الأربعاء، 13 أغسطس 2014

(الملأ) آفة الأمم في كل عصر ومصر 

خالد سعد النجار 

جبلت النفس على حب النعيم، والخضوع لمن يغدق عليها، فيد السخي قادرة على محو كل عيب، وعلى غض الطرف عن كل هفوة، وقديمًا قالوا: "من جاد ساد" فكان شيخ القبيلة العربية من السخاء بالمكان الذي يمكنه من الاستحواذ على القلوب، بل إن شئت قلت: إنه من المحال أن تجد رئيس قبيلة بخيل.
 

ورغم أن الجود من الوجاهة الأخلاقية التي لا ينكرها أحد، إلا أن الطغاة استخدموا مفرداته في تسخير النفوس لخدمة باطلهم والسكوت عن إفكهم، حتى صار للجود وجها قبيحا كالحا تراه كل عين مظلومة في كل أزمنة الطغيان.

فتجد في بعض الأقطار في نفس الوقت الذي يعاني فيها نبهاء المجتمع شظف العيش، تجد مثلا قاضيا يصل راتبه لعشرة آلاف جنيها شهريا مع العديد من الامتيازات التي لا تعطى حتى للعظماء الذين أفنوا أعمارهم في خدمة الوطن كسهولة تملك الأراضي والعقارات، والتمتع بالحصانة القضائية، والعلاج على نفقة الدولة في أرقى المستشفيات وبإشراف أمهر الأطباء... والكثير والكثير.

رغم أن الحقيقة التي يعرفها الجميع أن اختيار هؤلاء يعتمد على المحسوبية، وأنهم ليسوا بأوائل دفعاتهم، بل إن غالبية منسوبي كلية الحقوق في تلك البلاد لا يملكون ميزة علمية متفردة ولا ملكة فكرية خاصة، وإن شئت قل أن كلية الحقوق تمثل آخر ملاذ طالب البكالوريا ضعيف المجموع لكي يلحق بالسلم الجامعي.

هذا في ذات الوقت الذي يعطى فيه مثلا نفس خريج كليه الطب -ذات المجاميع المرموقة- راتب لا يكفي لإطعام كلب أعزكم الله. وحدث ولا حرج عن خريجي كلية الهندسة والتربية والعلوم (قطاع الخدمات). هذا على فرض أنه تم تعيينهم في وظيفة حكومية أصلاً، وماذا عن الكليات المرموقة التي مجالها في التعيين الوظيفي ضيق جدا جدًا، مثل كلية الاقتصاد والعلوم السياسية والإعلام والألسن.

ويرى المغالطون أن مهنة القضاء من الهيبة والمكانة التي تستحق معها كل تقدير وعناية، وهذا ابتداء حق لا ريب فيه فبالعدل تقوم السماوات والأرض، لكن من العدل أيضا أن لا تسبح فئة إلا من رحم الله في خضم الترف والنعيم والامتيازات على حساب فئات أخرى، لا لغرض إلا شراء الذمم، وتزيين الإفك، والسكوت عن الفظائع، وما كل ما يعلم يقال.

وهل تربية المواطن دينيا وعلميا وبدنيا أهم، أم حل مشاكلهم التي تنشأ أصلا عن سوء تربيتهم.
وهل الخباز الذي يعد الخبز، والمزارع الذي يحرث الأرض، والصانع الذي يسهل الحياة. هل هؤلاء أقل شأنا من قاض يفصل في الخصومات؟


والعجيب أن هذه الظاهرة التدجينية الشاذة تغطي قطاعات كبيرة من الصفوة -إلا من رحم الله- من أمثال: أساتذة الجامعات والعسكر ورجال المخابرات والقطاعات الاقتصادية الحساسة كوزارة البترول، فضلا عن القطاعات السياسية كالسلك الدبلوماسي، والإعلامية كصحفي الأنظمة.

ويحرص أفراد كل طائفة من هؤلاء -إلا من رحم الله- على التفاني في خدمة الكبراء بكل جدارة، إثباتًا للولاء، ودعمًا لنفوذهم، وسعيًا لمزيدٍ من المكاسب والامتيازات الشخصية. ومع إغداق النخب على هؤلاء الصفوة لا يرضون منهم بمقابل سوى التبعية المطلقة، وغض الطرف عن التجاوزات، بل واللهج صبح مساء بمدح الكبير، والثناء عليه في كل محفل. فهو الحكيم الذي تنبثق عنه كل القرارات الصائبة، وهو العلامة في كل فن والفهامة في كل شيء، وهو الكريم الذي نعيش في خيره، وهو الفذ الذي يشيد الكل بريادته، وهو المعصوم الذي لا يأتي منه هفوة ولا ذلل. وأما من حوله من الصفوة فمهمتهم أن يؤمنوا إذا دعا، وأن يصدقوا إذا تكلم، وكيف لا وهم يتقلبون في نعمه غدوة وعشية، لا لألمعية خاصة ولا لموهبة متفردة، بل كل ما في الأمر أنهم اختيروا بعناية ليكونوا في فلك أصحاب الحظوة الذين يتغاضى الكبار عن المجرم والمنحرف منهم فهم يظلونهم ويسترونهم، فإذا انكشفوا حموهم ودافعوا عنهم، ليعلم أتباعهم دوما أن ظهرهم مسنود وأن ذنبهم مغفور.


لذلك فليس بغريب ولا عجيب أن ترى ولاء تلك الصفوة مطلق لا حدود له، خاصة وأنهم يرون بعين رأسهم أقرانهم في مجاهل الحياة، يعانون شظف العيش، ولوعة الحرمان، والاحتقار والضيم، رغم نفس الشهادة الجامعية والمؤهلات الدراسية أو الجسمية.

