﴾ [يونس:107]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"الأمور المبتدعة عند القبور مراتب:
1- المرتبة الأولى: أبعدها عن الشرع، وهو أن يسأل الميت حاجته، ويستغيث به فيه،ا كما يفعله كثير من الناس، وهؤلاء من جنس عُبَّاد الأصنام، ولهذا قد يتمثَّل لعُبَّاد الأصنام الشيطان في صورة الميت أو الغائب، ، وهذا يحصل للكفار من المشركين، وأهل الكتاب يدعو أحدهم مَن يعظمه فيتمثل له الشيطان أحياناً وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة، وكذلك السجود للقبر والتمسُّح به وتقبيله.
2- المرتبة الثانية: أن يسأل الله تعالى به، وهذا يفعله كثير من المُتأخِّرين، وهو بدعة باتفاق المسلمين.
3- المرتبة الثالثة: أن يسأله نفسه – أي المقبور
4- المرتبة الرابعة: أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب؛ إذ أنه أفضل من الدعاء في المسجد، فيقصد زيارته والصلاة عنده لأجل طلب حوائجه، فهذا أيضاً من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين وهي مُحَرَّمة، وما علمت في ذلك نزاعاً بين أئمة الدين، وإن كان كثير من المتأخرين يفعل ذلك، ولم يكن لأحد من سلف الأمة في عصر الصحابة والتابعين ولا تابعي التابعين، يعكف عند القبور، يسأل أصحابها ويستغيث بهم، ويطلب قضاء حوائجه من أصحابها الموتى.
ويقول شيخ الإسلام أيضاً:
"ومن أعظم الشرك أن يستغيث الرجل بميت أو غائب، فيقول: "يا سيدي فلان" كأنه يطلب منه إزالة ضرة أو طلب منفعة، وهذا حال النصارى في المسيح وأمِّه وأحبارهم ورهبانهم، ومعلوم أن خير الخلق وأكرمهم على الله نبي الله صلى الله عليه وسلم، وأعلم الناس بقدره وحقه أصحابه، ولم يكونوا يفعلون شيئاً من ذلك لا في مغيبه ولا بعد مماته.
ويقول شيخ الإسلام أيضاً:
"وأما الرجل إذا أصابته نائبة أو خاف شيئاً فاستغاث بشيخه؛ يطلب تثبيت قلبه من ذلك الواقع، فهذا من الشرك، وهو من جنس دين النصارى، فإن الله هو الذي يصيب بالرحمة ويكشف الضر
قال تعالى: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ﴾ [يونس:107]
وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا (أي عند نزول الكرب) أن يكثر العبد من ذكر الله، والاستغفار، والصلاة، والدعاء، والتضرُّع إلى الله تعالى، ولم يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالاتجاه إلى المشايخ والصالحين كما يفعل بعض الجهلاء، قال تعالى: ﴿ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النمل:62]،
ومن المعلوم أنه لا يجوز أن يستغيث الإنسان بأحد من الأموات؛ لأن الميت لا يملك لنفسه حولاً ولا قوة، فكيف يملك لغيره؟
وكذلك لا يجوز أن يستغيث الإنسان بأحد من الأحياء في أمر لا يقدر عليه إلا الله تعالى
- وجاء في "فتاوى ابن باز" رحمه الله أن زيارة القبور على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: مشروع، وهو أن يزورها للدعاء لأهلها، أو لتذكُّر الآخرة.
النوع الثاني: أن تزار للقراءة عندها، أو للصلاة عندها، أو للذبح عندها؛ فهذه بدعة ومن وسائل الشرك.
النوع الثالث: أن يزورها للذبح للميت والتقرُّب إليه بذلك، أو لدعاء الميت من دون الله، أو لطلب المدد منه أو الغوث أو النصر؛ فهذا شرك أكبر - نسأل الله العافية.
فيجب الحذر من هذه الزيارات المبتدعة، ولا فرق بين كون المدعو نبياً أو صالحاً... أو غيرهما.
ويدخل في ذلك ما يفعله بعض الجُهَّال عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم من دعائه والاستغاثة به، أو عند قبر الحسين أو البدوي، أو الشيخ عبد القادر الجيلاني... أو غيرهم.
