الأربعاء، 15 يوليو 2015


الشيخ عبدالله بن محمد البصري

اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ، اللهُ أَكبرُ كَبِيرًا، وَالحَمدُ للهِ كَثِيرًا، وَسُبحَانَ اللهِ بُكرَةً وَأَصِيلاً، الحَمدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِلإِسلامِ، وَجَعَلَنَا مِن خَيرِ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلأَنَامِ، بَلَّغَنَا شَهرَ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ، وَوَفَّقَنَا بِفَضلِهِ لِلتَّمَامِ، وَأَشهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ الَّذِي بَيَّنَ الحَلالَ وَالحَرَامَ، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ البَرَرَةِ الكِرَامِ، اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، مَن مِثلُنَا اليَومَ؟! أَتمَمنَا شَهرَنَا، وَأَدرَكنَا عِيدَنَا، وَتَرَاصَّت صُفُوفُنَا، وَحَضَرنَا لِشُهُودِ الصَّلاةِ وَالدُّعَاءِ وَالخَيرِ، في أَمنٍ في الأَوطَانِ، وَعَافِيَةٍ في الأَبدَانِ، وَسَكِينَةٍ وَاطمِئنَانٍ، فَلِلهِ الحَمدُ عَلَى مَا وَفَّقَ إِلَيهِ، وَلَهُ الشُّكرُ عَلَى مَا أَعَانَ عَلَيهِ، لَهُ الحَمدُ عَلَى الصِّيَامِ، وَلَهُ الحَمدُ عَلَى القِيَامِ، وَلَهُ الحَمدُ عَلَى البَذلِ وَالإِحسَانِ، وَلَهُ الحَمدُ عَلَى الذِّكرِ وَالقُرآنِ، للهِ الحَمدُ كُلَّمَا قَبِلَ صَلاتَنَا وَصِيَامَنَا، وَلَهُ الحَمدُ كُلَّمَا أَجَابَ دُعَاءَنَا وَحَقَّقَ سُؤلَنَا، وَلَهُ الحَمدُ قَبلَ ذَلِكَ وَبَعدَهُ عَلَى مَا هَدَانَا ﴿ وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ﴾} [الأعراف: 43] وَنَسأَلُهُ المَزِيدَ مِن فَضلِهِ بِشُكرِهِ، وَنَعُوذُ بِهِ مِن جُحُودِ نِعمَتِهِ وَكُفرِهِ، فَهُوَ الَّذِي وَعَدَ مَن شَكَرَ وَاتَّقَى بِالبَرَكَةِ وَالزِّيَادَةِ، وَأَوعَدَ مَن كَفَرَ وَكَذَّبَ بِالأَخذِ وَالعَذَابِ، قَالَ سُبحَانَهُ: " وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنَا عَلَيهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذنَاهُم بما كَانُوا يَكسِبُونَ " وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].

اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ أَجَلَّ نِعمَةٍ وَأَكبرَ مِنحَةٍ، أَن يُهدَى العَبدُ لِلتَّوحِيِدِ الخَالِصِ، وَأَن يُوَفَّقَ لاتِّبَاعِ السُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ، أَجَل ـ أَيُّهَا المُوَحِّدُونَ ـ إِنَّ سَلامَةَ الدِّينِ وَصِحَّةَ المُعتَقَدِ، وَالاهتِدَاءَ لِلسُّنَّةِ وَالتَّقَلُّبَ في نَعِيمِ الاتِّبَاعِ، لَهُوَ خَيرُ مَا اكتَسَبَهُ العَبدُ في دُنيَاهُ وَادَّخَرَهُ لأُخرَاهُ ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110] إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الهُدَى، وَهُوَ الحَيَاةُ وَالفَلاحُ عَلَى طُولِ المَدَى، وَمَا بَعدَهُ إِلاَّ الضَّلالُ وَالهَزِيمَةُ وَالرَّدَى، قَالَ تَعَالى: ﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾ [البقرة: 120] وَقَالَ سُبحَانَهُ: ﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ [يونس: 32].

وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: ﴿ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 38] وَقَالَ تَعَالى: ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا .. ﴾ [طه: 123، 124] وَقَال تَعَالى: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115] وَقَالَ سُبحَانَهُ: ﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120] مَا أَعرَضَ أَحَدٌ عَن هُدَى اللهِ في قَدِيمٍ وَلا حَدِيثٍ، إِلاَّ زُيِّنَ لَهُ عَمَلُ الشَّرِّ وَصُدَّ عَن سَبِيلِ الحَقِّ، بِهَذَا جَرَت سُنَّةُ اللهِ في المُعرِضِينَ عَن هُدَاهُ، قَالَ تَعَالى: ﴿ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 36، 37].