ومن الغريب والعجيب أن هذه القطاعات في تمددها وانتقائها لكوادرها انغلقت على نفسها في ظاهرة يصفها أحد المحللين بظاهرة (التوريث الفئوي) حيث يقول: ابن العمدة عمدة، وابن ضابط الشرطة ضابط شرطة، وابن الصحفي صحفي، وابن أستاذ الجامعة أستاذ جامعة، وهكذا. وبالطبع هذا التوريث مبني على اعتبارات غير موضوعية، اعتبارات تعلي من قيمة الحسب والنسب والمحسوبية والمدفوعات وتلقي بالكفاءات على الأرض لتحاصرها تفاصيل الفقر حتى تموت هما وكمدا أو تنتبذ في الصحراء مكانًا قصيًا.

يقول د. محمد العبدة: "نحن لسنا متخلفين في التصنيع وغيره من التقدم المادي وحسب، فربما يكون هذا أسهل الأمور، فتعلم التقنية الحديثة ليس بالأمر العسير، ولكننا متخلفون في الفكر السياسي عندما تختلط علينا الأمور ولا ندري عن الصالح والأصلح والسيئ والأسوأ، وعندما نفضل الاستبداد الذي يرعى مصالحنا الخاصة وأنانيتنا المفرطة، وعندما لم يعد باستطاعتنا التفريق بين الثوابت والمتغيرات فننساق إلى الجمود الذي يفقدنا الحيوية المطلوبة لمعالجة مشاكلنا" (خواطر في السياسة، د. محمد العبدة، دار الصفوة ص63).

معايير الاختيار:  
والواقع يؤكد أن المعايير التي يتم على أساسها اختيار النخب لقطاعات الصفوة تقوم على حساسية المركز ومدى تأثيره وخطورته بالنسبة لكيانهم، وهذا واضح جدا في شتى القطاعات التي ذكرناها، وإلا فما عسى طبيب أو مدرس أو صانع بسيط أن يؤثر في كيان صاحب نفوذ، أو تكون له شوكة في إزالة منكره أو دفع مظلمته.

الملأ والأدوار المشبوهة: 
إن هؤلاء الصفوة أو الحاشية هم مشكلة كل عصور الطغيان في القديم والحديث، وهم أقرب ما يكونون إلى وصف (الملأ) الذين حدثنا القرآن الكريم -في أكثر من آية- عن صفاتهم وخطورة دورهم الخبيث في كافة الأزمان.


قال المفسرون: الملأ: الأشراف من الناس، وهو اسم جمع، ويجمع على إملاء، وسموا بذلك لأنهم يملؤون العيون هيبة، أو المكان إذا حضروه، أو لأنهم مليؤون بما يحتاج إليه.


قال الشعراوي: "الملأ كما نعلم هم وجوه القوم، وهم السادة الذين يملؤون العيون مهابة، ويتصدرون أي مجلس. وهناك مثل شعبي في بلادنا يوضح ذلك المعنى حين نقول: فلان يملأ العين، أي: أن العين حين تنظر إليه لا تكون فارغة، فلا جزء في العين يرى غيره. ويقال أيضاً: فلان قَيْد النواظر أي: أنه إذا ظهر تقيَّدت به كل النواظر، فلا تلتفت إلى سواه، ولا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا كانت فيه مزايا تجذب العيون إليه بحيث لا تتحول عنه.والمراد بذلك هو الحاشية المقربة، أو الدائرة الأولى التي حول المركز، فَحَوْل كل مركز هناك دوائر، والملأ هم الدائرة الأولى، ثم تليهم دائرة ثانية، ثم ثالثة وهكذا، والارتباك إنما ينشأ حين يكون للدائرة أكثر من مركز، فتتشتت الدوائر" (تفسير الشعراوي: 1/4176). 

وعن صفاتهم ودورهم الخطير يحدثنا القرآن الكريم عن الكثير من المظاهر:
قال  تعالى: ﴿ قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ [الأعراف: 60].
ولم يجبه من قومه إلا أشرافهم وسادتهم وهم الذين يتعاصون على الرّسل لانغمار عقولهم بالدنيا وطلب الرئاسة والعلوّ فيهما (البحر المحيط: 4/324) قال ابن كثير: "وهكذا حال الفجار، إنما يرون الأبرار في ضلالة، كقوله: ﴿ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ ﴾ ". 

يقول سيد قطب رحمه الله: "كما قال مشركو العرب لمحمد صلى الله عليه وسلم إنه صبأ، ورجع عن دين إبراهيم. وهكذا يبلغ الضال من الضلال أن يحسب من يدعوه إلى الهدى هو الضال. بل هكذا يبلغ التبجح الوقح بعدما يبلغ المسخ في الفطر. هكذا تنقلب الموازين، وتبطل الضوابط، ويحكم الهوى، ما دام أن الميزان ليس هو ميزان الله الذي لا ينحرف ولا يميل، وماذا تقول الجاهلية اليوم عن المهتدين بهدى الله؟ إنها تسميهم الضالين، وتعد من يهتدي منهم ويرجع بالرضى والقبول! أجل من يهتدي إلى المستنقع الكريه، وإلى الوحل الذي تتمرغ الجاهلية فيه، وماذا تقول الجاهلية اليوم للفتاة التي لا تكشف عن لحمها؟ وماذا تقول للفتى الذي يستقذر اللحم الرخيص؟ إنها تسمي ترفعهما هذا ونظافتهما وتطهرهما (رجعية) وتخلفاً وجموداً وريفية. وتحاول الجاهلية بكل ما تملكه من وسائل التوجيه والإعلام أن تغرق ترفعهما ونظافتهما في الوحل الذي تتمرغ فيه في المستنقع الكريه..

