الجمعة، 15 نوفمبر 2013

ليبلوكم أيكم أحسن عملا 

الشيخ عبدالله بن محمد البصري

أَمَّا بَعدُ، فَأُوصِيكُم - أَيُّهَا النَّاسُ - وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119].

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، المُؤمِنُ الَّذِي يَنظُرُ بِنُورِ اللهِ، وَيَتَفَكَّرُ فِيمَا حَولَهُ بِعَينِ البَصِيرَةِ، يَتَعَلَّمُ دُرُوسًا مِن كُلِّ مَا يَمُرُّ بِهِ، وَيَأخُذُ مِن مَوَاقِفِ الحَيَاةِ العَابِرَةِ عِبَرًا، وَفي الأَيَّامِ المَاضِيَةِ، أُغلِقَت في أَسوَاقِنَا مَتَاجِرُ كَثِيرَةٌ وَعُطِّلَت مَنَافِعُ مُتَعَدِّدَةٌ، حَتى كَادَتِ المَتَاجِرُ المُغلَقَةُ وَالمَصَالِحُ المُعَطَّلَةُ في بَعضِ الأَسوَاقِ تَبلُغُ النِّصفَ أَو تَزِيدُ، وَقَد كَانَ مَنشَأُ ذَلِكَ وَسَبَبُهُ، أَنْ تِلكَ الأَعمَالَ الدُّنيَوِيَّةَ، لم تَكُنْ جَارِيَةً عَلَى مَا يَنبَغِي وَيُرَادُ، فَأَمَرَ وَليُّ الأَمرِ بِتَصحِيحِ أَوضَاعِهَا، ثم مَنعِ مَن لم يَمتَثِلِ الأَمرَ وَلم يَلزَمِ النِّظَامَ. وَإِنَّ في ذَلِكَ لَدَرسًا يَحسُنُ بِالمُسلِمِ أَن يَأخُذَهُ في سِيرَتِهِ مَعَ رَبِّهِ، وَيَستَفِيدَهُ في ضَبطِ عَمَلِهِ الأُخرَوِيِّ، الَّذِي عَلَيهِ مَدَارُ نَجَاتِهِ وَسَعَادَتِهِ أَو هَلاكِهِ وَشَقَائِهِ، ذَلِكُم أَنَّ كُلَّ امرِئٍ مُرتَهَنٌ بما يَعمَلُ، مُحَاسَبٌ عَلَى مَا يَقُولُ وَيَفعَلُ، مُؤَاخَذٌ بِتَقصِيرِهِ وَإِخلالِهِ ﴿ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ﴾ [النجم: 38 - 42] نَعَم - أَيُّهَا المُتَفَكِّرُونَ - إِنَّ هَذَا الَّذِي حَصَلَ مِن فِرَارِ بَعضِ العُمَّالِ وَاختِفَاءِ بَعضِهِم وَسَفَرِ آخَرِينَ، وَإِغلاقِ المَتَاجِرِ وَتَركِ المَصَالِحِ وَتَعطِيلِ المَنَافِعِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ في وَاقِعِ حَيَاتِهِ الدُّنيَا، لا يَهتَمُّ كَثِيرًا بِتَجوِيدِ عَمَلِهِ وَلا تَحسِينِهِ، وَلا الإِتيَانِ بِهِ عَلَى المَطلُوبِ المَرغُوبِ، فَهَلِ النَّاسُ كَذَلِكَ في عَمَلِ الآخِرَةِ، الوَاقِعُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُم كَذَلِكَ وَأَشَدُّ، مَعَ أَنَّنَا لَو تَأَمَّلنَا في كِتَابِ اللهِ - جَلَّ وَعَلا - لَقَرَأنَا فِيهِ قَولَهُ - سُبحَانَهُ -: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [هود: 7] وَقَولَهُ - تَعَالى -: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 7] وَقَولَهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 30] وَقَولَهُ - تَقَدَّسَ اسمُهُ -: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2] أَجَلْ - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - هُنَالِكَ عَمَلٌ حَسَنٌ، وَلَكِنَّ أَجوَدَ مِنهُ وَخَيرًا وَأَولى، العَمَلُ الأَحسَنُ، قَالَ - تَعَالى: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ﴾ [المؤمنون: 96] وَقَالَ - جَلَّ وَعَلا -: ﴿ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125] وَقَالَ - سُبحَانَهُ -: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [الإسراء: 53] وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: " ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [الأنعام: 152] [الإسراء: 34] " وَقَالَ - سُبحَانَهُ -: ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [العنكبوت: 46].

