الاثنين، 3 فبراير 2014

طول الأمل وكيفية العلاج

الشيخ ندا أبو أحمد

إن الحمد لله تعالى نحمَده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مضلَّ له ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.



﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كتاب الله -تعالى- وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

إن الناظر في أحوال الناس اليوم يرى العجبَ العجاب؛ حيث انشغل الكثير منهم بالشهوات، وركبوا المنكرات، وأعرَضوا عن عبادة رب الأرض والسموات، والسبب في هذا طول الأمل، وهذا أمر قد شوِهد بالعيان، ولا يحتاج إلى بيان.

وصدق الحسن البصري - رحمه الله - حيث قال:
"ما أطال عبدٌ الأملَ إلا ساء العمل"؛ الزهد للحسن البصري (ص 82)، (قِصَر الأمل: 82).

وصدَق الحسن البصري؛ فطول الأمل سببٌ لقلة الطاعة، والتكاسل عن العبادة، وقسوة القلب، وتأخيرِ التوبة، واتباع الهوى، وكثرة المعصية، والحرص على الدنيا، والغفلة عن الموت، وما بعده من شدائد وأهوال، وربما الموت على المعصية؛ وهذا هو عينُ الشقاء.

يقول مالك بن دينار - رحمه الله -:
"أربع من الشقاء: قسوة القلب، وجمود العين، وطول الأمل، والحرص على الدنيا"[1].

ويقول الفضيل بن عياض - رحمه الله -:
"إن من الشقاء طول الأمل، وإن من النعيم قِصَر الأمل"، وقصر الأمل: هو الاستعداد للرحيل في أي وقتٍ وحين، فلا ترى صاحبَه إلا متأهِّبًا؛ لعلمه بقُرْب الرحيل، وسرعة انقضاء مدة الحياة، وهو من أنفع الأمور للقلب؛ فإنه يبعث على انتهاز فرصة الحياة التي تمر مرَّ السحاب.

ومَثَلُ مَن يُطيل الأملَ ويقعد عن العمل، والآخر المتأهِّب المُستعِد، كمثل قومٍ في سفر، فنزلوا قرية، فمضى المتأهِّب الحازم المستَعِد فاشترى ما يَصلُح لتمام سفره، وجلس متأهبًا للرحيل، أما المُفرِّط فإنه يقول كل يوم: سأتَأهَّبُ غدًا؛ حتى أعلن أمير القافلة الرحيل، ولا زاد معه، وهذا حال المؤمن الحازم الذي لا يَندم عند مجيء الموت، بخلاف المُفَرِّط الذي يصرخ ويقول: ﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾ [المؤمنون: 99، 100]، ولقد جاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تُحَذِّر من طول الأمل، وقد بيَّن رب العالمين في القرآن الكريم أنَّ طولَ الأمل من وساوس الشياطين؛ قال تعالى: ﴿ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ﴾ [محمد: 25]، قال الحسن البصري - رحمه الله -: "أي زيَّن لهم الشيطانُ الخطايا، ومدَّ لهم في الأمل"؛ الجامع لأحكام القرآن: 16/249.

فالشيطان يُغرِّر الإنسان، ويَعِده ويُمنِّيه الخُلْد، ويشجِّعه على الانغماس في الشهوات، والوقوع في المحرَّمات، واللهث وراء الملذات؛ كما قال تعالى عن الشيطان: ﴿ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [النساء: 120].

ومَن كان هذا وصْفَه، فحاله كحال البهائم؛ قال تعالى: ﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الحجر: 3]، أي: دعْهم يا محمد يعيشوا كالأنعام، ولا يَهتموا بغير الطعام والشهوات، ويشغَلهم طولُ الأمل عن الإيمان والأخذ بطاعة الله تعالى، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في "فتح الباري": "هذا تنبيه على أن إيثار التلذُّذ والتنعُّم، وما يؤدي إليه طول الأمل ليس من أخلاق المؤمنين"، وصدَق الحافظ ابن حجر، فلقد وصَف ربُّ العالمين اليهودَ والمشركين بهذا الوصف المَشين؛ فقال تعالى: ﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 96].

يقول صاحب "الظلال" في الآية السابقة:
"ولكنها خَصْلة أخرى في يهود، خصلة يُصوِّرها القرآن، صورة تَفيض بالزِّراية، وتنضِح بالتحقير والمهانة؛ حيث قال رب العالمين: ﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ﴾، أية حياة، لا يهم أن تكون حياة كريمة، حياة فقط! حياة بهذا التنكير والتحقير! حياة ديدان أو حشرات! حياة والسلام، إنها يهود في ماضيها وحاضرها ومستقبلها سواء، وما ترفَع رأسها إلا حين تغيب المطرقة؛ فإذا وُجِدت المطرقة، نكستْ وعنتِ الجباه جبنًا وحرصًا على الحياة، أي حياة، ﴿ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾، يود أحدهم لو يُعمَّر ألف سنة؛ ذلك لأنهم لا يَرجون لقاء الله، ولا يُحِسُّون أن لهم حياةً غير هذه الحياة، وما أقصر الحياة الدنيا وما أضيقها، حين تُحِس النفس الإنسانية أنها لا تتَّصِل بحياة سواها، ولا تطمع في غير أنفاس وساعات على الأرض معدودة"؛ اهـ.

ولا شك أن العبد إذا أَمعنَ النظرَ بصدق في هذه الصفة المرذولة، والخَصْلة القبيحة التي اتَّصَف بها اليهود والمشركون، وتَدَبَّر الآية الكريمة، فسوف يقوده ذلك إلى قِصَر الأمل، والزهد في الدنيا الفانية، والتسابق إلى الدار الآخرة الباقية الخالدة.

وقال تعالى: ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الزمر: 54- 58].