وماذا تقول الجاهلية لمن ترتفع اهتماماته عن جنون مباريات الكرة، وجنون الأفلام والسينما والتليفزيون وما إليه، وجنون الرقص والحفلات الفارغة والملاهي؟ إنها تقول عنه: إنه (جامد). ومغلق على نفسه، وتنقصه المرونة والثقافة، وتحاول أن تجره إلى تفاهة من هذه ينفق فيها حياته. إن الجاهلية هي الجاهلية. فلا تتغير إلا الأشكال والظروف" (في ظلال القرآن: 3/240). 

وقال تعالى: ﴿ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [الأعراف:66]. أخبر أنهم سلكوا طريق أسلافهم وإخوانهم، فوقعوا في وهدتهم، ومُنُوا بمثل حالتهم، فلا خيرَ فيمن آثر هواه على رضاءِ الله، ولا رَبحَ مَنْ قَدَّم هواه على حقِّ الله (تفسير القشيري: 2/391).

إنه مشهد بائس لاستعباد الواقع المألوف للقلوب والعقول. هذا الاستعباد الذي يسلب الإنسان خصائص الإنسان الأصيلة: حرية التدبر والنظر، وحرية التفكير والاعتقاد. ويدعه عبداً للعادة والتقليد، وعبداً للعرف والمألوف، وعبداً لما تفرضه عليه أهواؤه وأهواء العبيد من أمثاله، ويغلق عليه كل باب للمعرفة وكل نافذة للنور (في ظلال القرآن: 3/243).

وقال  تعالى: ﴿ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف:75].عَدَل الملأُ الّذين استكبروا عن مجادلة صالح  عليه السلام  إلى اختبار تصلّب الذين آمنوا به في إيمانهم، ومحاولة إلقاء الشكّ في نفوسهم، ولما كان خطابهم للمؤمنين مقصوداً به إفساد دعوة صالح عليه السلام كان خطابهم بمنزلة المحاورة مع صالح  عليه السلام، فلذلك فصلت جملة حكاية قولهم على طريقة فصْل جُمل حكاية المحاورات. ووَصْفُهم بالذين استكبروا هنا لتفظيع كبرهم وتعاظمهم على عامة قومهم واستذلالهم إياهم. وللتّنبيه على أنّ الذين آمنوا بما جاءهم به صالح  عليه السلام هم ضعفاء قومه.

واختيار طريق الموصولية في وصفهم ووصفِ الآخرين بالذين استضعفوا لما تومئ إليه الصّلة من وجه صدور هذا الكلام منهم، أي أن استكبارهم هو صارفهم عن طاعة نبيهم، وأنّ احتقارهم المؤمنين هو الذي لم يُسغ عندهم سبقَهم إياهم إلى الخير والهدى، كما حكى عن قوم نوح قولهم: ﴿ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ ﴾ [هود:27]. وكما حكى عن كفّار قريش بقوله: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ﴾ [الأحقاف:11]، ولهذا لم يوصفوا بالكفر كما وصف به قوم هود.

والذين استُضعفوا هم عامّة النّاس الذين أذلّهم عظماؤهم واستعبدوهم لأنّ زعامة الذين استكبروا كانت قائمة على السّيادة الدّنيوية الخلية عن خلال الفضيلة، من العَدل والرأفة وحبّ الإصلاح، فلذلك وصف الملأُ بالّذين استكبروا، وأطلق على العامة وصف الذين استُضعفوا (التحرير والتنوير: 8/223).

قد جرت سنة اللّه أن يكون الفقراء المستضعفون أسرع الناس إلى إجابة دعوة الأنبياء والرسل، وإلى كل دعوة لإصلاح، فإنه لا يثقل عليهم أن يكونوا تابعين لغيرهم، وأن يكفر بها أكابر القوم وأغنياؤهم المترفون، إذ يشق عليهم أن يكونوا مرءوسين لسواهم، كما يصعب عليهم الامتناع عن الإسراف فى الشهوات، والوقوف عند حدود الاعتدال (تفسير المراغي: 1/1801).


وقال  تعالى: ﴿ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ﴾ [الأعراف: 88]. كان جوابهم عن حجّة شعيب جوابَ المفحَم عن الحجّة، الصائر إلى الشدّة، المزدهي بالقوة، المتوقّعِ أن يكثر معاندوه، فلذلك عدلوا إلى إقصاء شعيب وأتباعه عن بلادهم خشية ظهور دعوته بين قومهم، وبث أتباعه دعوته بين الناس، فلذلك قالوا: ﴿ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا ﴾   (التحرير والتنوير: 9/5).

استعملوا قوتهم السبعية، في مقابلة الحق، ولم يراعوا دينا ولا ذمة ولا حقا، وإنما راعوا واتبعوا أهواءهم وعقولهم السفيهة التي دلتهم على هذا القول الفاسد، فقالوا: إما أن ترجع أنت ومن معك إلى ديننا أو لنخرجنكم من قريتنا (تفسير السعدي: 1/296). وفيه إشارة إلى أن من شأن المتكبرين ودأب المتجبرين الاستعلاء، وأن يخرج الأعز الأذل، وذلك لما فيهم من بطر النعم وطغيان الاستغناء وعمه الاستبداد، ولمَّا كان حب الدنيا رأس كل خطيئة وفتنتها أعظم من كل بلية جعل الله  تعالى أهلها في البلاد سبباً للهلاك والفساد، كما قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾ (تفسير روح الييان: 3/152). وقال  تعالى: ﴿ وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ﴾ [الأعراف:90].