إِنَّ كُلُّ هَذِهِ الآيَاتِ - إِخوَةَ الإِيمَانِ - تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِيمَةَ العَمَلِ الحَقِيقِيَّةَ وَثَمَرَتَهُ الطَّيِّبَةَ، إِنما هِيَ بِحُسنِهِ وَتَجوِيدِهِ، وَالإِتيَانِ بِهِ عَلَى الوَجهِ الأَكمَلِ وَالأَفضَلِ، لا بِكَثرَتِهِ أَو زَخرَفَتِهِ، أَو إِظهَارِهِ بِمَظهَرِ الكَمَالِ وَالجَودَةِ فِيمَا يَبدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ في حَقِيقَتِهِ جَسَدٌ لا رُوحَ فِيهِ، قَالَ - سُبحَانَهُ -: ﴿ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195] وَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: " إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُم عَمَلاً أَن يُتقِنَهُ " رَوَاهُ البَيهَقِيُّ وَغَيرُهُ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ. وَقَد كَانَ مِن فِقهِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنهُم - وَعِنَايَتِهِم بما يُقَرِّبُهُم إِلى اللهِ، أَن تَعَدَّدَت أَسئِلَتُهُم لِرَسُولِ اللهِ عَن أَيِّ العَمَلِ أَفضَلُ وَأَحَبُّ إِلى اللهِ.

وَهُنَا يَذكُرُ العُلَمَاءُ ضَوَابِطَ يَكُونُ بها العَمَلُ أَحسَنَ وَأَجوَدَ وَأَفضَلَ وَأَكمَلَ، مِنهَا مَا هُوَ شَرطٌ في صِحَّتهِ وَقَبُولِهِ، وَمِنهَا مَا هُوَ شَرطٌ في كَمَالِهِ، وَأَوَّلُ ذَلِكَ - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - وَأَهَمُّهُ، وَأَولاهُ بِأَن يُرَاعَى في كُلِّ عَمَلٍ صَغُرَ أَو كَبُرَ، شَرطَانِ عَظِيمَانِ، لا يُقبَلُ أَيُّ عَمَلٍ دُونَهُمَا وَلا يَصِحُّ إِلاَّ بهما، ذَانِكُم هُمَا الإِخلاصُ للهِ - تَعَالى - وَالمُتَابَعَةُ لِرَسُولِهِ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - فَإِحسَانُ العَمَلِ وَتَجوِيدُهُ بِإِخلاصِهِ لِوَجهِ اللهِ، وَجَعلِ ظَاهِرِهِ صُورَةً حَقِيقِيَّةً لِبَاطِنِهِ، مَعَ اتِّبَاعِ الإِمَامِ الأَعظَمِ وَالسَّيرِ عَلَى نَهجِ القُدوَةِ الحَسَنَةِ محمدٍ - عَلَيهِ الصَّلاةُ السَّلامُ - إِنَّ ذَلِكَ لَهُوَ الضَّمَانَةُ الكُبرَى لِقَبُولِهِ عِندَ اللهِ وَعَدَمِ ضَيَاعِهِ، قَالَ - سُبحَانَهُ -: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110] وَقَالَ - تَعَالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 30] وَقَالَ ابنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللهُ - في تَفسِيرِ قَولِهِ - تَعَالى -: ﴿ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [البقرة: 261] قَالَ: أَيْ بِحَسَبِ إِخلاصِهِ في عَمَلِهِ. وَفي الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ، قَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: " إِذَا أَحسَنَ أَحَدُكُم إِسلامَهُ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعمَلُهَا تُكتَبُ لَهُ بِعَشرِ أَمثَالِهَا إِلى سَبعِ مِئَةِ ضَعفٍ وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعمَلُهَا تُكتَبُ لَهُ بِمِثلِهَا ".

