الصابئة والمنجمون
الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل
الحمد لله، خلق الخلق بقدرته، وابتلاهم بحكمته، فسلك سبيل الحق أقوام منهم؛ فنالوا رحمته، واستحقوا جنته، وتنكَّب آخرون طريقه؛ فاستحقوا عقابه، وما حاسبهم ولا عاقبهم إلا بعدله. أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره؛ هدانا للإيمان، ومنَّ علينا بالقرآن، ووفقنا للتوحيد؛ فلا نَزالُ نرى أقوامًا جدُّوا في العبادة، واجتهدوا في العمل، فكان عملهم هباءً، وجِدُّهم وبالاً؛ لأنهم ما سلكوا الطريق الصحيحة: إما وثنيّونَ أو قُبوريّون، وإما يهود أو نصارى أو ملاحدة.
فهل ترون نعمة أعظم من الهداية؟ تعملون فعملكم محفوظ، وأجره موفور. ويعمل غيركم ولا جزاء لهم إلا النصب والتعب!! فاللهم لك الحمد والشكر، لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا نرجو سواه، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.
وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، هدم للوثنية أركانًا، وأقام للتوحيد منارًا يبقى ما بقيت الأيام، ولا يزول حتى تزول الدنيا، فلا تزال طائفة من أُمَّته على الحقّ ظاهرين حتى يأتِيَ أمْرُ الله وهم على ذلك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيأيها الناس: اتقوا الله - تعالى - وأحسنوا؛ فليست العبرة بكثرة العمل؛ بل هي بإحسانه وقبوله: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ ﴾ [الملك: 1-2].
أيها المؤمنون: طمأنينة العبد في الدنيا، وفوزه في الآخرة، مرهون بحسنِ توحيده، وصحة معتَقَدِه. وليس من خافَ آلهةً عدة كمن خاف ربًّا بيده النفع والضر، ولا من رجا من لا يملك شيئًا كمن رجا من بِيَدِه خزائنُ كل شيء.
وتحقيقُ التوحيد نعمةٌ ربما لا يعرف قدرها من نشأ عليها، وتربى في أحضانها؛ لكنه يدرك فضلها، ويحس نعمتها إذا رأى من فقدها من عباد القبور والأوثان، والعجل والصلبان، ممن خافوا حجرًا لا ينفع ولا يضر، أو تعلَّقوا بعظم صار رميمًا، أو غيرهم ممن يطول عدهم، وتَعِزُّ على الحصر آلهتهم؛ ولكنهم وإن اختلف أربابهم، وتعددت معبوداتهم، اجتمعوا على التأله لغير الله - تعالى - وعبادة غيره ممن ﴿ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ﴾ [الفرقان: 3].
كان منهم أقوام عظموا الكواكب، واستسقَوْا بالأنواء، واعتقدوا أن ما يجري في الأرض من حوادث وكوارث هو بفعل الأنجم والأفلاك. يقودهم في ضلالهم هذا سحرة ومنجمون، وكهان وعرافون، تراهم شرَّ البرية حالاً، وأحطهم قدرًا ومقامًا.
وما أقوى ارتباطَ السحر بالكهانة، والتنجيم بالعرافة، تشترك في ادعاء علم الغيب، وزعم النفع والضر، وصرف العبادة لغير الله - تعالى - عبر تمتمات وطلاسمَ، وأفعالٍ وشعائر، يرفضها العقل السوي، وتأباها الفطرة النقية؛ فضلاً عن شرع الله المطهَّر.
وعلى الرغم من ذلك فإن فئامًا من هذه الأمة لن ينفكوا عن ممارسة ذلك، والتصديق به، كما هو خبر الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: ((أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة))؛ أخرجه مسلم[1]، وفي الصحيحين من حديث زيد بن خالد - رضي الله عنه - قال: "صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية في إثر السماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: ((هل تدرون ماذا قال ربكم))؟ قالوا: "الله ورسوله أعلم". قال: ((قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب))[2].