نَعَم - أَيُّهَا المُوَحِّدُونَ - إِنَّ سُنَّةَ اللهِ عَامَّةٌ يَسرِي حُكمُهَا عَلَى جَمِيعِ خَلقِهِ دُونَ مُحَابَاةٍ وَلا تَميِيزٍ، وَلا وَاللهِ لَيسَ بَينَ اللهِ وَبَينَ أَحَدٍ مِن خَلقِهِ وَاسِطَةٌ، وَلا يَخرُجُ أَحَدٌ في هَذَا الكُونِ عَن سُنَّتِهِ في حُصُولِ المُسَبَّبَاتِ وَالنَّتَائِجِ مَتى وُجِدَتِ الأَسبَابُ وَالمُقَدِّمَاتُ، قَالَ تَعَالى: ﴿ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ﴾ [فاطر: 43] وَقَالَ سُبحَانَهُ: ﴿ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ﴾ [القمر: 43] وَقَالَ تَعَالى: ﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 51] وَقَالَ تَعَالى: ﴿ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [آل عمران: 137].

أَجَل -يَا عِبَادَ اللهِ- لَيسَ كُفَّارُ المُتَأَخِّرِينَ خَيرًا مِن كُفَّارِ المُتَقَدِّمِينَ، وَكَمَا أُهلِكَ أُولَئِكَ بِكُفرِهِم، فَسَيَلحَقُ بِهِم هَؤُلاءِ بِطُغيَانِهِم وَلَو بَعدَ حِينٍ، وَحَتى وَإِن تَشَابَهَت أَسبَابُ الهَلاكِ في دَولَتَينِ أَو أُمَّتَينِ، فَأُهلِكَت هَذِهِ وَأُرجِئَت تِلكَ؛ فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِمَوَانِعَ عَارِضَةٍ، أَو إِملاءٌ وَإِمهَالٌ مِنَ اللهِ؛ لِيَأخُذَ الظَّالِمَ شَرَّ أَخذٍ، قَالَ تَعَالى: ﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ﴾ [النساء: 123] وَقَالَ سُبحَانَهُ: ﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [آل عمران: 196، 197] وَقَالَ تَعَالى: ﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [آل عمران: 178] وَفي الصَّحِيحَينِ عَن أَبي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللهَ يُملِي لِلظَّالِمِ، فَإِذَا أَخَذَهُ لم يُفلِتْهُ " ثُمَّ قَرَأَ: " وَكَذَلِكَ أَخذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ " اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ.

أَيُّهَا المُؤمِنُونَ، حِينَ يَرَى النَّاسُ دُوَلاً تَكَبَّرَت وَتَجَبَّرَت، وَسَعَت في الأَرضِ فَسَادًا وَتَعَاظَمَت، وَمَكَرَت بِالمُسلِمِينَ فَقَتَلَت وَشَرَّدَت، وَابتُلِيَت بها الأُمَّةُ عُقُودًا وَسَنَوَاتٍ تَطَاوَلَت، يَظُنُّ بَعضُ مَن لم يَفقَهْ سُنَنَ اللهِ وَلم يَقرَأْ كِتَابَهُ، أَنْ لا مَفَرَّ مِن مَكرِ هَؤُلاءِ وَلا وَزَرَ، وَيَنسَى الجَاهِلُ أَو يَتَنَاسَى أَنَّ العَاقِبَةَ لِلمُتَّقِينَ، وَأَنَّ سُنَّةَ اللهِ قَد مَضَت في ابتِلاءِ عِبَادِهِ وَامتِحَانِهِم بِالشَّرِّ وَالخَيرِ؛ لِيَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ مَن يَصبِرُ في حَالِ الضِّيقِ وَالشِّدَّةِ، وَمَن يَشكُرُ في حَالِ الرَّخَاءِ وَالنِّعمَةِ، قَالَ تَعَالى: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35] وَقَالَ سُبحَانَهُ: ﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [آل عمران: 186] وَقَالَ تَعَالـى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ [محمد: 31] وَقَالَ سُبحَانَهُ: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [العنكبوت: 2 - 4].