- هذا وقد وجه سؤال إلى دار الإفتاء والبحوث العلمية بالمملكة العربية السعودية والفتوى برقم (2251) بتاريخ 5/1/139 هـ، والسؤال هو:
هناك فرقتان: فرقة تقول: "إن الاستعانة بالأنبياء والأولياء كفر وشرك، مستدلين بالقرآن والسنة، وفرقة تقول: إن الاستعانة
بهم حق؛ لأنهم أحباء الله تعالى، وعباده المصطفون والأخيار، فأي الفريقين على الحق؟
الجواب: "الاستعانة بغير الله في شفاء مريض، أو إنزال غيث، أو إطالة عمر... وأمثال هذا مما هو من اختصاص الله تعالى؛ نوع من الشرك الأكبر، الذي يخرج مَن فعله من ملة الإسلام، وكذا الاستعانة بالأموات أو الغائبين عن نظر مَن استعان بهم من ملائكة أو جن أو إنس في جلب نفع أو دفع ضر نوع من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله إلا لمَن تاب منه؛ لأن هذا النوع من الاستعانة قربة وعبادة، وهي لا تجوز إلا لله خالصة لوجهه الكريم
ومن أدلة ذلك:-
ما علم الله عباده أن يقولوه في الفاتحة: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾[الفاتحة:5]
وقوله: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ﴾ [الإسراء: 23]
وقوله: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ﴾ [البينة: 5]
وقوله:﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾[الجن: 18]
- وما ثبت في "مسند الإمام أحمد" بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن عباس رضي الله عنه:
"وإذا سألت فأسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله"
- وما ثبت عند البخاري ومسلم من حديث معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"وحق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً"
- وما ثبت في "صحيح البخاري ومسلم" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"مَن مات وهو يدعي لله نداً دخل النار"
أما الاستعانة بغير الله فيما كان في حدود الأسباب العادية التي جعلها الله إلى الخلق وأقدرهم على فعلها، كالاستعانة بالطبيب
في علاج مريض، وبغيره كإطعام جائع، وسقي عطشان، وإعطاء غني مالاً لفقير... وأمثال ذلك؛ فليس بشرك، بل هو من
تعاون الخلق في المعاش وتحصيل وسائل الحياة، وهكذا لو استعان بالأحياء الغائبين بالطرق الحسيَّة كالكتابة والمكالمة الهاتفية...
ونحو ذلك، وأما حياة الأنبياء والشهداء وسائر الأولياء فحياة برزخية، لا يعلم حقيقتها إلا الله، وليست كالحياة التي كانت
لهم في الدنيا. وبهذا يتبيَّن أن الحق مع الفرقة الأولى، التي قالت: إن الاستعانة بغير الله على ما تقدَّم شرك- وبالله التوفيق. وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
8- الطواف حول الأضرحة:
وهذه من البدع المنكرة وشرع لمَن يأذن به الله، وهذه نتيجة طبيعية لكل مَن استحدث في دين الله، أو عبد الله بغير ما شرع الله، فإنه لا يقف عند حدٍّ، بل يظل به الهوى والشيطان حتى يرديه في هاوية الشرك أو الابتداع، فلما دخلت القبور المساجد بدأ الدعاء عندها، ثم التوسُّل بها، ثم دعاءها من دون الله، ثم الطواف بها، وهذا لا يجوز شرعاً.
فلا ينبغي لمسلم أو مسلمة أن يطوف إلا بالبيت الحرام
قال الإمام ابن الحاج رحمه الله في كتابة المدخل:
"ترى مَن لا علم عنده يطوف بالقبر الشريف كما يطوف بالكعبة، ويتمسَّح به ويُقبِّله يقصدون به التبرك،
وذلك كله من البدع؛ لأن التبرُّك إنما هو بالاتباع له – علية الصلاة والسلام- وما كان سبب عبادة الجاهلين للأصنام إلا من هذا الباب".