وَأَمَّا إِذَا كَانَ العَمَلُ صَالِحًا فِيمَا يَبدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ في حَقِيقَتِهِ غَيرُ صَالِحٍ، أَو لم يُتَابَعْ فِيهِ رَسُولُ اللهِ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - فَهَذَا حَقِيقٌ بِأَن يَسبِقَ عَلَى صَاحِبِهِ الكِتَابُ، فَتَزِلَّ بِهِ القَدَمُ فَيَخسَرَ، وَفي الحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ، قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعمَلُ عَمَلَ أَهلِ الجَنَّةِ فِيمَا يَبدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِن أَهلِ النَّارِ... " الحَدِيثَ، وَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - كَمَا في الصَّحِيحَينِ: " مَن أَحدَثَ في أَمرِنَا هَذَا مَا لَيسَ مِنهُ فَهُوَ رَدٌّ " وَفي رِوَايَةٍ: " مَن عَمِلَ عَمَلاً لَيسَ عَلَيهِ أَمرُنَا فَهُوَ رَدٌّ ".

وَبَعدَ ذَلِكَ - عِبَادَ اللهِ - فَإِنَّ ثَمَّةَ قَوَاعِدَ وَضَوَابِطَ تُفهَمُ مِنَ الأَدِلَّةِ، يَكُونُ العَمَلُ بها أَحسَنَ وَأَكمَلَ، مِن ذَلِكَ أَنَّ الفَرَائِضَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى النَّوَافِلِ، وَهِيَ أَحَبُّ إِلى اللهِ وَأَعظَمُ عِندَهُ أَجرًا، وَمِن ثَمَّ فَلا يَجُوزُ لِلمُسلِمِ أَن يَخرِمَ مِنهَا شَيئًا أَو يَتَسَاهَلَ بِهِ، في الحَدِيثِ القُدسِيِّ الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ، يَقُولُ اللهُ - جَلَّ وَعَلا -: " وَمَا تَقَرَّبَ إِليَّ عَبدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِليَّ ممَّا افتَرَضتُ عَلَيهِ... " الحَدِيثَ. وَممَّا يَجِبُ الانتِبَاهُ لَهُ في هَذَا الجَانِبِ، أَنَّ حَقَّ الخَالِقِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ المَخلُوقِ وَإِن كَانَا كِلاهُمَا وَاجِبَينِ، وَفُرُوضَ الأَعيَانِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى فُرُوضِ الكِفَايَاتِ، وَتَوحِيدَ اللهِ مُقَدَّمٌ عَلَى سَائِرِ الأَعمَالِ الصَّالِحَةِ، قَالَ - سُبحَانَهُ -: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الإسراء: 23] وَقَالَ: ﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ ﴾ [لقمان: 14] وَقَالَ: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ﴾ [النساء: 36] وَفي صَحِيحِ البُخَارِيِّ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا - أَنَّ امرَأَةً جَاءَت لِلنَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَت: إِنَّ أُمِّي نَذَرَت أَن تَحُجَّ فَلَم تَحُجَّ حَتى مَاتَت، أَفَأَحُجُّ عَنهَا؟ قَالَ: " نَعَم، حُجِّي عَنهَا، أَرَأَيتِ لَو كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَينٌ أَكُنتِ قَاضِيَتَهُ؟ اُقضُوا اللهَ، فَاللهُ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ " وَفي المُتَّفَقِ عَلَيهِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ مُعَاذًا إِلى اليَمَنِ فَقَالَ: " إِنَّك تَأتي قَومًا مِن أَهلِ الكِتَابِ، فَادعُهُم إِلى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُم أطاعوا لذَلِك، فَأَعلِمْهُم أَنَّ اللهَ قَد فَرَضَ عَلَيهِم خَمسَ صَلَوَاتٍ في اليَومِ وَاللَّيلَةِ، فَإِنْ هُم أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعلِمْهُم أَنَّ اللهَ قَد فَرَضَ عَلَيهِم صَدَقَةً تُؤخَذُ مِن أَغنِيَائِهِم فَتُرَدُّ في فُقَرَائِهِم... " الحَدِيثَ.

