الخميس، 3 يناير 2013




الجدال في الدين

د. أحمد إبراهيم خضر
مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.
هذا هو إصدارنا الرابع من سلسلة "مختارات من كتب التراث الإسلامي"، بعنوان "الجدال في الدين"، انتقَيْناه من كتاب "الشريعة"؛ للإمام أبي بكر محمد بن الحسين الآجري، حقَّق الكتاب الأستاذ: محمد حامد الفقي، في عام 1369هـ- 1950م، وطبعته دار الكتب العلمية ببيروت في عام 1403هـ- 1983م.

نشأ (الإمام الآجري) ببغداد، ثم انتقل إلى مكَّة، ولَمَّا دخلها أعجبَتْه، فدعا الله - تعالى - أنْ يرزقه الإقامة بها سنة، فعاش فيها مجاورًا ومحدثًا ومتعبِّدًا ثلاثين سنة.

ألَّف الإمام (الآجري) كتاب "الشريعة" حين رأى ما غلب على الناس من الأهواء المضلَّة والآراء الفاسدة، وتقديمها في العقيدة على الوحيَيْن، ولم يتفقَّهوا في كتاب الله، ولم يستضيئوا بسنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقام يدعو الناس في هذا الكتاب إلى الرُّجوع إلى السبيل القويم، والاهتداء بهدي كتاب الله وسنَّة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم.

والإمام (الآجري) محدِّث فقيه عالم عامِل صاحب سنَّة واتِّباع، تُوفِّي في الأوَّل من المحرم سنة ستين وثلاثمائة للهجرة بمكة ودُفِن فيها.

هذا، وكان الأستاذ (محمد حامد الفقي) قد اشترى نسخة أصل كتاب "الشريعة" من الشيخ (محمد عبدالرزاق حمزة) المدرس بالمسجد الحرام، ولم يُوافِق الأخير على بَيْعه هذه النسخةَ الأصليَّة إلا بعد أنِ اشتَرطَ عليه أنْ يطبعها وينشُرها ليعمَّ نفع الناس بها، ففعل الأستاذ (الفقي) ذلك، غفر الله لهم جميعًا، ونسأله - عزَّ وجلَّ - أنْ يدَّخر لنا أجْر هذا الجهد عنده يوم الموقف العظيم.


حذَّر وذمَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم- الجدالَ والخُصومات في الدِّين؛ فقال في ذلك: ((ما ضلَّ قومٌ بعد هُدًى كانوا عليه إلا أوتوا الجدال))، ثم قرأ: ﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾ [الزخرف: 58].

وعن أنس بن مالك - رضِي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ونحن نتَمارَى في شيءٍ من الدِّين، فغضب غضبًا شديدًا لم يغضب مثله، ثم انتهرنا، فقال: ((يا أمَّة محمد، لا تهيجوا على أنفسكم وهج النار))، ثم قال - صلى الله عليه وسلم- : ((أبهذا أمرتم؟ أوَليس عن هذا نُهِيتم، أوَليس إنما هلك مَن كان قبلكم بهذا؟))، ثم قال - صلى الله عليه وسلم- : ((دعوا المراء؛ لقلَّة خيره، ودعوا المراء؛ فإنَّ نفعه قليل، ويهيج العداوة بين الإخوان، ذروا المراء؛ فإنَّ المراء لا تُؤمَن فِتنته، ذروا المراء؛ فإنَّ المراء يُورِث الشك ويحبط العمل، ذروا المراء؛ فإنَّ المؤمن لا يماري، ذروا المراء؛ فإنَّ المماري قد تمَّت خَسارته، ذروا المراء؛ فكفى بك إثمًا لا تزال مُماريًا، ذروا المراء؛ فإنَّ المماري لا أشفع له يومَ القيامة، ذروا المراء؛ فأنا زعيمٌ بثلاثة أبياتٍ في الجنة: في وسطها ورباضها وأعلاها لِمَن ترك المراء وهو صادق، ذروا المراء؛ فإنَّه أوَّل ما نهاني ربي - عزَّ وجلَّ - عنه بعد عبادة الأوثان، وشُرب الخمر، ذروا المراء؛ فإنَّ الشيطان قد أَيِسَ أنْ يُعبَد، ولكنه قد رضي منكم بالتحريش؛ وهو المراء في الدِّين، ذروا المراء؛ فإنَّ بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وإنَّ أمَّتي ستفترق على ثلاثٍ وسبعين فرقة، كلها على الضلالة، إلا السواد الأعظم))، قالوا: يا رسول الله، ما السواد الأعظم؟ قال - صلى الله عليه وسلم- : ((مَن كان على ما أنا عليه وأصحابي، مَن لم يمارِ في دين الله - تعالى - ولم يُكفِّر أحدًا من أهل التوحيد بذنب...)) وذكر الحديث[1].