- وقد وجه سؤال إلى اللجنة الدائمة للإفتاء رقم (5000) بتاريخ 13/10/1402هـ وفيه: ما حكم الاستعانة بقبور الأولياء والطواف بها، والتبرك بأحجارها والنذر لهم والإظلال على قبورهم، واتخاذهم وسيلة عند الله؟
الجواب: "الاستعانة بقبور الأولياء أو النذر لهم واتخاذهم وسطاء عند الله بطلب ذلك منهم شرك أكبر، مخرج من الملة الإسلامية، موجب للخلود في النار لمَن مات عليه، أما الطواف بالقبور والتبرك بأحجارها أو تظليلها فبدعة يحرم فعلها ووسيلة عظمى لعبادة أهلها من دون الله، وقد تكون شركاً إذا قصد أن الميت بذلك يجلب له نفعاً، أو يدفع عنه ضراً، أو قصد بالطواف التقرُّب إلى الميت".اهـ
يقول الشيخ حافظ حكمي رحمه الله في "سلم الوصول":
هذا ومن أعمال أهل الشرك
من غير مـــــا تردد أو شــكٍّ
ما يقصد الجهال من تعظيم
مــا لم يأذن الله بأن يعــظما
كــمن يلذ ببقعــة أو حــجر
أو قبر ميت أو ببعض الشجر
مـتــخــذاً لـذلــك الـــمـكــــــان
عـيــداً كـفـعـل عـابـدي الأوثـان
9- التوسُّـل إلى الله تعالى بالأموات:
بعض النساء - هداهن الله - تتوسَّل إلى الله بغير ما شرع الله، فتدعو الأموات، وتقول: "يا سيدي فلان، أو نبي الله، أو يا رسول الله، أو يا سيدة زينب، أو أسألك بجاه النبي كذا، أو يذهبون إلى قبر الولي أو النبي ويتوسلون به إلى الله، فيقولون: "سل لي ربك أن يهديني، أو استغفر الله لي... وغير ذلك من الأمور التي ليست من الدين في شيء، ولقد أمر الله تعالى أن نبتغي إليه الوسيلة، فقال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾[ المائدة: 35]
ومعنى ابتغوا إليه الوسيلة: أي اطلبوا القربة إليه بالعمل بما يرضيه
وقال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ﴾[الإسراء: 57]
ومعنى يبتغون إلى ربهم الوسيلة: أي يطلبون ما يتقرَّبون به إلى الله تعالى من الأعمال الصالحة.
قال الألباني رحمه الله:
"إذا أردنا التقرُّب إلى الله بالأعمال الصالحة، فإن الله لم يترك تحديدها إلى عقولنا وأذواقنا؛ لأنها حينذاك ستختلف وتتباين وستضطرب، ولهذا كان الواجب علينا حتى نعرف الوسائل المشروعة أن نرجع إلى ما شرعه الله تعالى وبيّنه رسوله صلى الله عليه وسلم يعني ـ الكتاب والسنة ـ وهذا الذي وصانا به الرسول صلى الله عليه وسلم"
فقد أخرج الإمام مالك في "موطئه" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة رسوله".
فهذا أوان الشروع في بيان التوسُّل المشروع.
· أنواع التوسُّل المشروع:
1- التوسل إلى الله تعالى بأسمائه الحسني وصفاته العليا:
ودليل ذلك: قوله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ [الأعراف: 180]
أي أدعو الله تعالى- متوسِّلين إليه بأسمائه الحسنى، ولا شك أن الصفات العليا داخلة في هذا الطلب.
- أخرج الإمام أحمد من حديث بريدة بن حصيب رضي الله عنه قال:
"سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأنني أشهد أنك الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فقال: قد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سُئل به أعطى، وإذا دُعي به أجاب"
- وأخرج الإمام أحمد أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن كثر همه، فليقل: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاءك، أسألك بكل اسم هو لك، سمَّيت به نفسك، أو علَّمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك؛ أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي؛ إلا أذهب الله همَّه وحزنه، وأبدله مكانه فرحاً".
- كذلك أخرج الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:
"يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث"
وكذلك لو قال قائل: "اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى"؛ جاز ذلك.