نَعَم - أَيُّهَا المُوَحِّدُونَ- إِنَّ المَرجِعَ وَالمَصِيرَ إِلى العَزِيزِ الخَبِيرِ، وَأَمَّا مَا يَجرِي في هَذِهِ الدَّارِ فَإِنَّمَا هُوَ ابتِلاءٌ وَاختِبَارٌ، وَلا يَعدُو ما يُصِيبُ المُسلِمِينَ مِن المُعتَدِينَ أَن يَكُونَ أَذًى فَحَسبُ ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [آل عمران: 120] إِنَّ المُؤمِنَ يَعلَمُ أَنَّ الصِّرَاعَ بَينَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ سُنَّةٌ مِن سُنَنِ اللهِ في خَلقِهِ إِلى أَن تَقُومَ السَّاعَةُ، غَيرَ أَنَّهُ مُطمَئِنٌّ في حَالِ سَرَّائِهِ وَضَرَّائِهِ غَايَةَ الاطمِئنَانِ؛ لأَنَّهُ مُؤمِنٌ بِاللهِ مُتَوَكِّلٌ عَلَيهِ، مُوقِنٌ بِأَنَّ الأَمرَ كُلَّهُ للهِ، وَأَنَّهُ تَعَالى مُدَبِّرُ الكَونِ وَمُصَرِّفُ الأَحوالِ، وَأَنَّ العَاقِبَةَ لِلمُتَّقِينَ، وَأَنَّ اللهَ نَاصِرٌ دِينَهُ وَمُعلٍ كَلِمَتَهُ، حَافِظٌ أَولَيَاءَهُ مُهلِكٌ أَعدَاءَهُ، وَلا يَحِيقُ المَكرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهلِهِ ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾ [الشعراء: 227].

اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، في عَالَمٍ يَعُجُّ بِفِتَنٍ مُظلِمَةٍ، كَانَت مِنَّا بَعِيدًا وَكُنَّا نَسمَعُ بها، ثم مَا زَالَت حَتى أَحَاطَت بِنَا وَأَصَابَنَا بَعضُهَا، فَإِنَّهُ لا سَبِيلَ إِلى الهِدَايَةِ إِلى أَقوَمِ السُّبُلِ إِلاَّ بِالمُجَاهَدَةِ ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ [العنكبوت: 69] كَيفَ يُرِيدُ النَّجَاةَ مَن لا عِلمَ لَدَيهِ يُبَصِّرُهُ، وَلا عَمَلَ صَالِحًا يُخَلِّصُهُ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّهُ لا خَلاصَ إِلاَّ بِالإِخلاصِ، وَلا نَجَاةَ إِلاَّ بِطَوِيلِ مُنَاجَاةٍ، اِلزَمُوا الجَمَاعَةَ وَانبُذُوا الفُرقَةَ ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103] ﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46] قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: " عَلَيكُم بِالجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُم وَالفُرقَةَ؛ فَإِنَّ الشَّيطَانَ مَعَ الوَاحِدِ، وَهُوَ مِنَ الاثنَينِ أَبعَدُ، مَن أَرَادَ بُحبُوحَةَ الجَنَّةِ فَلْيَلزَمِ الجَمَاعَةَ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.