وقال رجلٌ لابن عباس - رضي الله عنهما -: الحمد لله الذي جعل هُدانا على هَواكم فقال له ابن عبَّاس - رضِي الله عنهما -: "الهوى كلُّه ضلالة".

كما بلغ ابن عباس - رضِي الله عنهما - عن مجلسٍ كان في ناحية بني سهم، يجلس فيه ناسٌ من قريش يختلون فيه، ترتفع أصواتهم، فانطلق ابن عباس ونفرٌ معه حتى وقفوا، فقال لأحدهم: أخبرهم عن كلام الفتى الذي كلَّم به أيوب - عليه الصلاة والسلام - وهو في حال بلائه، قال الرجل: قال الفتى: يا أيوب، أما كان في عظمة الله - عزَّ وجلَّ - وذكر الموت ما يكلُّ لسانك ويقطع قلبك ويكسر حجَّتك، يا أيوب، أمَا علمت أنَّ لله - تعالى - عبادًا أسكنَتْهم خشية الله من غير عيٍّ ولا بكم، وإنهم لهم النُّبَلاء الفُصَحاء الطُّلَقاء الألبَّاء، العالمون بالله وأيَّامه، ولكنَّهم إذا ذكروا عظمة الله - عزَّ وجلَّ - تقطَّعتْ قلوبهم، وكلَّتْ ألسنتهم، وطاشت عقولهم وأحلامهم فَرَقًا من الله - تعالى - وهيبةً له، فإذا استَفاقُوا من ذلك استبَقُوا إلى الله - عزَّ وجلَّ - بالأعمال الزاكية، لا يستَكثِرون لله الكثير، ولا يرضون له بالقليل، يعدُّون أنفسهم في الظالمين الخاطئين، وإنهم لأنزاه، أبرار، أخيار، ومع المضيِّعين المفرِّطين، وإنهم لَأكياسٌ أقوياء، ناحلون دائبون، يَراهم الجاهل فيقول: مرضى، وليسوا بمرضى، وقد خُولِطوا وقد خالط القوم أمر عظيم".

وعَى أهل العلم من التابعين ومَن بعدهم من أئمَّة المسلمين تحذيرَ ونهيَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم- فلم يتماروا في الدِّين، ولم يُجادِلوا، وحذَّروا المسلمين المِراء والجدال، وأمَرُوهم بالأخْذ بالسنن، وبما كان عليه الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين.

فقالوا في ذلك:
"ما اضطرَّ الناس إلى المراء إلا الخُصومات".
"إياكم والمراء، فإنها ساعة جهل العالم، وبها يبتغي الشيطان زلَّته".
"إياكم والمنازعة والخصومة، وإياكم وهؤلاء الذين يقولون: أرأيتَ أرأيتَ".
"ما جعل الله في شيءٍ من المراء مثقال ذرَّة من خير، وما هي إلا زينة الشيطان، وما الأمر إلا الأمر الأول".
"عليك بآثار مَن سلَفَ، وإنْ رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال، وإنْ زخرفوا لك بالقول".

وكان الأئمَّة وأهل العلم من بعدهم يتجنَّبون الوقوع في الجدل، ومن الأمثلة على ذلك ما يلي:
1- انصرف مالك بن أنس - رضي الله عنه - يومًا من المسجد، فلحقه رجل فقال: يا عبدالله، اسمع منِّي شيئًا أكلِّمك به وأحاجُّك وأخبرك برأيي، قال: فإنْ غلبتني؟ قال: إنْ غلبتك اتَّبعتني؛ قال: فإنْ جاءنا رجل آخَر فكلمنا فغلبنا؟ قال: نتبعه، فقال مالك - رحمه الله تعالى -: يا عبدالله، بعث الله - عزَّ وجلَّ - محمدًا - صلى الله عليه وسلم- بدِين واحد، وأراك تنتقل من دِين إلى آخَر، قال عمر بن عبدالعزيز: مَن جعل دينه غرضًا للخُصومات أكثر التنقُّل".