اعلم أنه تعالى بين عظم ضلالتهم بتكذيب شعيب. ثم بين أنهم لم يقتصروا على ذلك، حتى أضلوا غيرهم، ولاموهم على متابعته فقالوا: ﴿ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ﴾ . واختلفوا فقال بعضهم: خاسرون في الدين. وقال آخرون: خاسرون في الدنيا، لأنه يمنعكم من أخذ الزيادة من أموال الناس، وعند هذا المقال كمل حالهم في الضلال أولاً وفي الإضلال ثانياً (التفسير الكبير للرازي: 14/148).

وماذا سيخسرون؟ سيخسرون لأنهم كانوا سيأخذون أكثر من حقهم حين يطففون الكيل ويخسرون الميزان، والقوي يأخذ من الضعيف، فإذا ما ارتبطوا بالمنهج واتبعوه خسروا ما كانوا يأخذونه من تطفيف الكيل وبخس وخسران الميزان بمنهج. وهذه هي الخسارة في نظر المنحرف (تفسير الشعراوي: 1/2962).

إنها ملامح المعركة التي تتكرر ولا تتغير. إن الطواغيت يتوجهون أولاً إلى الداعية ليكف عن الدعوة. فإذا استعصم بإيمانه وثقته بربه، واستمسك بأمانة التبليغ وتبعته، ولم يرهبه التخويف بالذي يملكه الطغاة من الوسائل. تحولوا إلى الذين اتبعوه يفتنونهم عن دينهم بالوعيد والتهديد، ثم بالبطش والعذاب. إنهم لا يملكون حجة على باطلهم، ولكن يملكون أدوات البطش والإرهاب، ولا يستطيعون إقناع القلوب بجاهليتهم -وبخاصة تلك التي عرفت الحق فما عادت تستخف بالباطل- ولكنهم يستطيعون البطش بالمصرين على الإيمان، الذي أخلصوا الدينونة لله فأخلصوا له السلطان (في ظلال القرآن: 3/255). وقال  تعالى: ﴿ قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأعراف:109].

وفي الشعراء: ﴿ قَالَ لِلْمَلأ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَسَـاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾ والجمع بينهما أن فرعون وهم قالوا هذا الكلام، فحكى هنا قولهم وهناك قوله، أو قاله ابتداء فتلقفه منه الملأ فقالوه لأعقابهم أو قالوه عنه للناس على طريق التبليغ كما تفعل الملوك يرى الواحد منهم الرأي فيكلم به من يليه من الخاصّة ثم تبلغه الخاصة العامة (البحر المحيط: 4/289).

﴿ قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾ ، قيل: هو وأشرافُ قومه، على سبيل المشاورة في أمره، فحكى عنه في سورة الشعراء، وعنهم هنا، أو قاله هو ووافقوه عليه، كعادة جلساء الملوك مع أتباعهم (البحر المديد: 2/525).

وحكى النقاش أنه لم يكن يجالس فرعون ولد بغية، وإنما كانوا أشرافا، ولذلك أشاروا بالإرجاء ولم يشيروا بالقتل، وقالوا إن قتلته دخلت على الناس شبهة ولكن أغلبه بالحجة (تفسير الثعالبي: 2/43).

﴿ قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ ﴾ حين بهرهم ما رأوا من الآيات، ولم يؤمنوا، وطلبوا لها التأويلات الفاسدة: ﴿ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾ أي: ماهر في سحره. ثم خوفوا ضعفاء الأحلام وسفهاء العقول، بأنه ﴿ يُرِيدُ ﴾ موسى بفعله هذا ﴿ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ ﴾ أي: يريد أن يجليكم عن أوطانكم ﴿ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ  ﴾ أي: إنهم تشاوروا فيما بينهم ما يفعلون بموسى، وما يندفع به ضرره بزعمهم عنهم، فإن ما جاء به إن لم يقابل بما يبطله ويدحضه، وإلا دخل في عقول أكثر الناس. فحينئذ انعقد رأيهم إلى أن قالوا لفرعون: ﴿ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ ﴾ أي: احبسهما وأمهلهما، وابعث في المدائن أناسا يحشرون أهل المملكة ويأتون بكل سحار عليم، أي: يجيئون بالسحرة المهرة، ليقابلوا ما جاء به موسى (تفسير السعدي: 1/299).

إذا أراد اللّه هوان عبد لا يزيد الحقّ حجّة إلا ويزيد لذلك المبطل فيه شبهة، فكلّما زاد موسى عليه السلام في إظهار المعجزات، ازدادوا حيرة في التأويلات (لطائف الإشارات للقشيري: 1/556). إنهم يصرحون بالنتيجة الهائل? التي تتقرر من إعلان تلك الحقيقة، إنها الخروج من الأرض، إنها ذهاب السلطان، إنها إبطال شرعية الحكم. أو محاولة قلب نظام الحكم بالتعبير العصري الحديث.

إن الأرض لله،  والعباد لله،  فإذا ردت الحاكمية في أرض لله، فقد خرج منها الطغاة الحاكمون بغير شرع الله، أو خرج منها الأرباب المتألهون الذين يزاولون خصائص الألوهية بتعبيد الناس لشريعتهم وأمرهم، وخرج منها الملأ الذين يوليهم الأرباب المناصب والوظائف الكبرى، فيعبدون الناس لهذه الأرباب (في ظلال القرآن: 3/269). 

