من ديوان الإيمان
(التسليم)
علي عيد
قلنا: إن التصديق هو الإقرار القلبي بحقائق الدين وضروراته، وهو أول أعمال القلب في ديوان الإيمان، إذا أيَّده بالإقرار الظاهر عن طريق اللسان؛ حيث لا يعد كافيًا وحده لإدخال صاحبه زُمرة المؤمنين، فقد يشترك في الإقرار القلبي مع المؤمن غيرُه من الكافرين والمَلاحدة والمنافقين، غير أن المؤمن الحق يَفترق سبيله عن سبيل الجاحدين بالنُّطق اللساني، ويفترق عن سبيل المنافقين بقرينة أخرى تَشهد للنور القلبي الكامن في سُويدائه، ألا وهي قرينة التسليم والرضا بالطاعة.
فكم من مُقرٍّ بحق جاحد له، كأهل الكتاب المعاصرين للرسول - صلى الله عليه وسلم - وكانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، بل ويَستفتحون به على الذين كفروا، فلمَّا جاءَهم ما عرَفوا، كفروا به وهم يعلمون صِدقه يقينًا، أو كبعض مشركي مكة؛ أمثال: أبي جهل، والوليد بن المغيرة، وأبي طالب عمِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلهم يُقِر صدْقَ محمد وأمانته، ويشهد له، غير أنهم ردُّوا عليه دعوته؛ جحودًا لها، وحقدًا عليه، وصدق فيهم قوله تعالى: ﴿ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [الأنعام: 33].
إذًا فلا بد من وجود قرينة تَشهد لهذا الإقرار القلبي وتؤيِّده، هذه القرينة التي وصَفها الحق - تبارك وتعالى - بصفة التسليم في قوله - تبارك وتعالى -: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَر بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].
فتحكيم صاحب الرسالة في أمور الحياة، والنزول على حُكمه دُون حرجٍ، والتسليم بقضائه - هو النتيجة الحتْمية لوجود الإيمان في القلب، وهو ما يَمِيز المؤمن من المنافق، والطيِّب من الخبيث، فحين سأل أحدُ الصحابة الأخيار رسولَ الإسلام عن قولٍ في الإسلام لا يَسأل عنه أحدًا بعده، أجابه بقوله الشريف البليغ المُحكم: ((قل: آمَنتُ بالله، ثم استقِم))؛ أي: ليكن منهاجك في الحياة مستقيمًا مع كلمة الإيمان، نازلاً على حُكمها، راضيًا عنها وعن قضائها، وكفى بذلك من نورٍ يهدي من ظُلمات الحياة والأحياء، وهنا يتحتَّم أمام بصائرنا هدفٌ أصيل، هو أنه على البشرية أن تصحِّح مسارها في الحياة، بتحكيم منهج الله في دروب حياتهم، ويُسلموا قيادهم لأمر الله وحُكمه، وبغير ذلك لا يكون إيمان ولا دين، ولا دنيا صالحة؛ لأن صلاح الدنيا متوقِّف على صلاح الدين، وصلاح الدين متوقِّف على صِدق الرابطة مع الله، التي لا تتحقَّق إلا بنهجِ منهجه السَّوي الذي وضَعه للحياة والأحياء والكون جميعًا، والمسلم الحق هو مَن أسلَم قلبه ونفسه لربِّه عن طواعية ورضا؛ ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153]، فلن تجد البشرية إنسانيَّتها إلا عند ذلك التسليم والاحتكام إلى الله، والرضا بحُكمه والرضا عنه، والركون إليه وحْده، وقد رُوِي في الصحيحين قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ذاق طعْم الإيمان مَن رضِي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ رسولاً))، وفي الحديث القدسي: ((مَن استسلَم لقضائي، ورضِي بحكمي، وصبَر على بلائي، بعَثته يوم القيامة مع الصدِّيقين والشهداء)).
إذا كان الرضا بين قَسمات القلب، انْمَحى الضَّجر والنفور، ورُفِع الاحتجاج والمُغالبة، وتخلَّص من متعلقات الأهواء والنوازع، وصفَا من أكدار الدنيا ورغائبها؛ لأن المؤمن الحق يضع دنياه في منزلتها الحقيقية وفي حَجمها الذي أرشده إليه دينه؛ حيث علَّمه ربُّه في كتابه الكريم أن الدار الآخرة هي الأبقى، وأن الدار الدنيا فانية، لا غناء فيها ولا رِواءَ؛ وإنما هي مَعبر للآخرة، فقال - سبحانه وتعالى -: ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [الأعلى: 16 - 17].
وقال - تبارك وتعالى -: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ [الكهف: 46].
وقال - عز وجل -: ﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64].
