الأربعاء، 19 يونيو 2013

الأناة


د. محمد بن عبدالله بن إبراهيم السحيم 


إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ ﴾ [النساء: 1] ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ [آل عمران: 102] ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا ﴾ [الأحزاب: 70].

أيها المؤمنون!
قال الحسن البصري: " تُوُفِّيَ رجل، وَتَرَكَ ابْنًا لَهُ وَمَوْلًى لَهُ، فَأَوْصَى مَوْلَاهُ بِابْنِهِ، فَلَمْ يَأْلُوهُ حَتَّى أَدْرَكَ وَزَوَّجَهُ. فَقَالَ لَهُ: جَهَّزْنِي أَطْلُبِ الْعِلْمَ، فَجَهَّزَهُ، فَأَتَى عَالِمًا فَسَأَلَهُ. فَقَالَ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَنْطَلِقَ فَقُلْ لِي: أُعَلِّمْكَ. فَقَالَ: حَضَرَ مِنِّي الْخُرُوجُ، فَعَلِّمْنِي. فَقَالَ: "اتَّقِ اللَّهَ، وَاصْبِرْ، وَلَا تَسْتَعْجِلْ". قَالَ الْحَسَنُ: فِي هَذَا الْخَيْرُ كُلُّهُ - فَجَاءَ وَلَا يَكَادُ يَنْسَاهُنَّ؛ إِنَّمَا هُنَّ ثَلَاثٌ- فَلَمَّا جَاءَ أَهْلَهُ، نَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَلَمَّا نَزَلَ الدَّارَ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ نَائِمٍ مُتَرَاخٍ عَنِ الْمَرْأَةِ، وَإِذَا امْرَأَتُهُ نَائِمَةٌ! قَالَ: وَاللَّهِ مَا أُرِيدُ مَا أَنْتَظِرُ بِهَذَا؟ فَرَجَعَ إِلَى رَاحِلَتِهِ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ السَّيْفَ قَالَ: "اتَّقِ اللَّهَ، وَاصْبِرْ وَلَا تَسْتَعْجِلْ" فَرَجَعَ، فَلَمَّا قَامَ عَلَى رَأْسِهِ قَالَ: مَا أَنْتَظِرُ بهذا شيئاً، فرجع على رَاحِلَتِهِ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ سَيْفَهُ ذَكَرَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَامَ عَلَى رَأْسِهِ اسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ (فإذا هو مولاهم الذي رباه)، فَلَمَّا رَآهُ وَثَبَ إِلَيْهِ، فَعَانَقَهُ، وقبله، وسأله. قال: مَا أَصَبْتَ بَعْدِي؟ قَالَ: أَصَبْتُ وَاللَّهِ بَعْدَكَ خَيْرًا كَثِيرًا، أَصَبْتُ وَاللَّهِ بَعْدَكَ: أَنِّي مَشَيْتُ اللَّيْلَةَ بَيْنَ السَّيْفِ وَبَيْنَ رَأْسِكَ ثَلَاثَ مِرَارٍ، فَحَجَزَنِي مَا أَصَبْتُ مِنَ الْعِلْمِ عَنْ قَتْلِكَ " رواه البخاري في الأدب المفرد وحسنه الألباني. نعم هذا شأن الأناة والتؤدة وتبيّن الأمر؛ حكمةُ موقف، وصوابُ رأي، وسلامةٌ من أسى الندامة والنزق.