لَيسَ أَمرٌ أَوجَبَ في هَذِهِ المَرحَلَةِ مِنَ التَّشَاوُرِ وَالتَّحَاوُرِ، وَالرِّفقِ وَالأَنَاةِ، وَالصَّبرِ وَالحِكمَةِ، وَنَبذِ التَّعَصُّبِ لِلرَأيِ وَتَركِ الاعتِدَادِ بِالنَّفسِ. لَيسَ في الاختِلافِ وَالتَّنَازُعِ إِلاَّ تَأجِيجُ الفِتَنِ وَتعقِيدُ الأُمُورِ، وَمَا اختَلَفَ قَومٌ إِلاَّ وَأَصبَحُوا فَوضَى لا سَرَاةَ لَهُم، وَلا سَرَاةَ إِذَا سَادَ الجُهَّالُ وَقَلِيلُو العِلمِ وَالخِبرَةِ، مُنَابَذَةُ الوُلاةِ مُفسِدَةٌ لِلدُّنيَا، وَمُخَالَفَةُ العُلَمَاءِ مُفسِدَةٌ لِلدِّينِ، وَالاتِّجَاهُ الصَّحِيحُ أَن يُرَدَّ الأَمرُ إِلى أَهلِهِ، وَأَن يَترُكَ كُلُّ امرِئٍ مَا لا يَعنِيهِ ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 83] إِنَّنَا في زَمَنٍ غَيَّرَ الأَعدَاءُ فِيهِ خِطَطَهُم وَاختَلَفَ مَكرُهُم، وَقَصَدُوا إِلى نَقلَ المَعرَكَةِ وَالحُرُوبِ لِتَكُونَ بَينَنَا وَبِأَسلِحَتِنَا، وَعَلَى أَيدِي الجُهَّالِ مِن أَبنَائِنَا وَإِخوَتِنَا، مُرِيدِينَ نَشرَ الفَوضَى في دِيَارِنَا وَزَعزَعَةَ أَمنِنَا وَتَفرِيقَ صُفُوفِنَا، بَل وَالمَزِيدَ مِن سَفكِ دِمَائِنَا وَتضيِيقِ أَرزَاقِنَا بِالإِيقَاعِ بَينَنَا وَبَينَ وُلاتِنَا، وَمَا هَذِهِ المَعَارِكُ الكَلامِيَّةُ وَالجَدَلُ في وَسَائِلِ الإِعلامِ، وَالشَّائِعَاتُ وَالأَرَاجِيفُ التي تَعُجُّ بها بَرَامِجُ التَّوَاصُلِ، إِلاَّ جُزءٌ مِن كَيدٍ كُبَّارٍ وَمَكرٍ سَيِّئٍ، يُقصَدُ مِنهُ إِشعَالُ حُرُوبٍ طَائِفِيَّةٍ وَإِيقَادُ مَعَارِكَ دَاخِلِيَّةٍ، فَثِقُوا بِاللهِ رَبِّكُم وَأَحسِنُوا الظَّنَّ بِهِ، وَجَانِبُوا الخَوضَ في الفِتَنِ، فَيَكفِي الأُمَّةَ تَفَرُّقًا وَإِرَاقَةَ دِمَاءٍ وَيُتمًا وَبُؤسًا وَفَقرًا وَتَشرِيدًا، وَالعَاقِلُ مَنِ اعتَبَرَ بِغَيرِهِ، وَمَن تَعَجَّلَ شَيئًا قَبلَ أَوَانِهِ عُوقِبَ بِحِرمَانِهِ ﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ [آل عمران: 126] ﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ ﴾ [آل عمران: 160].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7] فَانصُرُوا رَبَّكُم بِالمُحَافَظَةِ عَلَى الفَرَائِضِ وَالإِكثَارِ مِنَ النَّوَافِلِ، وَأَحسِنُوا إِلى الخَلقِ وَتَابِعُوا الصَّدَقَاتِ، فَإِنَّ صَنَائِعَ المَعرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَالدُّعَاءَ الدُّعَاءَ، فَإِنَّهُ يَرُدُّ القَدَرَ وَيَرفَعُ البَلاءَ، وَمُرُوا بِالمَعرُوفِ وَانهُوا عَنِ المُنكَرِ؛ فَإِنَّ ذلك سَبَبٌ فِي حِفظِ اللهِ لِلبِلادِ وَالعِبَادِ ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [هود: 117] وَالحَذَرَ الحَذَرَ مِنَ الخَوضِ في الدِّمَاءِ أَوِ التَّهيِيجِ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ أَمرَ الدِّمَاءِ عَظِيمٌ، وَالخَطبَ بِسَفكِهَا جَسِيمٌ ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ﴾ [النساء: 92] ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 93] وَ" لَن يَزَالَ المُؤمِنُ في فُسحَةٍ مِن دِينِهِ مَا لم يُصِبٍ دَمًا حَرَامًا " و" المُؤمِنُ مَن أَمِنَهُ النَّاسُ، وَالمُسلِمُ مَن سَلِمَ المُسلِمُونَ مِن لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُهَاجِرُ مَن هَجَرَ السُّوءَ " و" لا يَدخُلُ الجَنَّةَ عَبدٌ لا يَأمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ " وَأَمَّا الحُوثِيُّونَ المُعتَدُونَ، وَالصَّفوِيُّونَ الحَاقِدُونَ، وَالخَوَارِجُ المُتَمَرِّدُونَ، وَالمُستَهزِئُونَ بِالدِّينِ مِنَ المُمَثِّلِينَ، فَهُم جَمِيعًا مَخذُولُونَ " ﴿ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ﴾ [محمد: 4] ﴿ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30] ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ﴾ [محمد: 8 - 11].

اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ.

اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الفِتَنَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ، وَأَقُولُ هَذَا القَولَ وَأَستَغفِرُ اللهَ.

