الأحد، 9 نوفمبر 2014


الأمن والاستقرار ضرورتان


الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل 

الحمد لله الملك الحق المبين؛ خالق الخلق، ومالك الملك، ومدبر الأمر، لا يقع شيء إلا بعلمه، ولا يقضى شأن إلا بحكمه، يفر الخلق من قدره فيقعون في قدره، ويذعن له أهل الإيمان واليقين؛ تسليما بقدره، ورضًا بحكمه، ويقينا بحكمته، وإيمانا بعدله ورحمته، نحمده فله ﴿ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: 70] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عظيم الشأن، كريم الفعال، الكبير المتعال، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ دلنا على كل خير، وحذرنا من كل شر، وعلمنا أحكام الدين، وبين لنا فقه الفتن، فقال: «سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فيها خَيْرٌ من الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فيها خَيْرٌ من الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فيها خَيْرٌ من السَّاعِي، وَمَنْ يُشْرِفْ لها تَسْتَشْرِفْهُ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أو مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ» صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، والزموا عبادته، واحذروا معصيته، واصبروا على ابتلائه، وعوذوا به من الفتن كلها، ظاهرها وباطنها، حاضرها وغائبها، صغيرها وكبيرها؛ فإن الله تعالى قد فتن الناس بعضهم ببعض ﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ﴾ [الفرقان: 20] وإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالعمل الصالح قبل وقوع الفتن التي تشغل عن العمل فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا» رواه مسلم.

أيها الناس: الأمن والاستقرار ضرورتان من ضرورات الحياة، تصلح بهما الأحوال، وينمو العمران، وتقام الشعائر، والإنسان -أي إنسان- لا يجد هناء في عيشه، وطمأنينة في نفسه إلا بأمن واستقرار؛ فالخوف ينغص عليه حياته، والاضطراب والتشريد يسلبه مقومات عيشه.

ولأهمية الأمن والاستقرار عند الإنسان فإن الله تعالى وعد المؤمنين بهما في الجنة، فهم آمنون من فقد نعيمها، وآمنون من كل مكدر فيها ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ ﴾ [الحجر: 45، 46] وفي آيات أخرى ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴾ [الدخان: 51، 52] وبعدها بآيات ﴿ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴾ [الدخان: 55، 56].

وهم مستقرون فيها، لا يخشون خروجا منها، ولا اضطرابا فيها، ونعيمهم فيها مستقر فلا يخافون نقصه ولا انقطاعه ﴿ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ﴾ [الحجر: 48] وفي آية أخرى ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ﴾ [الفرقان: 76].

وحين أذن الله تعالى بإسكان البشر الأرض، بسط لهم فيها الأمن والاستقرار، وسخر ما عليها للإنسان، فلا خوف في الأرض على البشر إلا من البشر، ولا يشرد البشر إلا بشر مثلهم، ولا يحدث الفتن والقلاقل إلا البشر. فالأرض آمنة بتسخير الله تعالى كل ما عليها للبشر، ومستقرة فلا اضطراب فيها إلا ما تحدثه الزلازل في أجزاء منها؛ ليعلم البشر نعمة الله تعالى عليهم في استقرارها وعدم اضطرابها، ويشكروا ربهم سبحانه وتعالى عليها، ودليل ذلك خطاب الله تعالى لآدم عليه السلام حين أهبطه الأرض ﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ [البقرة: 36] والاضطراب في الأرض ينفي الاستقرار، والخوف يمنع المتاع.

ومن بلاغة القرآن في هذه الآية: أنه قُدم فيها الاستقرار على المتاع، والمتاع هو ما يتمتع به الناس من المآكل والمشارب والمراكب والملابس والمساكن، وكلها لا قيمة لها بلا استقرار، فكان الاستقرار هو الركن الأهم للعيش في الأرض، وفقده يؤدي إلى فقد كل شيء؛ لأن الأرض التي لا استقرار فيها يفارقها أهلها إلى غيرها، ولو عظمت خيراتها، وتفجرت ثرواتها، فلا قيمة لها بلا استقرار. والأرض المستقرة يبارك في رزق أهلها، ويهنئون بعيشهم فيها، ولا يبارحونها إلى غيرها، فلا حاجة لهم في ذلك وهم يجدون الاستقرار.

