الجمعة، 4 نوفمبر 2016

د. محمد بن عبدالله بن إبراهيم السحيم

الحمد لله الذي جعل مع كل عسر يسراً، وقرن مع كل صبر نصراً، مَلَك قهراً، وقدّر أمراً، وأشهد ألا إله إلا الله سراً وجهراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أشرفَ البرية قدراً وأرفعَهم ذكراً، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه طرّا.

أما بعد، أيها المؤمنون:
أوصيكم ونفسي بما وصّى الله به الأولين والآخرين ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [النساء: 131]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [البقرة: 278].

معشر المؤمنين:
لا تخلو الحياة من كدر، ولا تصفو من بلاء، يتجاذبها الفرح والترح، والإقبال والإدبار، تحلو مرة، ومرة تجفو، لا تدوم على حال، ولا تستقيم على طريقة.

وإن أشد مرارتها بؤساً وأبشع شرابها كأساً حالُ المصاب والأسى مما لا يملك المرء معه دفعاً ولا رفعاً؛ ذلك الحال الذي فيه يتملك الحزنُ النفوس، ويجثم عليها اليأس، وتشعر بالعجز؛ فتسودُّ النظرة، وتخور العزيمة، وتعشو البصائر عن تبصر منح المحن، وتضلُّ عن سبل النجاة والسلوان إلا إن تمسكت بخصلة هي أشدُّ ما تكون محتاجة إليها.

خصلة تشبّث بها الأنبياء والمؤمنون الصادقون وقت الشدائد وادلهامِّ الخطوب فقادتهم إلى النظرة الإيجابية والتفاؤل وانتظار الفرج وحسن التدبير وتبدل الحال، خصلة لها في ميزان الشرع القدر المجلّى والقدح المعلّى؛ تلكم الخصلة هي حسن الظن بالله عز وجل التي تعني الثقةَ بالله والاستكفاءَ به وتوقّعَ الخير منه مع مباشرة الأسباب المشروعة في تحصيل النفع ودفع الضر.

أيها المسلمون:
إن حسن الظن بالله من كبرى العبادات وعظيم الطاعات، يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ" رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وإنما اعتلى حسنُ الظن المقامَ العليَّ في رتب العبادة؛ لتجسديه توحيدَ الله وتطبيقِه فعلاً؛ ففي حسن الظن بالله اليقين بعلم الله وحكمته وقدرته ورحمته وفضله وكرمه وقهره وعفوه ومنّته وقيوميّته وقوته وعزته؛ وفيه الإقرار بألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وفي حسن الظن بالله تحقيق التوكل وحسن الرجاء.

يقول داود بن عبدالله:
"أَرَى التَّوَكُّلَ حُسْنَ الظَّنِّ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ". وفي حسن الظن بالله الوثوق به والاطمئنان إليه، يقول يحيى بن معاذ: "أَوْثَقُ الرَّجَاءِ رَجَاءُ الْعَبْدِ رَبَّهُ، وَأَصْدَقُ الظُّنُونِ حُسْنُ الظَّنِّ بِاللَّهِ". وفي حسن الظن بالله إقرار بضعف العبد وعجزه عن إدراك مصالحه إن لم يكن عون من الله له، وفي حسن الظن بالله قطع الرجاء بالخلائق، يقول إبراهيم بن شيبان: "حُسْنُ الظَّنِّ بِاللهِ هُوَ الْيَأسُ منْ كُلِّ شَيْءٍ سِوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ". بهذا صار حسن الظن بالله من جليل العمل وعُمَدِ الصالحات، يقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا أُعْطِيَ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَا يُحْسِنُ عَبْدٌ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الظَّنَّ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ظَنُّهُ؛ ذَلِكَ بِأَنَّ الْخَيْرَ فِي يَدِهِ".

ومن كرامته على الله أن جعل جزاءه من جنسه، فهناء العطاء بحسن الظن والرجاء، يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي" "رواه البخاري ومسلم. قال حَيَّانُ أَبِو النَّضْرِ: خَرَجْتُ عَائِدًا لِيَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ فَلَقِيتُ وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ وَهُوَ يُرِيدُ عِيَادَتَهُ فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى وَاثِلَةَ بَسَطَ يَدَهُ وَجَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْهِ فَأَقْبَلَ وَاثِلَةُ حَتَّى جَلَسَ فَأَخَذَ يَزِيدُ بِكَفَّيْ وَاثِلَةَ فَجَعَلَهُمَا عَلَى وَجْهِهِ فقَالَ لَهُ وَاثِلَةُ: كَيْفَ ظَنُّكَ بِاللَّهِ؟  قَالَ: ظَنِّي بِاللَّهِ وَاللَّهِ حَسَنٌ، قَالَ: فَأَبْشِرْ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا: "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي إِنْ ظَنَّ خَيْرًا وإن ظن شراً " "رواه ابن حبان في صحيحه.

فلا تظنن بربك ظن سوء 
فإن الله أولى بالجميل 

هذا، وإن السبيل لتحقيق حسن الظن بالله سبحانه إنما يكون بالعلم بالله وبأسمائه وصفاته ومعرفة موجب حمده وحكمته.