قال ابن رجب - رحمه الله - في "لطائف المعارف"، (ص 353)، عند ذِكْر هذه الآيات:
"اعلم أن الإنسان ما دام يأمُل الحياة، فإنه لا يقطَع أملَه من الدنيا، وقد لا تَسمَح نفسه بالإقلاع عن لذَّاتها وشهواتها من المعاصي وغيرها، ويُرجيه الشيطان بالتوبة في آخر عمره، فإذا تيَقَّن الموت وأيِس من الحياة، أفاق من سكرتِه بشهوات الدنيا؛ فنَدِم حينئذ على تفريطه ندامةً يكاد يَقتُل نفسه، وطلب الرَّجعة إلى الدنيا ليتوب ويعمل صالحًا، فلا يُجاب إلى شيء من ذلك، فيجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت، وقد حذَّر الله في كتابه عبادَه من ذلك؛ ليستعدوا للموت قبل نزوله بالتوبة والعمل الصالح".

وقال تعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 10، 11].

قال ابن كثير - رحمه الله - في "تفسيره":
"كل مُفرِّط يَندَم عند الاحتضار، ويسأل طول المدة ولو شيئًا يسيرًا؛ ليستعتِب ويَستدرِك ما فاته، وهيهات، كان ما كان، وأتى ما هو آتٍ".

ولقد بيَّن ربُّ العالمين في كتابه الكريم أن طول الأمل يُورِث قسوةَ القلب؛ فقال تعالى: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 16].

وقسوة القلب هي من أشد الأمراض فتْكًا بالإنسان، وإن أشدَّ المصائب قبل الموت هو موت القلوب، وموت القلوب إنما يكون بالحرص على الدنيا الفانية، والإعراض عن الباقية، وليعلم الإنسان أنه كلما ازداد حرصًا على الدنيا، ازداد بُعدًا عن الله -تعالى- ويقسو قلبه، ويُطيل الأملَ، فيَكسَل عن العمل وينسى الآخرة.

وقد رُوي في الحديث الذي أخرجه الحاكم: ((اقتربت الساعة ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصًا، ولا يزدادون من الله إلا بُعْدًا)).

حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن طول الأمل، والتحذير منه:
أخرج البيهقي في "الزهد الكبير" عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يهرَمُ[2] ابن آدم ويبقى معه اثنتان: الحرص والأمل))؛ قال الحافظ العراقي: "رواه ابن أبي الدنيا في قِصَر الأمل بإسناد صحيح.

وحقيقة الأمل: الحرص على الدنيا، والانكباب عليها، والحب لها، والإعراض عن الآخرة.

وأخرج عبدالغني بن سعيد في "الإيضاح" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الشيخ يَضْعُفُ جسمُه، وقلبه شاب على حبِّ اثنتين: طول الحياة، وحب المال))؛ (الصحيحة: 1906)، (صحيح الجامع: 3749).

وأخرج البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يزال قلب الكبير شابًّا في اثنتين: في حبِّ الدنيا، وطول الأمل))، وجاء في كتاب "قِصَر الأمل"؛ لابن أبي الدنيا ص 37 عن أبي عثمان النهدي قال: "قد بلغت ثلاثين ومائة سنة، فما منِّي شيء إلا قد عرفتُ فيه النُّقصان إلا أملي، فإنه كما هو".

إلامَ تُغرُّ بالأمل الطويل
وليس إلى الإقامة من سبيلِ
فدَعْ عنك التعلُّلَ بالأماني
فما بعدَ المشيب سوى الرحيل
أتأمَنُ أن تدومَ على الليالي
وكم أفنيْنَ قبلك من خليل
وما زالتْ بناتُ الدهر تُفني
بني الأيام جيلاً بعد جيل

باقة من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيها الحثُّ على قِصَر الأمل، وأن الأمر أعجل مما نتصوَّر؛ أخرج الإمام مسلم عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خطَب فذكر الساعة، رفع صوته واحمرَّت وَجنتاه، كأنه مُنذِر جيش يقول: ((صُبِّحتم مُسِّيتم))، ثم يقول: بُعِثتُ أنا والسَّاعَة كهاتين، يفرِّق بين أُصبعيه السبابة والتي تليها، ((صَبَّحتْكُم السَّاعَةُ ومسَّتْكم)).

وأخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن الحبيب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كيف أَنعَمُ وصاحب القرنِ قد التقَم القرنَ، وحنى جبهتَه، وانتظِر أن يؤذَن له))، وعند الترمذي بلفظ: ((كيف أنعم وصاحب الصور قد التقَمه، وأصغى سمْعَه، وحنى جبهته ينتظر متى يؤمَر بالنفخ؟))، فقالوا: يا رسول الله، وما تأمرنا؟ قال: ((قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل))؛ (السلسلة الصحيحة: 1079).

صاحب القرن: إسرافيل - عليه السلام - المُوكَّل بالنفخ في الصور لنفخة الصَّعْق، ونفخة البعث والقيام من القبور.

وفي رواية عند الحاكم في "المُستدرَك" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن طرف صاحب الصور منذ وُكِّل به مُستعِد ينظر نحو العرش، كأن عينيه كوكبان دُريَّان مخافة أن يؤمَر قبل أن يرتدَّ إليه طرفه))؛ (السلسلة الصحيحة: 1078).



[1] وروي هذا الحديث مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عند البزار من حديث أنس، والصحيح أنه حديث مقطوع؛ أي: موقوف على مالك بن دينار.
[2] يهرَم: يكبر ويشيب.


شبكة الألوكة
 تم النشر يوم  الاثنين، 3 فبراير 2014 ' الساعة  9:20 م


 
Toggle Footer