وقال تعالى: ﴿ وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ﴾ [الأعراف:127]. قرأ الجمهور ﴿ وَيَذَرَكَ ﴾ بالياء وفتح الراء عطفاً على ﴿ لِيُفْسِدُوا ﴾ أي للإفساد ولتركك وترك آلهتك، وكان التّرك هو لذلك، وبدؤوا أوّلاً بالعلة العامة وهي الإفساد ثم اتبعوه بالخاصة ليدلّوا على أن ذلك الترك من فرعون لموسى وقومه هو أيضاً يؤول إلى شيء يختصّ بفرعون، قدحوا بذلك زند تغيظه على موسى وقومه ليكون ذلك أبقى عليهم، إذ هم الأشراف، وبترك موسى وقومه بمصر يذهب ملكهم وشرفهم (تفسير البحر المحيط:4/296).

وقال تعالى: ﴿ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ﴾ [هود:27]. مبالغة في الأخبار، وكأنه مؤذن بتأكيد حصر من اتبعه، وأنهم هم الأراذل لم يشركهم شريف في ذلك. وفي الحديث «إنهم كانوا حاكة وحجامين» وقال النحاس: "هم الفقراء والذين لا حسب لهم، والخسيسوا الصناعات". وفي حديث هرقل: «أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم، فقال: هم أتباع الرسل قبل». وإنما كان كذلك لاستيلاء الرئاسة على الأشراف وصعوبة الانفكاك عنها، والأنفة من الانقياد لغيرهم، والفقير خلى عن تلك الموانع فهو سريع إلى الإجابة والانقياد (تفسير البحر المحيط: 5/177). 

والأراذل جمع )أرذل (، مثل قولنا: أفاضل قوم ، وهي جمع (أفضل)، والأرذل هو الخسيس الدنيء في أعين الناس، ورذال المال أي: رديئة، ورذال كل شيء هو نفايته. ونرى في الريف أثناء مواسم جمع القطن عملية فرز القطن، يقوم بها صغار البنين والبنات، فيفصلون القطن النظيف، عن اللوز الذي لم يتفتح بالشكل المناسب، لأن اللوزة المصابة عادة ما تعاني من ضمور، ولم تنضج النضج الصحيح. وكذلك يفعل الفلاحون في موسم جمع البلح، فيفصلون البلح الجيد عن البلح المعيب. إذن: فرذال كل شيء هو نفايته.

وقد قال الملأ من الكفار من قوم نوح: ﴿ وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا ﴾ أي: أنهم وصفوا من آمنوا بنوح عليه السلام بأنهم نفاية المجتمع. وجاء الحق على ألسنتهم بقولهم في موضع آخر: ﴿ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ﴾ [الشعراء:111]. ولم يَنْفِ نوح عليه السلام ذلك، لأن الذين اتبعوه قد يكونون من الضعاف، وهم ضحايا الإفساد، لأن القوى في المجتمع لا يقربه أحد، ولذلك فإنه لا يعاني من ضغوط المفسدين، أما الضعاف فهم الذين يعانون من المفسدين، فما إن يظهر المُخلِّص لهم من المفسدين فلا بد أن يتمسكوا به.  ولكن ذلك لا يعني أن الإيمان لا يلمس قلوب الأقوياء، بدليل أن البعض من سادة وأغنياء مكة استجابوا للدعوة المحمدية مثل: أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم. ولكن الغالب في دعوات الإصلاح أنه يستجيب لها المطحونون بالفساد، هؤلاء الذين يشعرون بالغليان في مراجل الألم بسبب الفساد، وما إن يظهر داعية الإصلاح ويريد أن يزحزح الفساد، فيلتفُّون حوله ويتعاطفون معه، وإن كانوا غير عبيد، لكن محكومين بالغير، فهم يؤمنون علناً برجل الإصلاح، وإن كانوا عبيداً مملوكين للسادة، فهم يؤمنون خفية، ويتحمل القوي منهم الاضطهاد والتعذيب.

إذن، فكل رسول يأتي إنما يأتي في زمن فساد - وهذا الفساد ينتفع به بعض الناس -  وطغيان يعاني منه الكثيرون الواقع عليهم الفساد والطغيان. ويأتي الرسول وكأنه ثورة على الطغيان والفساد، لذلك يتمسك به الضعفاء ويفرحون به، وتلتف قلوبهم حوله. أما المنتفعون بالفساد فيقولون: إن أتباعك هم أراذلنا. وكأن هذا القول طَعْن في الرسول، لكنهم أغبياء، لأن هذا القول دليل على ضرورة مجيء الرسول، ليخلص هؤلاء الضعاف، ويجيء الرسول ليقود غضبة على فساد الأرض، ولينهي هذا الفساد. وهي غضبة تختلف عن غضبة الثائر العادي من الناس، فالثائر من الناس يرى من يصفق له من المطحونين بالفساد. لكن آفة الثائر من البشر شيء واحد، هي أنه يريد أن يستمر ثائراً، ولكن الثائر الحق هو الذي يثور ليهدم الفساد، ثم يهدأ ليبني الأمجاد، فلا يسلط السيف على الكل، ولا يفضِّل قوماً على قوم، ولا يدلل مَنْ طُغِي عليهم، ويظلم مَنْ طغوا. بل عليه أن يحكم بين الناس بالعدل والرحمة، لتستقيم الأمور، وتذهب الأحقاد، ويعلم الناس كلهم أن الثائر ما جاء ضد طائفة بعينها، وإنما جاء ضد ظلم طائفة لغيرها فإذا أخذ من الظالم وأعطى المظلوم، فليجعل الاثنين سواء أمام عينيه. (تفسير الشعراوي:1/4177).