2- جاء رجلٌ إلى واحدٍ من أهل العلم فقال له: يا أبا سعيد، تعالَ حتى أخاصمك في الدِّين، فقال له: "أمَّا أنا فقد أبصرت دِيني، فإنْ كنت أضللت دينك فالتَمِسه".

3- جاء رجلٌ إلى واحدٍ من أهل العلم فقال له: يا أبا بكر؟ أسألك عن كلمة، فولَّى العالم، وجعل يشير بإصبعه: ولا نصف كلمة".

4- دخل رجلان من أهل الأهواء على محمد بن سِيرين، فقالا له: "يا أبا بكر، نحدثك بحديث؟ قال: لا، قالا: فنقرأ عليك آيةً من كتاب الله - عزَّ وجلَّ؟ قال: لا، لتقومنَّ عنِّي أو لأقومنَّهْ".

5- كان ابن سِيرين يقول لكلِّ مَن يدرك أنه من أهل المماراة: "إنِّي قد أعلم ما تريد، وأنا أعلم بالمراء منك، ولكنِّي لا أماريك".

6- رأى واحد من أهل العلم رجلان يتَجادَلان في ناحيةٍ من المسجد فنفض ثوبه وقام وقال: إنما أنتم حرب".

كما كان العلماء يحذِّرون وينصَحون بعدم الوقوع في مَزالق المماراة في الدِّين؛ ومن أمثلة ذلك قولهم:
"ما خاصَم وَرِعٌ قط في الدِّين".
"إذا لقيت صاحبَ بدعةٍ في طريقٍ فخُذْ غيره".
"دَعِ المراء والجدال عن أمرك؛ فإنَّك لا تُعجِز أحد رجلين: رجل هو أعلم منك، فكيف تماري وتجادل مَن هو أعلم منك؟ ورجل أنت أعلم منه، فكيف تماري وتجادل مَن أنت أعلم منه، ولا يطيعك؟ فاقطع ذلك عليك".

وحذَّر الأئمَّة وأهل العلم من مخاطر الجدال في الدِّين ومجالسة أهل الأهواء، ومن أقوالهم في ذلك:
"لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم؛ فإنهم إمَّا أنْ يَغمِسوكم في الضلالة، أو يلبسوا عليكم في الدِّين بعض ما لبس عليهم".
"الخصومات في الدِّين تُحبِط الأعمال".
"مَن جعل دِينه غرضًا للخصومات أكثر التنقُّل".
"مكتوب في التوراة: يا موسى لا تخاصم أهل الأهواء، يا موسى لا تجادل أهل الأهواء، فيقع في قلبك شيء، فيؤذيك فيه فلك النار".
عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: "لا تجالس أهل الأهواء؛ فإنَّ مجالستهم ممرضة للقلب".

وقد خافَ النبي - صلى الله عليه وسلم- من أنْ تُؤدِّي المجادلة والمناظرة بين الناس في الدِّين إلى أنْ (يخرق) بعضهم على بعض؛ بمعنى: أنْ يختلقوا الأكاذيب ويفتروها وأن يتحامقوا ويركبوا العصبية العمياء.

هذا، ولا يؤمن أنْ يقول أحدهم في مناظرته: "قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم"، فيرد عليه الآخَر: "هذا حديث ضعيف"، أو "لم يقُلْه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم"، فيرد قوله ثم يرد الآخَر قوله، ويردُّ كلٌّ منهما حجَّةَ صاحبه بالمجازفة والمغالبة.

وقد أُمِرَ المسلمون بحِفظ السنن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وسنن أصحابه - رضي الله عنهم - والتابعين لهم بإحسان، وقول أئمَّة المسلمين مثل: مالك بن أنس والأوزاعي وسفيان الثوري وابن المبارك وأمثالهم، والشافعي وأحمد بن حنبل، والقاسم بن سلام، ومَن كان على طريقة هؤلاء من العلماء - رضِي الله عنهم - فلا يناظرون ولا يجادلون ولا يخاصمون، وإذا لقوا صاحب بدعةٍ في طريقٍ أخذوا غيره، وإنْ حضروا مجلسًا فيه من أهل الأهواء قاموا عنه.