عباد الله!
الأناة رِفقٌ قد اتصف الله به، وأحب تخلّق العبد به؛ إذ الأناة - بالنسبة للمخلوق - رِفقٌ لاستبانة صوابٍ؛ صيّرت الخيرَ قرينَ المتأني وفألَه الذي لا يخطيه؛ فكان الزينُ شعارَ تصرّفه ودثارَه. يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " «التَّأَنِّي مِنْ اللَّهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ» رواه البيهقي وقال ابن القيم: إسناده جيد، وقال: "إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ "رواه مسلم، وقال لأشجِّ عبدالقيس: " إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ "رواه مسلم، ويقول: : «مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ» رواه مسلم، ويقول: «إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ» رواه مسلم. وبالأناة يكون الظفر و درك النجاح، كَتَبَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى مُعَاوِيَةَ بن أبي سفيان – رضي الله عنهم - فِي الْأَنَاةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ: « أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ التَّفَهُّمَ فِي الْخَيْرِ زِيَادَةٌ وَرُشْدٌ، وَإِنَّ الرَّشِيدَ مَنْ رَشَدَ عَنِ الْعَجَلَةِ، وَإِنَّ الْخَائِبَ مَنْ خَابَ عَنِ الْأَنَاةِ، وَإِنَّ الْمُتَثَبِّتَ مُصِيبٌ، أَوْ كَادَ أَنْ يَكُونَ مُصِيبًا، وَإِنَّ الْمُعَجِّلَ مُخْطِئٌ، أَوْ كَادَ أَنْ يَكُونَ مُخْطِئًا، وَإِنَّهُ مَنْ لَا يَنْفَعُهُ الرِّفْقُ يَضُرُّهُ الْخَرَقُ وَمَنْ لَا تَنْفَعُهُ التَّجَارِبُ لَا يُدْرِكُ الْمَعَالِيَ، وَلَنْ يَبْلُغَ الرَّجُلُ مَبْلَغَ الرَّأْيِ حَتَّى يَغْلِبَ حِلْمُهُ جَهْلَهُ وَشَهْوَتَهُ »، قال حبيش بن زهير: " عليك بالأناة؛ فإن بها تنال الفرصة "، وأوصى مالك بن المنذر بنيه قائلاً: " يا بنيَّ، الزموا الأناة، واغتنموا الفرصة؛ تظفروا "، ألا ترون أن الماء على لينه يقطع الحجر على شدّته!


الرفق يمنٌ والأناة سعادة
فاستأنِ في رفقٍ تُلاقِ نجاحا

أيها المؤمنون!
الأناة سجية قد يطبع المرء عليها، وتلك من جُلل نعم المولى عليه، لكنّ العجلة هي الحال الغالب في الناس، كما قال الله - تعالى -: ﴿ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ﴾ [الأنبياء: 37]، ومع ذا؛ فإن في الإمكان تغييرَ تلك الطبيعة المستهجنة بالمراس والمجاهدة وسلوك أسباب التغيير. ومن أنفع تلك الأسباب تبصر العواقب واستشراف أواخر الأمور وما تؤول إليه دون اغترار ببريق مباديها؛ فالْعَاقِل من افْتتح فِي كل أَمرٍ خاتمته، وَعلم من بَدْء كل شَيْء عاقبته، وبقدر ذلك التبصر يبلغ التأني.
بصير بأعقاب الأمور إذا التوت
كأن له في اليوم عيناً على غدِ

ومن أجدى أنواع تبصر العواقب استشعار وخيم عاقبة العجلة ومرارة غصصها؛ فكم جنت على أهلها؟! كم منعت من إجابة دعاء؟ وحملت على كفر؟ وأوقظت من فتنة؟ وسفكت من دم؟ وأذكت من حرب؟ وشتّت من أُسر؟ وقطّعت من أواصر؟ وأهدرت من مال؟ وهتكت من عرض؟ وجرّت إلى خجلٍ وذلٍّ وإسقاط في يد؟ ذلكم غيض من فيض عقبى العجلة أم الندامات كما كانت تكنيها العرب.