ويقول سيد قطب: ذلك رد العلية المتكبرين الملأ، كبار القوم المتصدرين. وهو يكاد يكون رد الملأ من قريش: ﴿ ما نراك إلا بشراً مثلنا، وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل، بل نظنكم كاذبين ﴾ . الشبهات ذاتها، والاتهامات ذاتها، والكبرياء ذاتها، والاستقبال الغبي الجاهل المتعافي. إنها الشبهة التي وقرت في نفوس جهال البشر: أن الجنس البشري أصغر من حمل رسالة الله، فإن تكن رسالة فليحملها ملك أو مخلوق آخر. وهي شبهة جاهلة، مصدرها عدم الثقة بهذا المخلوق الذي استخلفه الله في أرضه، وهي وظيفة خطيرة ضخمة، لا بد أن يكون الخالق قد أودع في هذا الإنسان ما يكافئها من الاستعداد والطاقة، وأودع في جنسه القدرة على أن يكون من بينه أفراد مهيئون لحمل الرسالة، باختيار الله لهم، وهو أعلم بما أودع في كيانهم الخاص من خصائص هذا الجنس في عمومه.

وشبهة أخرى جاهلة كذلك. هي أنه إذا كان الله يختار رسولاً، فلم لا يكون من بين هؤلاء الملأ الكبراء في قومهم، المتسلطين العالين؟ وهو جهل بالقيم الحقيقية لهذا المخلوق الإنساني، والتي من أجلها استحق الخلافة في الأرض بعمومه، واستحق حمل رسالة الله بخصوصيته في المختارين من صفوفه. وهذه القيم لا علاقة لها بمال أو جاه أو استطالة في الأرض، إنما هي في صميم النفس، واستعدادها للاتصال بالملأ الأعلى، بما فيها من صفاء وتفتح وقدرة على التلقي، واحتمال للأمانة وصبر على أدائها ومقدرة على إبلاغها. إلى آخر صفات النبوة الكريمة. وهي صفات لا علاقة لها بمال أو جاه أو استعلاء. ولكن الملأ من قوم نوح، كالملأ من قوم كل نبي تعميهم مكانتهم الدنيوية عن رؤية هذه الخصائص العلوية، فلا يدركون مبرراً لاختصاص الرسل بالرسالة. وهي في زعمهم لا تكون لبشر. فإن كانت فهي لأمثالهم من الوجهاء العالين في الأرض.

﴿ وما نراك إلا بشراً مثلنا ﴾ . هذه واحدة. أما الأخرى فأدهى: ﴿ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا، بادي الرأي ﴾ . وهم يسمون الفقراء من الناس (أراذل)، كما ينظر الكبراء دائماً إلى الآخرين الذين لم يؤتوا المال والسلطان! وأولئك هم أتباع الرسل السا?قون غالباً، لأنهم بفطرتهم أقرب إلى لاستجابة للدعوة التي تحرر الناس من العبودية للكبراء، وتصل القلوب بإله واحد قاهر عال على الأعلياء، ولأن فطرتهم لم يفسدها البطر والترف، ولم تعوقها المصالح عن الاستجابة، ولأنهم لا يخافون من العقيدة في الله أن تضيع عليهم مكانة مسروقة لغفلة الجماهير واستعبادها للخرافات الوثنية في شتى صورها. وأول صور الوثنية الدينونة والعبودية والطاعة والاتباع للأشخاص الزائلة بدلاً من الاتجاه بهذا كله لله وحده دون شريك. فرسالات التوحيد هي حركات التحرير الحقيقية للبشر في كل طور وفي كل أرض. ومن ثم كان يقاومها الطغاة دائماً، ويصدون عنها الجماهير، ويحاولون تشويهها واتهام الدعاة إليها بشر التهم للتشويش والتنفير.

﴿ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ﴾ . أي دون ترو ولا تفكير. وهذه تهمة كذلك توجه دائماً من الملأ العالين لجموع المؤمنين. أنها لا تتروى ولا تفكر في اتباع الدعوات. ومن ثم فهي متهمة في اتباعها واندفاعها، ولا يليق بالكبراء أن ينهجوا نهجها، ولا أن يسلكوا طريقها. فإذا كان الأراذل يؤمنون، فما يليق إذن بالكبراء أن يؤمنوا إيمان الأراذل، ولا أن يدعوا الأراذل يؤمنون!

﴿ وما نرى لكم علينا من فضل ﴾ . يدمجون الداعي بمن تبعوه من الأراذل. ما نرى لكم علينا من فضل يجعلكم أقرب إلى الهدى، أو أعرف بالصواب. فلو كان ما معكم خيراً وصواباً لاهتدينا إليه، ولم تسبقونا أنتم إليه. وهم يقيسون الأمور ذلك القياس الخاطئ الذي تحدثنا عنه. قياس الفضل بالمال، والفهم بالجاه، والمعرفة بالسلطان. فذو المال أفضل، وذو الجاه أفهم، وذو السلطان أعرف. هذه المفاهيم وتلك القيم التي تسود دائماً حين تغيب عقيدة التوحيد عن المجتمع، أو تضعف آثارها، فترتد البشرية إلى عهود الجاهلية، وإلى تقاليد الوثنية في صورة من صورها الكثيرة وإن بدت في ثوب من الحضارة المادية قشيب. وهي انتكاسة للبشرية من غير شك، لأنها تصغر من القيم التي بها صار الإنسان إنساناً، واستحق الخلافة في الأرض، وتلقى الرسالة من السماء، وترجع به إلى قيم أقرب إلى الحيوانية العضلية الفيزيقية. 