وكان مالك بن أنس - رضِي الله عنه - إذا ذُكِرَ عنده الزائغون في الدِّين يقول: قال عمر بن عبدالعزيز - رضِي الله عنه -: سنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وولاة الأمر من بعده - رضِي الله عنهم - سننًا، الأخْذ بها اتِّباعٌ لكتاب الله - عز وجل - واستكمالٌ لطاعة الله، وقوَّة على دِين الله، ليس لأحدٍ من الخلق تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في شيءٍ خالَفها، مَن اهتدى بها فهو مهتدٍ، ومَن استنصر بها فهو منصورٌ، ومَن تركها واتَّبَع غير سبيل المؤمنين، ولاَّه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا".

فمَن كان له عقل وعلم واحتاج إلى العمل بهما وأراد الله به خيرًا، لزم سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وما كان عليه الصحابة - رضي الله عنهم - ومَن تبعهم بإحسانٍ من أئمَّة المسلمين - رحمة الله عليهم - في كلِّ عصر، وتعلَّم العلم لنفسه لينفي عنه الجهل وكان مراده أن يتعلمه لله - عزَّ وجلَّ - ولم يكن مراده أنْ يتعلمه للمراء والجدال والخصومات، ولا لدُنيا، مَن كان هذا مراده سلم - إنْ شاء الله تعالى - من الأهواء والبِدَع والضلالة.

فإنْ قال قائل: وإن كان رجل قد علَّمه الله - تعالى - علمًا، فجاءه رجل يسأله عن مسألةٍ في الدِّين، ينازعه فيها ويخاصمه، فهل له أنْ يُناظِره، حتى تثبت عليه الحجَّة، ويرد عليه قوله؟ قيل له: هذا الذي نُهِينا عنه، وهو الذي حذَّرَنا منه أئمَّة المسلمين.

فإنْ قال قائل: فماذا نصنع؟
قيل له: إنْ كان الذي يسألك مسألته يسترشد بها إلى طريق الحق لا المناظرة، فأرشده بأرشَد ما يكون من البَيان بالعلم من الكتاب والسنَّة، وقول الصحابة - رضِي الله عنهم - وقول أئمَّة المسلمين، وإنْ كان يريد مناظرتك ومجادلتك، فهذا الذي كرهه العلماء، فلا تناظره واحذره على دينك.

فإن قال: ندعهم يتكلمون بالباطل، ونسكُت عنهم؟ قيل له: سكوتك عنهم وهجرك لما تكلموا به أشدُّ عليهم من مناظرتك لهم، وقد قال أحدُ العلماء في ذلك: "لستُ برادٍّ عليهم أشدُّ من السكوت".

فإنْ قال قائل: متى تشتدُّ الحاجة إلى مناظرتهم، وإثبات الحجَّة عليهم؟

قيل له: الاضطرار إنما يكونُ مع إمامٍ صاحب مذهب سُوء، فيمتحن الناس ويدعوهم إلى مذهبه؛ كفعل مَن مضى في وقت أحمد بن حنبل - رحمه الله -: ثلاثة خُلَفاء امتحنوا الناس، ودعوهم إلى مذهبهم السوء، فلم يجد العلماء بُدًّا من الدفاع عن الدِّين، وأرادوا بذلك معرفةَ العامَّة الحق من الباطل، فناظَروهم ضرورةً لا اختيارًا، فأثبت الله - عزَّ وجلَّ - الحق مع أحمد بن حنبل ومَن كان على طريقته، وأذلَّ الله العظيم مُناظِريه وفضحهم، وعرفت العامَّة ما كان عليه أحمد وتابعه.

