الثلاثاء، 17 مايو 2016


د. أمين بن عبدالله الشقاوي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:

فمن الصفات المذمومة التي ذمها الله ورسوله: الغفلة، قال تعالى عن الكفار: ﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُون ﴾ [الروم: 7]، وقال تعالى عن فرعون: ﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُون ﴾ [يونس: 92]، وقال تعالى: ﴿ إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُون * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُون ﴾ [يونس: 7-8].

قال ابن فارس: "الغفلة غيبة الشيء عن بال الإنسان وعدم تذكره له، وقد استعمل فيمن تركه إهمالاً وإعراضاً كما في قوله تعالى: ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُون ﴾ [الأنبياء: 1]"[1].

وقد نهى الله تبارك وتعالى نبيه عن الغفلة، قال تعالى: ﴿ وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِين ﴾ [الأعراف: 205].

وقال تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28].

وقد تكون الغفلة عن الله عقوبة من الله للعبد على معصيته، قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُون ﴾ [النحل: 108].

روى مسلم في صحيحه من حديث عبدالله بن عمر وأبي هريرة رضي اللهُ عنهما أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَقُولُ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ: "لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ"[2].

قد يقول قائل: ما هي أسباب الغفلة حتى يجتنبها المؤمن؟
أقول: إن من هذه الأسباب:
أولاً: الانقطاع الكثير عن زيارة القبور، وتذكر الموت والدار الآخرة: قال تعالى: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُر * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِر ﴾ [التكاثر: 1-2]. قال ابن كثير رحمه الله: "أشغلكم حب الدنيا ونعيمها وزهرتها عن طلب الآخرة وابتغائها وتمادى بكم ذلك حتى جاءكم الموت وزرتم المقابر وصرتم من أهلها، قال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور ﴾ [آل عمران: 185]"[3].

روى ابن ماجه في سننه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ - يَعْنِي الْمَوْتَ -"[4]. وروى مسلم في صحيحه وابن ماجه في سننه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: "زُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الْآخِرَةَ"[5].

فينبغي للمؤمن أن يكون على استعدادٍ للقاء ربه وألا يكون في غفلةٍ فإن أمامه أهوالاً وأموراً عظيمةً فهناك الموت وسكراته، والقبر وظلماته، والنفخ في الصور، والبعث بعد الموت، وعرصات يوم القيامة، والصراط، والميزان، وغير ذلك من الأهوال العظيمة، قال تعالى: ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيد * وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيد * لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيد ﴾ [ق: 20-22].

روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي ذَرٍّ رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: "لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَاتِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ[6] تَجْأَرُونَ[7] إِلَى اللَّهِ"[8].

قال الشاعر:
أَمَا والله لَوْ عَلِمَ الأنَامُ
لِمَا خُلِقُوا لَمَا هَجَعُوا ونَامُوا
لَقَدْ خُلِقُوا لأَمْرٍ لَوْ رَأَتْهُ
عُيُون قُلُوبِهِمْ تَاهُوا وَهَامُوا
مَمَاتٌ ثُمَّ قَبْرٌ ثُمَّ حَشْرٌ
وتَوْبِيخُ وأَهْوَالٌ عِظَامُ
لِيَوْمِ الحَشْرِ قَدْ عَمِلَتْ رِجَالٌ
فَصَلَّوا مِنْ مَخَافَتِهِ وصَامُوا

ثانياً: الانغماس في المباحات، والانشغال بالدنيا وشهواتها وملذاتها والسعي في التجارات وجني الأرباح، روى الترمذي في سننه من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: "مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا، وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ، وَمَنْ أَتَى أَبْوَابَ السُّلْطَانِ افْتُتِنَ"[9].

ثالثاً: الانقطاع عن مجالس الذكر وعدم المحافظة على الأذكار الشرعية في الصباح والمساء وعند دخول المسجد والخروج منه وعند الدخول إلى المنزل والخروج منه وغير ذلك من المواضع، قال تعالى: ﴿ وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِين ﴾ [الأعراف: 205].

قال ابن القيم رحمه الله: "على قدر غفلة العبد عن الذكر يكون بعده عن الله"[10]، وقال أيضاً: "إن مجالس الذكر مجالس الملائكة، ومجالس اللغو والغفلة مجالس الشياطين، فليختر العبد أعجبها إليه وأولاها به، فهو مع أهله في الدنيا والآخرة"[11].

روى الإمام أحمد في مسنده من حديث يسيرة رضي اللهُ عنها وكانت من المهاجرات، قالت: قال لنا رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم: "عَلَيْكُنَّ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّقْدِيسِ، وَاعْقِدْنَ بِالْأَنَامِلِ فَإِنَّهُنَّ مَسْؤُولَاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ، وَلَا تَغْفَلْنَ فَتَنْسَيْنَ الرَّحْمَةَ"[12].

رابعاً: الانقطاع عن بيوت الله وهجر صلاة الجماعة وقراءة القرآن، قال تعالى: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَال * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَار ﴾ [النور: 36-37].

وقال تعالى: ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا ﴾ [الفرقان: 30]. روى ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهم أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: "مَنْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ فِي لَيْلَةٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الغَافِلِينَ"[13]. والمراد بهذا الحديث صلاة الليل وتعاهد القرآن حتى لا يكون من الغافلين.

الخلاصة:
أن من أراد أن ينجو من الغفلة: فعليه تجنب الأسباب السابقة، والإكثار من ذكر الله حتى يكون من الذاكرين، ومن أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين


[1] مقاييس اللغة (4/386) بتصرف.
[2] برقم 865.
[3] تفسير ابن كثير (14/442).
[4] برقم 2307 وقال هذا حديث حسن صحيح غريب، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/266) برقم 1877.
[5] برقم 976 وابن ماجه برقم 1569 واللفظ له.
[6] الصعدات: قال ابن الأثير (3/29) هي الطرق وهي جمع صُعُد، وصُعُدُ جمع صعيد كطريق وطرق وطرقات، وقيل: هي جمع صُعْدة كظلمة وهي فناء باب الدار وممر الناس بين يديه.
[7] تجأرون: قال في النهاية (1/232) الجؤار: رفع الصوت والاستغاثة، جأر يجأر.
[8] (35/405) برقم 21516، وقال محققوه حسن لغيره وأصله في صحيح البخاري برقم 6637.
[9] برقم 2256 وقال الترمذي حديث حسن (صحيح) غريب من حديث ابن عباس لا نعرفه إلا من حديث الثوري وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/255) برقم 1840.
[10] الوابل الصيب ص95.
[11] الوابل الصيب ص99.
[12] (45/35) برقم 27089 وقال محققوه إسناده محتمل للتحسين.
[13] صحيح ابن خزيمة (2/181) برقم 483 والحاكم في المستدرك (2/257) برقم 2085 واللفظ له وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2/245) برقم 642.
 تم النشر يوم  الثلاثاء، 17 مايو 2016 ' الساعة  3:48 م


 
Toggle Footer