وبالأمن والاستقرار تعمر الأرض، ويقام فيها دين الله تعالى؛ لأن الفتنة التي تسبب الخوف والاضطراب، وتسلب الأمن والاستقرار، تحول بين الناس وبين العبادة، وتمكن للكفر وأهله في الأرض، والله تعالى يقول ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾ [الأنفال: 39] عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَتَاهُ رَجُلاَنِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالاَ: إِنَّ النَّاسَ صَنَعُوا وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ، وَصَاحِبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ؟ فَقَالَ «يَمْنَعُنِي أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ دَمَ أَخِي» فَقَالاَ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ [الأنفال: 39]، فَقَالَ: «قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، وَكَانَ الدِّينُ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ» رواه البخاري.

وبالأمن والاستقرار تقام الشعائر، وتعمر المساجد، ويأمن السبيل؛ لأن الخوف والاضطراب مانعان من ذلك، وكم عطلت من جمع وجماعات بسبب الاضطراب والخوف، وكتب التاريخ مملوءة بأخبار تعطل المساجد بسبب الفتن التي أشعلت بين طوائف من أهل القبلة. ولما دخل التتر بغداد فأثاروا فيها الرعب والهلع، وأعملوا السيوف في أهلها تعطلت الجمع والجماعات أربعين يوما.

وبالأمن والاستقرار يزدهر العمران، وتبدع العقول، وتنتشر المعارف والعلوم، وأقوى سبب يعيق ذلك ويوقفه الخوف والاضطراب؛ لأن العقول المبدعة، والأيادي الناجحة تفارق البلدان المضطربة إلى حيث الأمن والاستقرار، فلا يبقى إلا أهل الحرب والدم يثيرون الذعر في الناس.. وكان من مكر المستعمرين أنهم جعلوا حدود الدول الإسلامية معلقة بخلافات ومشاكل وفتن يشعلونها متى ما أرادوا، وخلقوا بؤرا ملتهبة داخل الدولة الواحدة، واستغلوا الخلاف المذهبي أو الاختلاف العرقي؛ لإثارة الفتن، ونشر الاضطرابات، ومصادرة الأمن والاستقرار. وعلى المسلمين أن يعلموا حيل أعدائهم فيهم، فيفوتوا عليهم فرص النيل منهم.

وبذهاب الأمن والاستقرار تستوحش القلوب، وتنتشر أخلاق الحيوان في الناس، فلا تطرف عين القاتل مهما قتل من الناس، ولا يأبه الناس لمناظر القتلى والجرحى والجوعى والمتألمين؛ لأن من يعيش في دوامة الفوضى تكسو الفوضى عقله وقلبه وأخلاقه فلا يميز بين حق وباطل، ولا بين صواب وخطأ، ولا بين ظالم ومظلوم، نعوذ بالله تعالى من الخوف والجوع والفتن والقلاقل، وذهاب الدين والعقول، وانتكاس الفطر والأخلاق.

إن أمن المسلمين واستقرارهم مستهدف من قبل أعدائهم من الكفار والمنافقين لإثارة الفتن والاضطرابات في أوساطهم، والسيطرة الكاملة على بلدانهم، ونهب خيراتهم، ووقف زحف الإسلام الذي باتت شعائره تنتشر في كل مكان من أرجاء المعمورة.

وإن أعظم ما يخدم الأعداء المستعمرين في مآربهم إحداث الاضطراب والفوضى في أوساط المسلمين، والمجازفة بأمنهم واستقرارهم، واسترخاص دمائهم.. وهذا يعود وباله على الجميع، ولا يختص بأحد دون أحد. وإذا ضاع الأمن والاستقرار من بلد، وحل فيها الخوف والفوضى فمن العسير جدا إرجاع الأمر إلى مكان عليه قبل ذلك، وقد تستمر حال الفوضى سنوات أو عقودا تفنى فيها أجيال، ويهرم خلالها شبان.