ويروي الإمام الآجري في ذلك هذه الرواية: "وبلغني عن المهتدي - رحمه الله تعالى - أنَّه قال: ما قطع أبي - يعني: الواثق - إلا شيخ جِيءَ به من المَصِيصة، فمكث في السجن مدَّةً، ثم إنَّ أبي ذكره يومًا، فقال: عليَّ بالشيخ، فأُتِي به مقيدًا، فلمَّا وقف بين يديه سلَّم عليه فلم يردَّ - عليه السلام - فقال له الشيخ: يا أمير المؤمنين، ما استعملتَ معي أدبَ الله - عزَّ وجلَّ - ولا أدب رسوله - صلى الله عليه وسلم- قال الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ﴾ [النساء: 86]، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم- بردِّ السلام، فقال له: وعليك السلام، ثم قال لابن أبي دُؤاد: سَلْهُ، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا محبوسٌ مقيَّد، أصلِّي في الحبس بتيمُّم، مُنِعت الماءَ فمُرْ بقيودي تحل، ومُرْ لي بماء أتطهَّر وأصلِّي، ثم سَلْنِي، فحلَّ قيده وأمَر له بماء، فتوضَّأ وصلَّى لله ثم قال لابن أبي دُؤاد: سَلْهُ، فقال الشيخ: المسألة لي، فأمره أنْ يجيبني فتوضَّأ فقال: سل، فأقبل الشيخ على ابن أبي دُؤاد يسأله فقال: أخبرني عن هذا الذي تدعو الناس إليه، أشيء دعا إليه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم؟ قال: لا، قال: أشيء دعا إليه أبو بكرٍ الصدِّيق - رضِي الله عنه - بعده؟ قال: لا، قال: فشيء دعا إليه عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه - بعدهما؟ قال: لا، قال: أشيء دعا إليه عثمان بن عفَّان - رضِي الله عنه - بعدهم؟ قال: لا، قال: فشيء دعا إليه علي بن أبي طالب - رضِي الله عنه - بعدهم؟ قال: لا، قال: فشيء لم يدعُ إليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم- ولا أبو بكرٍ، ولا عمر ولا عثمان، ولا علي - رضِي الله عنهم - تدعو أنت الناس إليه! ليس يخلو أنْ تقول: عَلِموه أو جهلوه، فإنْ قلت: عَلِموه، وسكتوا عنه، وسعنا وإياك ما وسع القوم من السكوت، وإنْ قلت: جَهِلوه وعلمته أنا، فيا لُكَع بن لُكَع، يجهل النبي - صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدون - رضي الله عنهم - شيئًا تعلمه أنت وأصحابك؟ قال المهتدي: فرأيت أبي وثَب قائمًا وجعل ثوبه في فيه، فضحك ثم جعل يقول: صدَق، ليس يخلو من أنْ يقول: عَلِموه أو جَهِلوه، فإنْ قلت: عَلِموه وسكتوا عنه وَسِعَنا من السكوت ما وَسِعَ القوم، وإنْ قلنا: جَهِلُوه وعَلِمته أنت، فيا لُكَع بن لُكَع يجهل النبي - صلى الله عليه وسلم- وأصحابه - رضِي الله عنهم - شيئًا تعلمه أنت وأصحابك؟ ثم قال: يا أحمد، فقلت: لبيك، فقال: لست أعنيك، إنما أعني ابنَ أبي دؤاد، فوثب إليه فقال: أعطِ هذا الشيخ نفقته وأخرجه عن بلدنا".

فإنْ قال قائل: إنْ لم تكن مُناظَرتنا في شيءٍ من الأهواء التي يذكرها أهل الحق، ونُهِينا عن الجدال والمراء والخصومة فيها، وكانت عن الفقه في الأحكام؛ مثل: الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والنكاح والطلاق، وما أشبه ذلك من الأحكام، هل يُباح لنا أنْ نتناظَرَ فيه ونُجادِل، أم هو محظور علينا؟

قيل له: هذا الذي ذكرته ما أقلَّ مَن سلم من المناظرة فيه، حتى لا يلحقه فيه فتنة ولا مأثم، ويظفر به الشيطان! فإنْ قال: كيف؟ قيل له: كثُر هذا في الناس؛ فأهل العلم والفقه في كلِّ بلدٍ يناظر الرجلُ الرجلَ يريد مغالبته، ويعلو صوته، والاستظهار عليه بالاحتجاج، فيحمر لذلك وجهه، وتنتفخ أوداجه، ويعلو صوته، وكلُّ واحد منهما يحبُّ أنْ يُخطِّئ صاحبه، وهذا المراد من كلِّ واحد منهما خطأ عظيم، لا تُحمَد عواقبه ولا تحمده العلماء من العلماء؛ لأنَّ مرادَك أنْ يخطئ مناظرك خطأٌ منك، ومعصيةٌ عظيمة، ومراده أنْ تخطئ أنت خطأٌ منه ومعصية.