﴿ بل نظنكم كاذبين ﴾ . وهي التهمة الأخيرة يقذفون بها في وجه الرسول وأتباعه. ولكنهم على طريقة طبقتهم. (الأرستقراطية) يلقونها في أسلوب التحفظ اللائق (بالأرستقراط)، ﴿ بل نظنكم ﴾ لأن اليقين الجازم في القول والاتجاه من طبيعة الجماهير المندفعة بادي الرأي التي يترفع عنها السادة المفكرون المتحفظون. إنه النموذج المتكرر من عهد نوح، لهذه الطبقة المليئة الجيوب الفارغة القلوب، المتعاظمة المدعية المنتفخة الأوداج والأمخاخ (في ظلال القرآن: 4/212).

وقال  تعالى: ﴿ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ﴾ [المؤمنون: 24]. أي يطلب الفضل عليكم ويرأسكم، كقوله: ﴿ وَتَكُونَ لَكُمَا الكبرياء فِي الأرض ﴾ ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لا نزَلَ مَلَائِكَةً ﴾ . وهذه شنشنة قريش ودأبها في استبعاد إرسال الله البشر. وأعجب بضلال هؤلاء استبعدوا رسالة البشر واعتقدوا إلهية الحجر (تفسير البحر المحيط: 6/292 بتصرف).

﴿ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ﴾ فإن سادة القوم ظنوا أنه ما جاء بتلك الدعوة إلاّ حباً في أن يَسُود على قومهم، فَخَشُوا أن تزول سيادتهم، وهم بجهلهم لا يتدبرون أحوال النفوس، ولا ينظرون مصالح الناس، ولكنهم يقيسون غيرهم على مقياس أنفسهم. فلما كانت مطامح أنفسهم حبّ الرئاسة والتوسل إليها بالانتصاب لخدمة الأصنام توهموا أن الذي جاء بإبطال عبادة الأصنام إنما أراد منازعتهم سلطانهم. والتفضل: تكلف الفَضل وطلبه، والفضل أصله الزيادة ثم شاع في زيادة الشرف والرفعة، أي يريد أن يكون أفضل الناس لأنه نسبهم كلهم إلى الضلال. )التحرير والتنوير: 18/42(.

يقول الشعراو  رحمه الله تعالى: الملأ: هم الذين يملؤون صدور المجالس أُبَّهة وفخامة ووجاهة وسيادة، لكن، لماذا هؤلاء بالذات هم الذين تعصَّبوا ضده وواجهوه؟ قالوا: لأن منهج الله ما جاء إلا لإصلاح ما فسد في الكون وما استشرى فيه من شر، فالحق  تبارك وتعالى يُنزِل منهجاً على لسان رسول أول، ويطلب من قومه أن يُبلِّغوا منهج رسولهم من بعده، لكن تأتي الغفلة على هذا المنهج فيخرج الناس عنه ويأتي خروجهم عن منهج ربهم على عِدَّة صور: فمنهم مَنْ يخرج عن منهج ربه ويصنع الذنب، إلا أنه يعاود نفسه ويراجعها ويلومها وسرعان ما يتوب ويندم، فزاجره من نفسه وواعظه من داخله، وهؤلاء الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً. 

ومنهم مَنْ يخرج على منهج ربه خروجاً لا رجعةَ له ولا زاجر، وهذا نسميه بلغتنا (فاقد) يعني: لم يَعُدْ له زاجر من شرع ولا من ضمير. ويبقى بعد ذلك زاجر المجتمع حين يرى مثل هؤلاء الخارجين عن منهج الحق عليه أنْ يتصدَّى لهم، ويقاطعهم ولا يودهم ولا يحترمهم، وإلا لو ظَلَّ المنحرف ومرتكب القبائح على حاله من احترام الناس وتقديرهم، ولو ظلَّ على مكانته في المجتمع لتمادى في غَيِّه وأسرف على نفسه وعلى مجتمعه فيستشري بذلك الشر في المجتمع، ويعُمّ الفساد وتشيع الفوضى.

ألاَ ترى الشرع الحكيم حين جعل الدية في القتل على العاقلة يعني: عائلة القاتل، لا على القاتل وحده؟ لماذا؟ لكي يأخذوا على يد ولدهم إن انحرف أو بدَتْ عنده بوادر الاعتداء، لأنهم جميعاً سيحملون هذه التبعة. ونقول: خُصَّ الملأ بالذات، لأنهم هم المنتفعون بالشر والفساد في المجتمع، ومن مصلحتهم أنْ يستمر هذا الوضع لتبقى لهم سلطتهم الزمنية ومكانتهم، لذلك هم أول مَنْ يقابلون الرسالات بالجحود والنكران. ألم يقل الحق  سبحانه عنهم في آية أخرى: ﴿ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا ﴾ [هود:27].

فهؤلاء الذين يُسمُّونهم أراذل هم المستضعفون والفقراء والمطحونون والمهمومون بأمور الخَلْق والدين والقيم، فما إنْ تسمع آذانهم عن رسالة إلا تلهَّفوا عليها وارتموا في أحضانها لأنها جاءت لتنقذهم، لذلك يكونون أول مَنْ يؤمن. وإنْ جاء المنهج لإنصاف هؤلاء، فقد جاء أيضاً لينزع من أصحاب السلطان والقهر والجبروت سلطانهم وتعاليهم، فلا بُدَّ أن يواجهوه ويعاندوه (تفسير الشعراوي: 1/6148).