لقد كان تعظيم الكواكب والاعتقاد فيها شريعة قديمة في البشر، واشتهر به الصابئة المنسوبون إلى قوم إبراهيم الخليل - عليه السلام - وهم على أقسام أربعة: أصحاب الروحانيات، وأصحاب الهياكل، وأصحاب الأشخاص، والحلولية[3].
كانوا يعتقدون أن الملائكة تسكن الأفلاك، وأن لهذه الأفلاك تأثيرًا على الأرض وعلى حياة الناس فيها؛ فتقربوا إلى الهياكل والروحانيات تقربًا إلى الله - تعالى - حسب زعمهم؛ فجعلوها وسائط بينهم وبين الله - تعالى - ثم استخرجوا من عجائب الحيل المرتبة على عمل الكواكب ما كان يقضي منه العجب، وما هذه الطلسمات المذكورة عند السحرة والكهان وأهل التنجيم والتختيم إلا من علومهم، وهؤلاء هم أصحاب الهياكل.
وأما أصحاب الأشخاص فاتخذوا أصنامًا على مثال الهياكل السبعة السيارة في السماء؛ فعبدوا تلك النُّصُب بزعم أنها وسائط، وقابلوها بالبخور والأطياب وأنواع اللباس، ودعوها وسألوها قضاء الحاجات، وهؤلاء وأولئك أخبر التنزيل عنهم أنهم عبدة الأوثان والكواكب؛ فأصحاب الهياكل هم عبدة الكواكب؛ إذ قالوا بإلهيتها. وأصحاب الأشخاص هم عبدة الأوثان؛ إذ سموها آلهة في مقابل آلهة أولئك السماوية وكلهم قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله تعالى[4].
وقد ناظر الخليل - عليه السلام - هذين الفريقين، فابتدأ بكسر مذهب أهل الأشخاص كما قال الله - تعالى -: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنعام: 83] وتمثلت تلك الحجة في كسر أقوالهم وحججهم حينما قال لهم: ﴿ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الصَّافات: 95-96].
وكان أبوه أعلم القوم بالأشخاص والأصنام ورعاية الإضافات النجومية؛ ولهذا كانوا يشترون منه أصنامهم، فدعاه إلى الحنيفية، وأكْثَرَ القول عليه، وألزمه بالحجج الباهرة، والبراهين الساطعة[5]، ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام: 74][6].
وناداه فقال: ﴿ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ العِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ﴾ [مريم: 42-45].
ولكن أباه لم يستجب ولم يؤمن ﴿ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ﴾ [مريم: 46].
فلما رأى إبراهيم - عليه السلام - إصرارهم على الكفر عمد إلى دحض حجتهم بالفعل فكسر أصنامَهم، وعزا ذلك إلى كبيرِهم فانتكسوا ودحروا ﴿ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 63-67]؛ فدحض - عليه السلام - حجَّتَهُم بالعقل، كما كسر أصنامهم بالفأس.
ثم عدل إلى كسر مذاهب أصحاب الهياكل كما أراه الله - تعالى - الحجة على قومه فناظرهم في تلك الهياكـل، التي يعبدونها من دون الله - تعالى - فقررهم وألزمهم، ثم دحض حجتهم، وهدم مذهبهم ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الآَفِلِينَ ﴾ [الأنعام: 75-76]. فالإله ينبغي أن لا يأفل ولا يغيب ﴿ فَلَمَّا رَأَى القَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضَّالِّينَ ﴾ [الأنعام: 77]. وكان اعتقادهم في القمر أعظم من اعتقادهم في الكواكب؛ فأخَّرَ القمر وقدم الكوكب، وكان اعتقادهم في الشمس أعظم من القمر والكواكب؛ حيث جعلوها رب أربابهم، وملك أفلاكهم، ومقتبس أنوارهم[7]؛ فأخَّرَها ليهدم اعتقادهم فيها، ثم ليقرر التوحيد لله رب العالمين ﴿ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 78-79].