فالأمن والاستقرار لا يجازف بهما إلا مجنون، ولا يستهين بأمرهما إلا أحمق مخذول، ولا يسعى لتجريب ضدهما إلا جاهل مغرور.

وإذا كان الأمن والاستقرار بهذه الأهمية الكبيرة كان لزاما على جميع الناس الحفاظ عليهما، والسعي في تقويتهما، واجتناب ما يؤدي لفقدهما.. وأعظم ذلك تقوى الله عز وجل، والتزام دينه، وتحكيم شرعه، واجتناب معصيته، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنهما صماما الأمن والاستقرار.. واجتناب كل ما يؤدي إلى الفتنة أو تأجيجها من قول أو فعل؛ فإن الإنسان يملك أمره قبل أن يلج دوامة الفتنة، فإذا سعى لها برجليه، وولج لجتها أخذته إلى حيث لا يريد، ولا يملك من أمره شيئا.

نعوذ بالله تعالى من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونسأله السلامة والعافية لنا وللمسلمين أجمعين، إنه سميع مجيب.

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...

الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281].

أيها المسلمون: كل من سعى بقول أو فعل لإحداث الفوضى والاضطراب في بلاد المسلمين عاد وبال ذلك عليه في الدنيا قبل الآخرة، فالدم لا يزول إلا بالدم، وقد قيل: بشر القاتل بالقتل ولو بعد حين، واستهداف أمن المسلمين واستقرارهم من كبائر الذنوب، ولا يقع فيه إلا مبخوس الحظ مرذول. ومن أشعل فتنة تُسفك فيها الدماء، ويرفع فيها الأمن، ويزول الاستقرار، بلغته نارها فأحرقته ولو ظن أنه في مأمن منها، فالجزاء من جنس العمل.

ومن أهم مقومات الأمن والاستقرار لزوم الجماعة، والنهي عن شق عصا المسلمين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر عن زمن الفتن، وكثرة دعاة جهنم، سأله حذيفة رضي الله عنه عما يفعل إن أدركه ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: « تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ؟ قَالَ: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ» متفق عليه.

وأمر صلى الله عليه وسلم بمدافعة المنكرات بالنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال عليه الصلاة والسلام: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا، قالوا: فما تَأْمُرُنَا يا رَسُولَ الله، قال: أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ وَسَلُوا الله الذي لَكُمْ» رواه الترمذي وقال: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وقال صلى الله عليه وسلم: «من رَأَى من أَمِيرِهِ شيئا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عليه فإنه من فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ إلا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» رواه الشيخان.

فكل ما يؤدي إلى الفوضى والاضطراب فيجب اجتنابه، وردع من يسعى إليه حفاظا على الأمن والاستقرار.

واستهداف جماعة من الآمنين في الأحساء، وإطلاق النار عليهم بشكل عشوائي دون تمييز، ليقتل منهم من يقتل، ويجرح من يجرح، ليس من دين الله تعالى في شيء، ويخشى أن يكون من مكر الأعداء بأيدي بعض الجهلة الأغرار الذين ركبوا موجة الغلو والعنف؛ لإثارة الفتنة بين أهل القبلة من المسلمين، ولو ثارت فلن تكون في صالح أحد إلا الأعداء المتربصين الذين يذكون نيران الفتنة وينفخون فيها؛ لرفع الأمن والاستقرار من بلاد المسلمين، وإحلال الخوف والفوضى فيها؛ لتحقيق أهدافهم في استعمار بلاد المسلمين.

حمى الله تعالى بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء ومكروه، وأدام علينا وعلى المسلمين الأمن والاستقرار، إنه سميع مجيب.

وصلوا وسلموا على نبيكم...
 تم النشر يوم  الأحد، 9 نوفمبر 2014 ' الساعة  12:40 م


 
Toggle Footer