وصدق الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن أحب دنياه، أضرَّ آخرته، ومَن أحبَّ آخرته، أضرَّ دنياه، فآثِروا ما يبقى على ما يَفنى))، وقال أيضًا: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيلٍ))، وقال: ((ما لي وللدنيا، وما أنا إلا كراكبٍ استظلَّ تحت شجرة، ثم راح وترَكها)).
فإذا كانت هذه عقيدةَ المؤمن في الدنيا وتصوُّره لها، فإنه لا جَرَم لن يتعلَّق بها ولن تجذب هِمَّته إليها، وإنما سيُصلح فيها ما استطاع، ويَغرس فيها قَدْر طاقته ما يَجنيه في آخرته، إنه حين يَبذل ويَكدَح في دنياه، لا ينتظر ثمار كَدْحه في هذه الدنيا القريبة؛ وإنما يدَّخره لما ينتظره عبر حُجُب الغيب، فليس زُهدُ المؤمن اعتكافًا ورفضًا للحياة والوجود؛ وإنما هو نفي التعلُّق بالحاضر القريب والاستعلاء عليه.
وعن التسليم تَنبع الطاعة والانقياد.
ونقصد بالطاعة عند المؤمن:
تعظيم الأمر والنهي، وهو وجه بارزٌ من أوجه التسليم، ألا وهو وجه تسليم قِياده وإلقاء أمره، وتفويض مشيئته إلى الله، إذا وُجِدت هذه الطاعة، لا تثور في نفس الإنسان أسئلة مُتبرِّمة، أو مُرتابة، أو كارهة، ولكنها الطاعة في أسمى معانيها وفي أبلغ صُوَرها.
ومن ثَمَّ، فلن يَخرج المؤمن عن نهْجٍ خطَّه له الإسلام، وسبيل فرَضه له ربُّه، فلن يَقترب مجرد اقترابٍ من حدٍّ من حدود الله ومحارمه، ولا بد أن نَشهد بتفرُّد طاعة المؤمن، واختلافها عن طاعة غير المؤمن، فطاعة المؤمن - والتي نراها - سِمة من سمات التسليم، فهي طاعة راضية قانعة مُخْبتة، وأما طاعة غير المؤمن، فهي إما طاعة مقهورٍ، أو طاعة وَلِهٍ مشبوبٍ، وحينئذٍ هي طاعة عمياء مُضِلة.
غير أن طاعة المؤمن تَجمع - إلى رضاها واقتناعها - بصيرتها وأريحيتها، وثِقتها في قيادتها، وقد ورد الحديث تصويرًا لطَواعية المؤمن: ((المؤمن كالجمل الأَنِف؛ إن قِيدَ انقادَ، وإن أُنِيخَ على صخرة، استناخَ)).
وطاعة المؤمن تكون لله أولاً وقبل كل شيء، وطاعته للرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما هي من طاعة الله، ثم طاعته لأُولي الأمر من الأُمراء والعلماء، هي أيضًا طاعة لله ورسوله؛ لأنه إنما يُعظم أمر الله بطاعتهم، فيُطيعهم ما كانوا هم مُطيعين لله - سبحانه وتعالى - وتلك نصوص الشرع الحنيف تفصل في الأمر وتَضع الآية البيِّنة أمام البصائر في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 51]، وفي قوله - عز وجل -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [النساء: 59]، وفي قوله - عز من قائل -: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31]، وفي قوله - تبارك وتعالى -: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [النساء: 80]، وفي قوله - سبحانه -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 33]، إلى آخر الآيات التي تحمل هذا المعنى.
وهذا ما كان عليه فَهم الصحابة - رضي الله عنهم - وعلى رأسهم الخلفاء الأُمناء على شرْع الله ودينه بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فأبو بكر - رضي الله عنه - يطلب من المسلمين في أوَّل خطبة له بعد بَيْعته، أن يُطيعوه ما أطاع الله فيهم، قائلاً: "إني وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأتُ فقوِّموني"، وهذا عمر - رضي الله عنه - يقول: "فإن أطَعت الله فأطيعوني، وإن عصَيتُه فلا طاعة لي عليكم".
وقد رُوِي في ذلك المعنى حديثٌ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحبَّ وكرِه، إلا أن يُؤمَر بمعصية، فإذا أُمِر بمعصية، فلا سمْعَ ولا طاعة)).
وهكذا نتبيَّن طبيعة هذه الطاعة التي يَفيض بها قلب المؤمن لله - سبحانه وتعالى - مُتمثِّلة في سلوكه في الحياة؛ متأدِّبًا بها معه، مُخبتًا بها إليه فيما يأتي ويَذَر من أمور حياته.
والانقياد لأمر الله والتسليم له، هو الذي يُبرهن على إخلاص الإيمان وصفائه، ومبلغ قوَّته ويَقينه، والذي يؤكِّد ذلك ويُوثِّقه في قلب المؤمن، هو الصبر!
شبكة الألوكة
تم النشر يوم
الأربعاء، 18 سبتمبر 2013 ' الساعة