أيها المؤمنون:
لئن كانت الحاجة إلى حسن الظن بالله في عموم الأحوال ففي حال الشدائد واحتلاك الخطوب تعظم الحاجة وتتأكد؛ ولذا كان ذلك الظن زادَ الأنبياء حال الكرب؛ فهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما ألقي في النار قال: ﴿ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173]، وموسى عليه الصلاة والسلام لما انحصر مع قومه بين بحر متلاطم وعدوٍّ غاشم قال: ﴿ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 62]، ويعقوب عليه الصلاة والسلام لما افتقد فلذتي كبده قال: ﴿ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾، وكان قول طالوت وجنده لما برزوا لجالوت وجنده الذين فاقوهم عدداً وعدة كما أخبر الله عنهم: ﴿ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249]، ولما هُدّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بتآلب الناس عليهم قالوا: ﴿ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾، ولما عرضت لهم فِي حفرالْخَنْدَقِ صَخْرَةٌ لَا تَأْخُذُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ اشْتَكَوا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَقَالَ: "بِسْمِ اللَّهِ"، فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَهَا وَقَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ! أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ السَّاعَةَ"، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ فَقَطَعَ الثُّلُثَ الْآخَرَ، فَقَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ!  أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسٍ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قَصْرَ الْمَدَائِنِ أَبْيَضَ"، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ وَقَالَ: "بِسْمِ اللَّهِ"، فَقَطَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ، فَقَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ! أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا السَّاعَةَ" رواه أحمد وحسنه ابن حجر. بل حسن الظن بالله عبادة واجبة متأكدة الوجوب في أشد الساعات ساعة الاحتضار وخروج الروح، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ بِاللهِ الظَّنَّ" رواه مسلم، وهل بعد الموت من شدائد الدنيا شدة؟! حضر عَبْد الْأَعْلَى التَّيْمِيُّ إلى جَارٍ لَهُ قَدْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ: "أَيَا فُلَانٍ، لِيَكُنْ جَزَعُكَ لَمَا بَعْدَ الْمَوْتِ أَكْثَرَ مِنْ جَزَعِكَ مِنَ الْمَوْتِ، وَأَعِدَّ لَعَظِيمِ الْأُمُورِ حُسْنَ الظَّنِّ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ".

أيها المؤمنون:
إن حسن الظن بالله حال الشدائد من أدق صفات الإيمان، كما أن سوء الظن في تلك الحال من علامات النفاق ومرض القلب، وذلك ما أبانه الله سبحانه في غزاة الأحزاب إذ قال عن المؤمنين: ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾، وقال عن المنافقين: ﴿ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ﴾.

بارك الله..

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاماً على رسوله المصطفى.
وبعد، فاعلموا أن أحسن الحديث...

أيها المسلمون:
إن لحسن الظن بالله حال الشدائد أثراً حسياً إيجابياً في النظرة للكوارث وحسن التعامل معها؛ فمن آثار حسن الظن بالله حال الشدائد: قوة القلب وثباته وشجاعته، يقول ذو النون: "ثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ حُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ: قُوَّةُ الْقَلْبِ، وَفُسْحَةُ الرَّجَاء فِي الذِّلَّةِ، وَنَفْيُ الْإِيَاسِ بِحُسْنِ الْإِنَابَةِ"، كَانَ أَنُوشِرْوَانُ يَكْتُبُ إِلَى مَرَازِبَتِهِ (قواد الجيش): عَلَيْكُمْ بِأَهْلِ الشَّجَاعَةِ وَالسَّخَاءِ؛ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ حُسْنِ الظَّنِّ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ. ومنها: انشراح الصدر، يقول ابن القيم: "إِنَّهُ لَا أَشْرَحَ لِلصَّدْرِ، وَلَا أَوْسَعَ لَهُ بَعْدَ الْإِيمَانِ مِنْ ثِقَتِهِ بِاللَّهِ وَرَجَائِهِ لَهُ وَحُسْنِ ظَنِّهِ بِهِ"، وقال بعض أهل العلم: "مَنْ رُزِقَ حُسْنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ أُفِيدَ الرَّاحَة"، ومنها: التفاؤل وعدم اليأس؛ فيباشر المرء الأسباب بنشاط متلمساً فرجَ من بيده مفاتح الفرج، كلما سُدَّ في وجهه باب بحث عن آخر دون يأس أو إحباط، ومنها: الثبات على المبادئ والصبر عليها؛ فلا مساومة عند أهل الظن الحسن بربهم على المبادئ والثوابت ولا تمييع عندهم لها؛ إذ رجاء حسن العاقبة مانع من استعجال تبدل الحال بما حرمه الله، ومنها: دوام الإلحاح بالدعاء، فكلما قوي ظنه الخيرَ بربه انطلق لسانه بطلبه.

ومن كان قوي القلب منشرح الصدر عظيم التفاؤل ثابت المبادئ باذلاً الأسباب المشروعة في دفع الشدائد ملحاحاً في الدعاء كان جديراً بتبديل الله لحاله؛ وتلك ثمرة لحسن ظنه بربه. فيا أيها المهموم يا أيها المظلوم يا أيها المريض يا أيها المسحور يا أيها الأسير يا أيها العقيم يا أيها المعقوق يا أيها الفقير يا أيها المحزون يا أيها الغريب يا أيها المجاهد يا أيها المصلح يا أيها المسؤول أحسنوا الظن بمولاكم؛ فلن تجنوا إلا ما ظننتم.

واجعلوا لسان حالكم قول القائل:
وإني لأرجو الله حتى كأنني 
أرى بجميل الظن ما الله صانع 
 تم النشر يوم  الجمعة، 4 نوفمبر 2016 ' الساعة  8:57 م


 
Toggle Footer