فأنهى - عليه السلام - فصول المناظرة، وقطع حجج المخاصمة، وأبطل دين الصابئة، وقرر مذهب الحنيفية ﴿ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 161]، ﴿ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي الله وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 80-82].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن دين الصابئة الذي أبطله القرآن، وبطل بكل مقاييس الشرع والعقل والفطرة، لا يزال أقوام يأخذون منه بعض شعائره في حضارة القرن الحادي والعشرين، ويكثر ذلك في الدول التي ينظر إليها على أنها حقَّقتْ سبقًا حضاريًّا على سائر الأمم، والتي جعلت من مسلَّماتها الإيمان بالمادة، والكفر بالغيب؛ إلا أنَّ أفرادها إلى الخرافة والشعوذة والتنجيم والكهانة يستبقون، حتى راجت فيهم أسواق السحرة والمنجمين والكهان والعرافين.
وقد تبعها على ذات الخط المظلم بلاد علمانية، قسرت شعوبها المسلمة على الزندقة والإلحاد، وألغت كثيرًا من شعائر الدين الظاهرة بِحُجَّة أن ذلك تخلف ورجعية؛ فتنظر لتجد أن سوق السحر والتنجيم فيها رائجة؛ لإضلال الناس، وغواية العامة، فليس ذلك مما يعوق عن التقدم، ولا هو دليل على التخلف. أما الدين الصحيح فهو التخلف والرجعية عند هؤلاء الزائغين!!
وإصرارًا على إفساد عقائد الناس، يبث عبر الفضاء، وعلى مرأى من جميع الناس، برامج يستضاف فيها منجم خبيث يجيب عن تساؤلات السائلين، قد علق مسبحته في يده، واسودت جبهته من سجوده؛ إمعانًا في التلبيس والإضلال، وربما تلا شيئًا من القرآن، أو قال ذكرًا من الأذكار. ثم يلقي عليه السذج والرعاع أسئلتهم؛ ليكشف لهم الغيب، ويذكر ما يحدث لهم في مستقبلهم؛ بل ويذكر لهم صفاتهم وأخلاقهم، وما ينبغي لهم عمله بما يوافق عمل أبراجهم وكواكبهم، ويبث ذلك تحت سمع وبصر دعاة الأمن الفكري من لوثات التدين والأصولية وغيرها من الشعارات الرخيصة. فأين هو الأمن الفكري من إفساد عقائد الناس وتوحيدهم، ويصل ذلك إلى نساء الموحدين وأطفالهم في بيوتهم عبر الشاشات والأثير[8]، فيا ترى كيف ستكون عقائد أقوام يربون على تلك الخرافات والضلالات؟!
بل إن الصحف العلمانية في كثير من البلاد الإسلامية جعلت جداول يومية للمنجمين يطلع عليها المرء قبل خروجه من المنزل، وبناءً عليها يخرج أو يبقى، ويقدم أو يحجم!!
وكثيرٌ من أهل التجارات، وأصحاب رؤوس الأموال يعملون بمقتضى هذا الدجل الرخيص خاصة في إرساء العقود والمناقصات، فأين هم من التوحيد والإيمان وقد اعتقدوا في النجوم والأفلاك ما لا يجب أن يعتقد إلا في رب العالمين جل في علاه؟!
قال قتادة - رحمه الله تعالى -: "إن الله إنما جعل هذه النجوم لثلاث خصال: جعلها زينة للسماء، وجعلها يُهتدى بها، وجعلها رجومًا للشياطين؛ فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه، وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلَّف ما لا علم له به، وإن ناسًا جهلة بأمر الله قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة: من أعرس بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا، ومن سافر بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا، ولعمري ما من نجم إلا يولد به الأحمر والأسود، والطويل والقصير، والحسن والذميم. وما عِلْمُ هذه النجوم وهذه الدابة وهذا الطائر بشيء من هذا الغيب، ولو أن أحدًا علم الغيب لعلمه آدم الذي خلقه الله بيده، وأسجده ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء"ا هـ[9].
ووالله ثم والله إن ما ذكره قتادة - رحمه الله - قد وقع فيه كثير من الناس في البلاد الإسلامية: لا يسيرون ولا يعيشون إلا بمقتضى هذه البروج، وتحت تعليمات أولئك المنجمين الكذابين؛ حتى صرفوا من الخوف والخشية للأبراج والأفلاك أكثر مما يصرفون لله - تعالى - ورجوها من دون الله!! يتعس أحدُهم لأن نجمه لم يوافق حظًّا يريده، أو امرأة يتزوجها، أو وظيفة يطلبها، أو غير ذلك!!