2- التوسُّل إلى الله تعالى بالإيمان به وبرسوله:
ودليل ذلك: قوله تعالى:﴿ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران:16]
وقوله تعالى:﴿ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾[آل عمران: 53]
وكذلك لو قال قائل: "اللهم إني آمنت بك وبرسولك؛ فاغفر لي أو وفقني"؛ جاز ذلك
سؤال: هل يجوز للإنسان أن يتوسَّل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم؟
يجيب عن هذا فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله كما في "المناهي اللفظية"(ص 36) حيث قال رحمه الله:"التوسُّل بجاه النبيصلى الله عليه وسلم ليس بجائز على الراجح من قول أهل العلم، فيحرم التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقول الإنسان: "اللهم إني أسألك بجاه نبيك كذا وكذا"
وذلك لأن الوسيلة لا تكون وسيلة إلا إذا كان لها أثر في حصول المقصود، وجاه النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة للداعي ليس له أثر في حصول المقصود، وإذا لم يكن له أثر لم يكن سبباً صحيحاً له أثر في حصول المطلوب، فجاه النبي صلى الله عليه وسلم هو ما يختص به النبي صلى الله عليه وسلم وحده، وهو مما يكون منقبة له وحده،
أما نحن فلسنا ننتفع بذلك، وإنما ننتفع بالإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم ومحبته، وما أيسر الأمر على الداعي إذا قال: "اللهم إني أسألك بإيماني بك، وبرسولك كذا وكذا، بدلاً من أن يقول: "أسألك بجاه نبيك"
ومن نعمة الله تعالى ورحمته بنا أنه لا يسد باب من الأبواب المحظورة إلا وأمام الإنسان أبواب كثيرة من الأبواب المباحة والحمد لله رب العالمين". اهـ
3- التوسل بالعمل الصالح:
ودليل ذلك قصة الثلاثة نفر الذين دخلوا الغار أو أطبقت عليهم الصخرة فدعا كل منهم بصالح عمله ففرَّج الله همهم وأزال كربهم وخرجوا من الغار
والقصة عند البخاري وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" بينما ثلاثة نفرٍ يمشون أخذهم المطر، فآووا إلى غار في جبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فانطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها صالحة لله، فادعوا الله بها؛ لعله يفرِّجها عنكم، قال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صِبْيَة صغار، كنت أرعى عليهم، فإذا رحت عليهم حلبت، فبدأت بوالديّ أسقيهما قبل بنيّ، وإني استأخرت ذات يوم، فلم آت حتى أمسيت، فوجدتهما ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فقمت عند رءوسهما، أكره أن أوقظهما، وأكره أن أسقي الصبية، والصبية يتضاغون عند قدمي حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلته ابتغاء وجهك؛ فأفرج لنا فرجة نرى منها السماء، ففرَّج الله فرأوا السماء.
وقال الآخر: اللهم إنها كانت لي بنت عم، أحببتها كأشدِّ ما يحب الرجال النساء، فطلبت منها فأبت؛ حتى أتيتها بمائة دينار، فسعيت حتى جمعتها، فلما قعدت بين رجليها، قالت: يا عبد الله اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقِّه، فقمت، فإن كنت تعلم أني فعلته ابتغاء وجهك فأفرج عنا فرجة، ففرَّج.
وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجيراً يعزق أرزاً، فلما قضى عمله، قال: أعطني حقي، فعرضت عليه فرغب عنه، فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقراً وراعيها، فجاءني، فقال: اتق الله ولا تظلمني وأعطني حق، فقلت: اذهب إلى ذلك البقر وراعيها فخذه، فقال: اتق الله ولا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك فخذه، فأخذه، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فأفرج ما بقي ففرج الله عنهم"
4- التوسُّل إلى الله تعالى بدعاء الصالحين:
قال الألباني رحمه الله: "كأن يقع المسلم في ضيق شديد، أو تحل به مصيبة كبيرة، ويعلم من نفسه التفريط في جنب الله تعالى، فيحب أن يأخذ بسبب قوي إلى الله فيذهب إلى رجل يعتقد فيه الصلاح والتقوى والفضل والعلم بالكتاب والسُّنَّة؛ فيطلب منه أن يدعو له ربه ليفرِّج عنه كربه ويزيل عنه همَّه، فهذا نوع آخر من التوسل المشروع؛ دلَّت عليه الشريعة المطهرة وأرشدت إليه
فقد أخرج البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه :
"أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنَّا نتوسَّلُ إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقنا، وإنَّا نتوسَّل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيسقون"
10- عمل الزار لإخراج مس الجآن:
مما لا شك فيه أن مسَّ الجن للإنس - وهو ما يعرف بالصرع - وهو ثابت ومشاهد ولا يماري فيه إلا مكابر معاند، ويدل عليه قوله تعالى:
﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾ [البقرة: 275]
قال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية (3/355):
"في هذه الآية دليل على فساد مَن أنكر الصرع من جهة الجن، وزعم أنه من فعل الطبائع، وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس" اهـ
(ويراجع كذلك تفسير الطبري وابن كثير والألوسي عند هذه الآية لتعلم حقيقة هذا القول)
- وثبت في "صحيح البخاري ومسلم" عن عطاء بن أبي رباح رضي الله عنه قال:
"قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟!، قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني أصرع وإني أتكشَّف فادع الله لي، قال: إن شئت صبرتِ ولكِ الجنة، وإن شئتِ دعوتُ الله أن يعافيك، فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشَّف فادع الله لي ألا أتكشَّف فدعا"
وذكر الحافظ ابن حجررحمه الله (10/115): "أن هذا الحديث له طريق آخر عند البزار عن ابن عباس رضي الله عنه وفيه أن هذه المرأة وتدعي أم زُفر قالت: "إني أخاف الخبيث أن يجردني"
فقال الحافظ: "إن الذي كان بأم زفر كان من صرع الجن".
- وثبت في "مسند الإمام أحمد" عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل في الصلاة يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم وهمزه([6]) ونفخه([7])ونفثه([8])"
- وكذلك جاء في "رسالة الجن"(ص6) عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال:
"قلت لأبي: "إن أقواماً يزعمون أن الجني لا يدخل في بدن الإنس، فقال: يا بني يكذبون، هو ذا يتكلم على لسانه".
- وكذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في "مختصر الفتاوى المصرية"(ص84):
"وجود الجن ثابت بالقرآن والسنة واتفاق سلف الأمة، وكذلك دخول الجني في بدن الإنس ثابت باتفاق أئمة السنة، وهو أمر مشهود محسوس لمَن تدبَّره، يدخل في المصروع، ويتكلم بكلام لا يعرفه، بل ولا يدري به، بل يعذب ضرباً لو ضربه جمل لمات ولا يحس به المصروع
وقوله تعالى:﴿ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾ [البقرة: 275]
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجري الدم" وغير ذلك يصدقه" اهـ
خلاصة ما سبق:
أن الصرع ومس الجن ثابت بالكتاب والسنة وأقوال الأئمة، وأن سببه كما يقول ابن القيم رحمه الله:
"أكثر مرضى الأرواح الخبيثة تكون من جهة قلة دينهم وخراب قلوبهم وألسنتهم من خصال الذكر والتحصينات النبوية والإيمانية، فتلقي الروح الخبيثة الرجل أعزل لا سلاح له" اهـ
وبالفعل فإننا نجد مَن أصيب بمرض الصرع نتيجة البعد عن الله والتجرؤ على الذنوب، لكن سرعان ما يحاولون العلاج؛ فيعمدوا إلى طرق شيطانية ليست على هدي خير البرية صلى الله عليه وسلم، ومنها عمل الزار لإخراج الجآن.
والزار: ما هو إلا عبادة وثنية قديمة جداً في إفريقيا، تقوم على موسيقي عنيفة قد تستمر أحياناً عدة ساعات، وحركات هستيرية، ورقص من المريض أو المريضة، يشاركه أو يشاركها الأصدقاء والأحباب، مع تصاعد رائحة البخور، وإحضار ديك أحمر، أو ذبح خروف أبيض، وشرب المريض لدمه، والارتماء على الأرض بعد الرقص.
- والناظر إلى هذه الحالة يجد أن فيها مآخذ كثيرة جداً منها:
1- أنها بعيدة كل البعد عن منهج الله، وعن الطريق الصحيح لعلاج مثل هذا المرض.