أيها الإخوة!
وفي اتهام المرء رأيَه وعدمِ جزمه بصوابه كبحٌ لجماح العجلة، وإلجامٌ لنفسه بحَكَمَة الأناة، وذاك منهج غالب في تعامل الصحابة - رضي الله عنهم - مع آرائهم. يقول ابن القيم - رحمه الله -: " واتهام الصحابة لآرائهم كثير مشهور، وهم أبرُّ الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأبعدها من الشيطان، فكانوا أتبعَ الأمة للسنة، وأشدَّهم اتهاماً لآرائهم " أهـ. وفي استشارة ذوي الرأي استتمام الأناة خاصة إن كانوا مجربين؛ ولذا غلب رأيُ الأشياخ مشهدَ الشباب.
إن الأمور إذا قام الشباب بها
دون الشيوخ ترى في بعضها زللا
إن الشباب لهم في الأمر بادرة
وللشيوخ أناة ترفع الخللا

قال عمرو بن العاص -رضي الله عنه -: " ما نزلت بي قطّ عظيمةٌ فأبرمتها حتى أشاور عشرةً من قريش مرتين، فإن أصبت كان الحظّ لي دونهم، وإن أخطأت لم أرجع على نفسي بلائمة ".
الرأي كالليل مسودٍّ جوانبُه
والليل لا ينجلي إلّا بإصباح
فاضمم مصابيح آراء الرجال إلى
مصباح رأيك تزددْ ضوء مصباح

معشر المؤمنين!
ومن خير ما تستجلب به الأناة الانعتاق من ربقة ضغط اللحظة الحاضرة والاستغراق فيها؛ فإنها أقوى حاملٍ على العجلة، كالغضب، والفرح، والخوف، والطمع، واليأس، والاستفزاز، وتأثير الجماهير، وابتغاء تسجيل موقف مع كل حدث. وذلك يستلزم صون المنطق بالصمت وقتها، وترك اتخاذ القرار، واعتزال موضع تَهَيُّجِيها ريثما تَسْكُنُ المثيرات ويُستجمع الفكر. يقول الرسول  صلى الله عليه وسلم : " إذا غضبت فاسكت " رواه ابن شاهين وحسنه الألباني، قَالَ الأَوْزَاعِيُّ: " كَانَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُعَاقِبَ رَجُلاً، حَبَسَهُ ثَلاَثاً، ثُمَّ عَاقَبَهُ؛ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَعْجَلَ فِي أَوَّلِ غَضَبِهِ ".

بارك الله...

الخطبة الثانية

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد، فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله...

أيها المسلمون!
إن يُمن الأناة يستدعي تبصرها في كل أمر؛ إذ هو الأصل في مباشرة الأمور خاصة ما عمّ أثره ولم يُقصر على صاحبه؛ فخطأ الأناة خير من خطأ العجلة. ولا يستثنى من ذلك إلا ما استبان خيره كالأعمال الصالحة القاصرة. يقول النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: « التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ » رواه أبو داود وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، قَالَ الأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: " الرِّفْقُ وَالأَنَاةُ مَحْمُودٌ، إِلا فِي ثَلاثٍ "، قَالُوا: مَا هُنَّ يَا أَبَا بَحْرٍ؟ قَالَ: " تُبَادِرُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَتُعَجِّلُ إِخْرَاجَ مَيِّتِكَ، وَتُنْكِحُ الْكُفْءَ أَيِّمَكَ ". ولا تَهْجُنُ الأناةُ إلا بصرفها عن وجهها؛ وذلك عند تضييع الفرصة بعد إمكانها واستيضاح نفعها، قال حكيم: « الْعَجَلَةُ فِي الْأَمْرِ خَرَقٌ، وَأَخْرَقُ مِنْ ذَلِكَ التَّفْرِيطُ فِي الْأَمْرِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ». وأسوء من ذلك، أن تُتَّخَذَ الأناةُ والحكمةُ غطاءً لتسويغ العجز والخور وترك العمل؛ ففرقُ ما بين انتظار الأناة والعجز تحققُ الهمّ الصادق للعمل والبحث عن فرصه.

وبعد - أخي -، إليك قاعدة النجاح التي أوصى بها أحد الحكماء إذ يقول: «روِّ بحزم، فإذا استوضحت فاعزم ».

 
المصدر : شبكة الألوكة
 تم النشر يوم  الأربعاء، 19 يونيو 2013 ' الساعة  9:47 ص


 
Toggle Footer