الخطبة الثانية

الحَمدُ للهِ أَوَّلاً وَآخِرًا، وَالشُّكرُ لَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، خَلَقَ فَسَوَّى، وَقَدَّرَ فَهَدَى، لا مَانِعَ لِمَا وَهَبَ , وَلا مُعطِيَ لِمَا سَلَبَ، طَاعَتُهُ أَفضَلُ مُكتَسَبٍ , وَتَقوَاهُ أَعلَى نَسَبٍ، وَأَشهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةً أَرجُو بها النَّجَاةَ مِن عِقَابِهِ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحمدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ أَكمَلُ النَّاسِ عَمَلاً في ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَزوَاجِهِ وَأَصحَابِهِ.

اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ.

أَمَّا بَعدُ، فَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُم، وَاهنَؤُوا بِعِيدِكُم، وَأَصلِحُوا ذَاتَ بَينِكُم، تَسَامَحُوا وَتَصَافَحُوا، وَتَجَمَّلوا وَافرَحُوا، وَالبَسُوا وَكُلُوا وَاشرَبُوا، وَلا تُسرِفُوا وَلا تُبَذِّرُوا، وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ.

العِيدُ أَيُّهَا المُسلِمُونَـ فَرحَةٌ وَبَهجَةٌ، وَبَذلٌ وَعَطَاءٌ وَسَخَاءٌ؛ فَمَن أَحَبَّ أَن يُسامَحَ فَلْيُسامِحْ، وَمَن أَحَبَّ أَن يُقبَلَ فَلْيَتَجَمَّلْ وَلْيَتَحَمَّلْ، مَن زَادَ حُبُّهُ لِنَفسِهِ ازدَادَ كُرهُ النَّاسِ لَهُ، وَمَن تَكَبَّرَ دُفِعَ، وَمَن تَوَاضَعَ رُفِعَ، وَ" المُؤمِنُ يَألَفُ وَيُؤلَفُ، وَلا خَيرَ فِيمَن لا يَألَفُ وَلا يُؤلَفُ، وَخَيرُ النَّاسِ أَنفَعُهُم لِلنَّاسِ " لا يَسعَدُ بِالعِيدِ مَن عَقَّ وَالِدَيهِ أَو قَطَعَ رَحِمَهُ، أَو حَسَدَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضلِهِ، وَلَيسَ العِيدُ لِخَائِنٍ أَو غَشَّاشٍ، أو سَاعٍ بِالفَسَادِ بَينَ العِبَادِ.

اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ.

أَيُّهَا المُسلِمَاتُ، أَنتُنَّ الأُمَّهَاتُ وَالزَّوجَاتُ، وَالأَخَوَاتُ وَالبَنَاتُ، تَلِدنَ الرِّجَالَ، وَتُرَبِّينَ الأَبطَالَ، وَتُخَرِّجنَ الأَجيَالَ، فَاتَّقِينَ اللهَ وَلا تَخضَعنَ بِالقَولِ فَيَطمَعَ الَّذِي في قَلبِهِ مَرَضٌ، أَطِعنَ الآبَاءَ وَالأَزوَاجَ، وَاحذَرنَ الخِصَامَ وَاللِّجَاجَ، لا تَجحَدنَ نِعمَةَ اللهِ عَلَيكُنَّ بِالتَّبَرُّجِ وَالسُّفُورِ، أَو بِفِعلِ مَا يَدعُو إِلَيهِ أَهلُ الفِسقِ وَالفُجُورِ، قَرنَ في بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولى، احفَظنَ الفُرُوجَ وَلا تُكثِرنَ الخُرُوجَ، أَقِمنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ، تَصَدَّقنَ وَأَكثِرنَ الاستِغفَارَ، وَاتَّقِينَ بِذَلِكَ مِنَ عَذَابِ النَّارِ.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ مِن مَظَاهِرِ الإِحسَانِ بَعدَ رَمَضَانَ استِدَامَةَ العَبدِ العَمَلَ وَاستِقَامَتَهَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَإِتبَاعَ الحَسَنَةِ الحَسَنَةَ، وَقَد نَدَبَنَا نَبِيُّنَا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ بِأَن نُتبِعَ رَمَضَانَ بِسِتٍّ مِن شَوَّالٍ؛ فَمَن فَعَلَ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهرَ كُلَّهُ.

تَقَبَّلَ اللهُ مِنَّا وَمِنكُمُ الصِّيَامَ وَالقِيَامَ، وَبَارَكَ في الطَّاعَاتِ والصَّالِحَاتِ، وَأَجَابَ الدُّعَاءَ وَحَقَّقَ الرَّجَاءَ.
 تم النشر يوم  الأربعاء، 15 يوليو 2015 ' الساعة  3:44 م


 
Toggle Footer