2- فيها تبذير وإسراف.
3- فيها اختلاط بين الرجال والنساء.
4- استعمال لآلات الطرب، وذبح الطيور والحيوانات، وقد تكون على غير اسم الله، فيكون الذبح للجن تقرُّباً إليه من دون الله، وهذا من الشرك وقد قيل قديماً:
ثلاثة تشقي بهم الدار
العرس والمأتم ثم الزار
فخرافة الزار انتشرت في بيوت المسلمات، فلا سبيل إلا بالرجوع إلى هدي ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم؛ للتخلُّص من هذا الجهل، وهذه الخرافات التي امتلأت بها بيوت المسلمين.
ولعل سائلة تسأل فتقول: "قد علمنا أن الزار من الخرافات، لكن ما هو العلاج؟
فنقول: "إن العلاج من الصرع يتلخص في الآتي:
1- تحقيق العبودية لله تعالى والالتزام بالكتاب والسنة.
2- كثرة الطاعات والمحافظة على الوضوء.
3- قراءة وسماع سورة البقرة، وكثرة تلاوة القرآن، والصلاة في البيت (النوافل بالنسبة للرجال)
4- أذكار الصباح والمساء والمحافظة عليها.
5- حفظ الجوارح عن المعاصي والذنوب.
6- مصاحبة الأخيار والبعد عن الأشرار.
7- تطهير البيت من الغناء، والجرس، والكلب، والتصاوير، والتماثيل، وآلات اللهو، وجعل الذكر للسان كاللعاب للفم.
8- كثرة الاستعاذة من الشيطان على المريض، والنفث فيه بالآيات والدعوات الشرعية
لقوله صلى الله عليه وسلم: كما في "صحيح مسلم": "لا بأس بالرقى ما لم يكن شرك" بقراءة القرآن، أو بذكر الله تعالى وأسمائه الحسنى وصفاته العلا فكل هذا جائز.
أما أن تكون بكلام غير مفهوم أي بغير لسان العرب أو الاستعانة بالجن أو غير ذلك فلا يجوز.
وأسأل الله تعالى أن يشفي كل مريض، وأن يعافي كل مبتلى... اللهم آمين آمين
وبعد...
فهذا آخر ما تيسَّر جمعه في هذه الرسالة
نسأل الله أن يكتب لها القبول، وأن يتقبَّلها منَّا بقبول حسن، كما أسأله سبحانه وتعالى أن ينفع بها مؤلفها وقارئها، ومَن أعان على إخراجها ونشرها......إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وما كان فيها من صواب فمن الله وحده، وما كان من سهو أو خطأ أو نسيان فمنِّي ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وهذا بشأن أي عمل بشري يعتريه الخطأ والصواب، فإن كان صواباً فادعُ لي بالقبول والتوفيق، وإن كان ثم خطأ فاستغفر لي
وإن وجدت العيب فسد الخللا
جلّ مَن لا عيب فيه وعلا
فاللهم اجعل عملي كله صالحاً ولوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه نصيب
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذا والله تعالى أعلى وأعلم.......
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك
[1] قال أبو السعادات رحمه الله:"أصل اللعن: الطرد والإبعاد من الله، ومن الخلق السب والدعاء".
[2] التميمة: هي خرزات كانت العرب تعلِّقها على أولادهم يتقون بها العين في زعمهم.
[3] التولة: ضرب من السحر، وهو الذي يفعل ليحبب المرأة إلى زوجها.
[4] التطير: هو التشاؤم سواء كان بيوم معين، أو شخص معين، أو حدث معين.
[5] وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم : "مَن نذر أن يطيع الله فليطعه": أي: فليفعل ما نذره من طاعة الله.
[6] همزه: الموتة جنس من الجنون والصرع يعتري الإنسان، فإذا أفاق عاد إليه عقله كالنائم والسكران (لسان العرب:6/4296)
- يقول ابن كثير في "البداية والنهاية" (1/61): "فهمزه: الموتة: وهو الخنق الذي هو الصرع " اهـ
[7] نفخه: الكبر.
[8] نفثه: الشعر.
تم النشر يوم
الاثنين، 13 أكتوبر 2014 ' الساعة