وَمِن قَوَاعِدِ العَمَلِ الأَحسَنِ وَضَوَابِطِهِ أَن يَكُونَ دَائِمًا مُوَاظَبًا عَلَيهِ، لا أَن يَكُونَ مُتَقَطِّعًا، مُتَذَبذِبًا صَاحِبُهُ في إِتيَانِهِ، وَقَد كَانَ القُدوَةُ وَالأُسوَةُ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - إِذَا عَمِلَ عَمَلاً أَثبَتَهُ، وَكَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: " أَحَبُّ الأَعمَالِ إِلى اللهِ أَدوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. وَإِنَّ ممَّا يُعِينُ عَلَى استِدَامَةِ العَمَلِ وَالثَّبَاتِ عَلَيهِ بَعدَ تَوفِيقِ اللهِ إِلَيهِ، الاقتِصَادَ في العِبَادَةِ وَالرِّفقَ بِالنَّفسِ، وَعَدَمَ التَّكَلُّفِ وَالتَّعَمُّقِ وَتَكلِيفِ النَّفسِ مَا لا تُطِيقُ، لأَنَّ ذَلِكَ مَظِنَّةُ المَلالِ وَالفُتُورِ، وَمِن ثَمَّ الانقِطَاعُ وَالتَّركُ، وَحِرمَانُ النَّفسِ الخَيرَ وَاستِمرَارَ الأَجرِ، قَالَ - تَعَالى -: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾[البقرة: 286] وَقَالَ - سُبحَانَهُ -: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185] وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [المائدة: 6] وَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: " إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسرٌ، وَلَن يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبشِرُوا، وَاستَعِينُوا بِالغَدوَةِ وَالرَّوحَةِ وَشَيءٍ مِنَ الدُّلجَةِ " أَخرَجَهُ البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ، وَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيكُم مِنَ الأَعمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللهَ لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وَفي البُخَارِيِّ وَمُسلِمٍ عَن عَبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العَاصِ - رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا - قَالَ: قَالَ لي رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " يَا عَبدَ اللهِ، لا تَكُنْ مِثلَ فُلانٍ، كَانَ يَقُومُ اللَّيلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيلِ ".

وَمِن ضَوَابِطِ العَمَلِ الأَحسَنِ، أَن يَحرِصَ المَرءُ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ نَفعُهُ مُتَعَدٍّ لِلآخَرِينَ، فَهُوَ أَحسَنُ في كَثِيرٍ مِنَ الأَحوَالِ مِنَ العَمَلِ القَاصِرِ نَفعُهُ عَلَى الفَردِ وَحدَهُ وَلا يَنتَفِعُ بِهِ غَيرُهُ، وَقَد جَعَلَ اللهُ خَيرِيَّةَ هَذِهِ الأُمَّةِ بِالأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ، وَهُوَ مِن أَفضَلِ الأَعمَالِ المُتَعَدِّي نَفعُهَا، قَالَ - سُبحَانَهُ -: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110] وَقَالَ: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33] وَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: " خَيرُ الأَصحَابِ عِندَ اللهِ - تَعَالى - خَيرُهُم لِصَاحِبِهِ، وَخَيرُ الجِيرَانِ عِندَ اللهِ - تَعَالى - خَيرُهُم لِجَارِهِ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ. وَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: " خَيرُكُم مَن يُرجَى خَيرُهُ وَيُؤمَنُ شَرُّهُ، وَشَرُّكُم مَن لا يُرجَى خَيرُهُ وَلا يُؤمَنُ شَرُّهُ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّكُم في زَمَنٍ اشتَدَّت فِتَنُهُ وَكَثُرَت شَوَاغِلُهُ، وَعَظُمَت غَفلَةُ النَّاسِ فِيهِ عَمَّا يُقَرِّبُهُم إِلى رَبِّهِم، وَإِنَّ الانشِغَالَ بِعِبَادَةِ اللهِ في مِثلِ هَذَا الوَقتِ وَتِلكَ الحَالِ، لَمِمَّا يَفضُلُ بِهِ العَمَلُ وَيَحسُنُ وَيَعظُمُ أَجرُهُ، قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " بَدَأَ الإِسلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ فَطُوبى لِلغُرَبَاءِ " رَوَاهُ مُسلِمٌ. وَعِندَ الطَّبَرَانيِّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ أَنَّهُ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - سُئِلَ عَنِ الغُرَبَاءِ: مَن هُم؟ فَقَالَ: " الَّذِينَ يَصلُحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ " وَفي صَحِيحِ مُسلِمٍ: " العِبَادَةُ في الهَرجِ كَهِجرَةٍ إِليَّ " وَعَن أُسَامَةَ بنِ زَيدٍ - رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا - قَالَ: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لم أَرَكَ تَصُومُ مِن شَهرٍ مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِن شَعبَانَ! قَالَ: " ذَاكَ شَهرٌ يَغفُلُ النَّاسُ عَنهُ بَينَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهرٌ تُرفَعُ فِيهِ الأَعمَالُ إِلى رَبِّ العَالَمِينَ، وَأُحِبُّ أَن يُرفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ " رَوَاهُ النَّسَائيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ.