وقال تعالى: ﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ﴾ [المؤمنون: 33]. من عادة الحق سبحانه ، إذا أكب الناس على دنياهم، واتخذوا إلههم هواهم، بعث من يذكرهم بالله، فيقول لهم: اعبدوا الله، ما لكم من إله غيره، أي: أفردوه بالمحبة، واقصدوه بالوجهة، فما عبدَ الله من عبد هواه، فيقول المترفون، وهم المنهمكون في الغفلة، المحجوبون بالنعمة عن المنعم، الذين اتسعت دائرة حسهم: ما هذا الذي يعظكم، ويريد أن يخرجكم عن عوائدكم، ألا بشر مثلكم، يأكل مما تأكلون، ويشرب مما تشربون، وما دَروا أنَّ وصف البشرية لا ينافي وجود الخصوصية، فإذا تمادوا في غفلتهم، وأيس من هدايتهم، ربما دعا عليهم، فأصبحوا نادمين، حين لا ينفعهم الندم، وذلك عند نزول هواجم الحِمَامِ (البحر المديد: 5/25).

والترف يفسد الفطرة، ويغلظ المشاعر، ويسد المنافذ، ويفقد القلوب تلك الحساسية المرهفة التي تتلقى وتتأثر وتستجيب. ومن هنا يحارب الإسلام الترف، ويقيم نظمه الاجتماعية على أساس لا يسمح للمترفين بالوجود في الجماعة المسلمة، لأنهم كالعفن يفسد ما حوله، حتى لينخر فيه السوس، ويسبح فيه الدود (في ظلال القرآن: 5/223).

وقال تعالى: ﴿ وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ﴾ [ص: 6]. كما يصور طريقتهم في مقاومة هذه الحقيقة في نفوس الجماهير، وتثبيتهم على ما هم عليه من عقيدة موروثة متهافتة. وإيهامهم أن وراء الدعوة الجديدة خبيئاً غير ظاهرها، وأنهم هم الكبراء العليمون ببواطن الأمور، مدركون لما وراء هذه الدعوى من خبيء. ﴿ وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ﴾ . فليس هو الدين، وليست هي العقيدة، إنما هو شيء آخر يراد من وراء هذه الدعوة. شيء ينبغي أن تدعه الجماهير لأربابه، ولمن يحسنون فهم المخبآت وإدراك المناورات. وتنصرف هي إلى عادتها الموروثة، وآلهتها المعروفة، ولا تعني نفسها بما وراء المناورة الجديدة. فهناك أربابها الكفيلون بمقاومتها. تطمئن الجماهير، فالكبراء ساهرون على مصالحهم وعقائدهم وآلهتهم.

إنها الطريقة المألوفة المكرورة التي يصرف بها الطغاة جماهيرهم عن الاهتمام بالشؤون العامة، والبحث وراء الحقيقة. وتدبر ما يواجههم من حقائق خطرة. ذلك أن اشتغال الجماهير بمعرفة الحقائق بأنفسهم خطر على الطغاة، وخطر على الكبراء، وكشف للأباطيل التي يغرقون فيها الجماهير. وهم لا يعيشون إلا بإغراق الجماهير في الأباطيل (في ظلال القرآن: 6/202).

إن الامتيازات والحصانات عندما تعطى لفئة من فئات المجتمع دون غيرها، يذهب ذلك ببصرها وبصيرتها. فتصير المحافظة على مصالحها وامتيازاتها شغلها الشاغل. لذا نراها تختلق الأعذار لتتملص من الفئات الأخرى، وتباعد بينها وبينهم. وتنظر بعين الريبة إلى المطالبة بالمشاركة في مصير الأمة. بل وتعتبر الدعوة إلى الاتحاد بوجه المفسدين وإلى مقاومتهم -كواجب يقع على الجميع- خطرا يتهدد استقرارها ومصدر عيشها. وبكلام أكثر صراحة ووضوحًا، يتحول الارتزاق، ليس عن طريق العمل المفيد، وإنما على حساب حقوق الغير من أبناء الوطن، غاية لا تعلو عليها غاية.

إن هؤلاء الملأ لا يعول عليهم في تغيير الأوضاع وأخذ الأمور العسيرة نحو النور والانفراج، لأن مثل هذا الأمر يحتاج لأهل الاستقلال في الفكر والرأي المتجردون عن حظوظ النفس والبعيدون عن مخازي الاستبداد، ولا يستطيع أن يحوطه من جميع جوانبه إلا من بعد عن أخلاق السفلة وأخلاق الأنانية وحب الذات.

رحم الله سعيد بن سويد عندما خطب في حمص فحمد الله  تعالى وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس إن للإسلام حائطا منيعا وبابا وثيقا، فحائط الإسلام الحق، وبابه العدل، ولا يزال الإسلام منيعا ما اشتد السلطان، وليست شدة السلطان قتلا بالسيف ولا ضربا بالسوط، ولكن قضاء بالحق وأخذا بالعدل". 

لكن في النهاية عزاؤنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفًا» (صحيح الترمذي/الألباني 2355) وفي رواية: «يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا» فقيل: صفهم لنا؟ قال: «الدنسة ثيابهم، الشعثة رؤوسهم، الذين لا يؤذن لهم على السدات، ولا ينكحون المنعمات، توكل بهم مشارق الأرض ومغاربها، يعطون كل الذي عليهم، ولا يعطون كل الذي لهم» (صحيح الترغيب: 3186).


المصدر : طريق الإسلام
 تم النشر يوم  الأربعاء، 13 أغسطس 2014 ' الساعة  5:42 م


 
Toggle Footer