فإلى الله المشتكى من زمن يوصف بأنه زمن العلم والتقدم والحضارة، وقد سرى فيه التنجيم والشعوذة والخُرافة، فاللهم احفظنا بحفظك وثبتنا على الإيمان والتوحيد، ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ * وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ ﴾ [الصَّافات: 180-182]. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
[1] أخرجه مسلم في الجنائز باب التشديد في النياحة (934).
[2] أخرجه البخاري في الاستسقاء باب قول الله – تعالى -: ﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾ [الواقعة: 82] (1038)، ومسلم في الإيمان باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء (71).
[3] انظر: "الموسوعة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة" (2/731).
[4] انظر: "الملل والنحل" للشهرستاني بهامش "الفصل في الملل والنحل" لابن حزم (2/97) و"محاسن التأويل" للقاسمي (3/355) عند تفسير الآية (79) من سورة الأنعام.
[5] انظر: "محاسن التأويل" (3/355).
[6] جزم بعض المتأخرين بأن (آزر) لم يكن أبًا لإبراهيم وإنما هو عمه، واستدلوا لذلك بأدلة لا تنهض، ليس هذا مجال بحثها، وأعرضوا عن ظاهر القرآن، والدافع لهم إلى ذلك - والله أعلم - أنهم أرادوا نفي كون أحد آباء النبي - صلى الله عليه وسلم - مات على الشرك، كما هو مذهب الروافض، وأخذ به بعض العقلانيين، وهو قول مخالف لصريح السنة الصحيحة، التي ثبت فيها في الصحيحين وغيرهما، أن أبا إبراهيم يؤخذ بقوائمه إلى النار يوم القيامة، وثبت أن والد النبي - صلى الله عليه وسلم - عبدَالله بن عبدالمطلب في النار أيضًا كما جاء في حديث أنس - رضي الله عنه -: "أن رجلاً قال: يا رسول الله، أين أبي"؟ قال: ((في النار)) فلما قفى دعاه فقال: ((إن أبي وأباك في النار))؛ أخرجه مسلم (203) وابن منده في الإيمان (926) وأحمد (3/268) وأبو داود (4718) وله شاهدان عن سعد بن أبي وقاص وعمران بن حصين رضي الله عنهما. قال النووي - رحمه الله تعالى - في شرحه على صحيح مسلم (3/97): "فيه أن من مات على الكفر فهو في النار ولا تنفعه قرابة المقربين، وفيه أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة؛ فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم" اهـ. وليس لنا حيال ذلك إلا التسليم. والصواب الذي لا مرية فيه أن (آزر) هو أبو إبراهيم الخليل - عليه السلام - كما هو قول جمهور المفسرين ومن يعتد بقوله من العلماء.
[7] انظر: "الملل والنحل" للشهرستاني (2/98) و"محاسن التأويل" (3/356).
[8] كثيرة هي البرامج والمقابلات، التي تجرى مع هؤلاء الخرافيين من السحرة والمشعوذين والمنجمين والعرافين، وتتولى كِبْرَ ذلك معظمُ القنوات العربية، التي تزخر بكثير من الشبهات والشهوات، وتعرض تلك البرامج على فترات متقطعة، ومنها ما هو منتظم كبرنامج في الفضائية المصرية يعرض كل أسبوع وفي رمضان كل يوم عنوانه "برجك إيه"! وآخر في قناة ANN فيه تنجيم أيضًا، فالله المستعان.
[9] أخرجه البخاري في بدء الخلق باب النجوم، مختصرًا معلقًا مجزومًا به، ووصله عبد بن حميد كما في "فتح الباري" (6/341) وعزاه الشيخ عبدالرحمن بن حسن - رحمه الله تعالى - في "فتح المجيد" للخطيب في كتاب النجوم (444) وعزاه الشيخ سليمان بن عبدالله - رحمه الله تعالى - في "تيسير العزيز الحميد" لعبدالرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ (448).
شبكة الألوكة
تم النشر يوم
الجمعة، 6 سبتمبر 2013 ' الساعة