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - وَاحرِصُوا عَلَى الإِتيَانِ بِأَحسَنِ العَمَلِ وَأَصوَبِهِ وَأَكمَلِهِ، فَإِنَّ اللهَ لا يَقبَلُ مِنَ العَمَلِ إِلاَّ مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابتُغِيَ بِهِ وَجهُهُ، وَهُوَ - تَعَالى طَيِّبٌ لا يَقبَلُ إِلاَّ طَيِّببًا، وَمَن كَانَ ذَلِكَ الأَمرُ العَظِيمُ هُوَ هَمَّهُ، تَتَبَّعَ مَرضَاةَ اللهِ أَينَ كَانَت، وَجَمَعَ بَينَ أَنوَاعِ العِبَادَاتِ قَدرَ استِطَاعَتِهِ، وَضَرَبَ مَعَ كُلِّ قَومٍ مِنَ المُتَعَبِّدِينَ بِسَهمٍ، فَهُوَ مَعَ العُلَمَاءِ مُعَلِّمًا أَو مُتَعَلِّمًا، وَمَعَ المُجَاهِدِينَ بِنَفسِهِ أَو بِمَالِهِ، وَتَرَاهُ مَعَ الذَّاكِرِينَ ذَاكِرًا، وَمَعَ المُتَصَدِّقِينَ مُتَصَدِّقًا، دَاعِيًا إِلى اللهِ، آمِرًا بِالمَعرُوفِ نَاهِيًا عَنِ المُنكَرِ، مُوَازِنًا بَينَ الحُقُوقِ، مُعطِيًا كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، مُقِيمًا عَمَلَ النَّهَارِ في النَّهَارِ، وَعَمَلَ اللَّيلِ في اللَّيلِ، لا تَشغَلُهُ نَافِلَةٌ عَن فَرِيضَةٍ، وَلا تَصرِفُهُ دُنيَا عَن آخِرَةٍ، وَلا تُطغِيهِ وَفرَةُ مَالٍ أَو كَثرَةُ وَلَدٍ، وَلا يُنسِيهِ طُولُ عَافِيَةٍ أَو وَافِرُ صِحَّةٍ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177]. 

الخطبة الثانية

أَمَّا بَعدُ، فَاتَّقُوا اللهَ - تَعَالى - وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ، وَاذكُرُوهُ وَلا تَنسَوهُ، وَاعلَمُوا أَنَّكُم في شَهرٍ حَرَامٍ، هُوَ شَهرُ اللهِ المُحَرَّمِ، وَقَد قَالَ رَبُّكُم - جَلَّ وَعَلا -: ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [التوبة: 36] وإِنَّ مِن ضَوَابِطِ العَمَلِ الأَحسَنِ أَن يَتَحَرَّى المُسلِمُ بِهِ الأَمكِنَةَ المُقَدَّسَةَ وَالأَوقَاتَ الفَاضِلَةَ، كَمَكَّةَ وَالمَدِينَةِ وَالمَسجِدِ الأَقصَى، وَكَشهرِ رَمَضَانَ وَعَشرِ ذِي الحِجَّةِ وَأَيَّامِ التَّشرِيقِ، وَكَالثُّلثِ الآخِرِ مِنَ اللَّيلِ وَطَرَفَيِ النَّهَارِ، وَيَومِ الجُمُعَةِ، وَكَصِيَامِ الاثنَينِ وَالخَمِيسِ، وَشَهرِ اللهِ المُحَرَّمِ عَامَّةً، وَيَومِ عَاشُورَاءَ خَاصَّةً، قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَفضَلُ الصِّيَامِ بَعدَ رَمَضَانَ شَهرُ اللهِ المُحَرَّمُ " رَوَاهُ مُسلِمٌ، وَعَن أَبي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَن صِيَامِ يَومِ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: " يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ، وَرَوَاهُ ابنُ مَاجَهْ وَلَفظُهُ قَالَ: " صِيَامُ يَومِ عَاشُورَاءَ، إِنِّي أَحتَسِبُ عَلَى اللهِ أَن يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتي قَبلَهُ " أَلا فَفِرُّوا إِلى اللهِ - عِبَادَ اللهِ - وَاصبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ.


شبكة الألوكة
 تم النشر يوم  الجمعة، 15 نوفمبر 2013 ' الساعة  2:30 م


 
Toggle Footer