فإنْ قال قائل: فإنما نتناظَرُ لتخرج لنا الفائدة؟
قيل له: هذا كلامٌ ظاهر، وفي المناظرة غيره ولكن إنْ أردت وجه السلامة في المناظرة لطلب الفائدة، فإذا كنت أنت حجازيًّا والذي يناظرك عراقيًّا وبينكما مسألة، تقول أنت ويقول هو، فإنْ كنتما تريدان السلامة وطلب الفائدة، فقل له: رحمك الله، هذه المسألة قد اختَلَف فيها مَن تقدم من الشيوخ، فتعالَ حتى نتناظَرَ فيها مناصحةً لا مغالبة، فإنْ يكن الحق فيها معك، اتبعتُك، وتركتَ قولي، وإن يكن الحقُّ معي، اتبعتني وتركت قولك، لا أريد أنْ تخطئ ولا أغالبك، ولا تريد أن أخطئ ولا تغالبني، فإنْ جرى الأمر على هذا فهو حسن جميل، ولكن ما أعزَّ هذا في الناس.

أمَّا إذا كان كلُّ واحد يريد أنْ يخطِّئ صاحبه ولا يرجع عن مذهبه، فهما آثِمان بهذا المراد، وأعاذَ الله - تعالى - العلماء العقلاء عن مثل هذا المراد، فإذا لم تجرِ المناظرة على المناصحة فالسكوت أسلم.

المراء في القرآن:
أشدُّ المراء خطرًا المراءُ في القرآن، وقال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : ((مِراءٌ في القرآن كفرٌ))[2].

وقد سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- صوت رجُلين اختَلفَا في آيةٍ من القرآن، فخرج عليهما يُعرَف في وجهه الغضب، فقال: ((إنما هلك مَن كان قبلكم باختلافهم في الكتاب))[3].

وحينما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قومًا يتدارَؤُون في القُرآن، قال لهم: ((إنما هلك مَن كان قبلكم بهذا؛ ضربوا كتاب الله - عزَّ وجلَّ - بعضه ببعض، وإنما كتاب الله يُصدِّق بعضه بعضًا، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا به، وما جهلتم فكِلُوه إلى عالمه))[4].

كما قال - صلى الله عليه وسلم- : ((دعوا المراء في القُرآن؛ فإنَّ الأمم قبلكم لم يُلعَنوا حتى اختلفوا في القُرآن، وإنَّ مراءً في القُرآن كفرٌ))[5].

والمراء الذي هو كفرٌ يتلخَّص في:
إنَّ هذا القُرآن نزل على سبعة أحرُف؛ ومعناها: على سبع لُغات، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يُلقِّن كلَّ قبيلة من العرب القُرآن على حسب ما يحتمل من لغتهم؛ تخفيفًا من الله - عزَّ وجلَّ - ورحمةً بأمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم- فكانوا ربما إذا التقوا يقول بعضهم لبعض: ليس هكذا القُرآن، وليس هكذا علَّمَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ويعيب بعضهم قراءةَ بعض، فنُهُوا عن هذا وقيل لهم: اقرؤوا كما علمتم، ولا يجحد بعضُكم قراءةَ بعض، واحذَرُوا الجدال والمِراء فيما قد تعلَّمتم.

والدليل على ذلك ما رواه عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قلت لرجلٍ: أَقرِئني من الأحقاف ثلاثين آية، فأقرَأَنِي خِلافَ ما أقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وقلت لآخَر: أَقرِئني ثلاثين آية من الأحقاف، فأقرأني خلاف ما أقرأني الأوَّل، فأتيتُ بهما النبيَّ - صلى الله عليه وسلم- فغضب، وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - جالسٌ عنده، فقال علي - رضِي الله عنه -: قال - عليه الصلاة والسلام - لكم: ((اقرَؤُوا كما علمتم))[6].

وجاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم- آخِذًا بثَوْبِ هشام بن حكيم بعد أنْ سمعه يقرأ في الصلاة سورةَ الفرقان على خِلاف ما يقرَؤُها، وقصَّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ذلك، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((اقرأ))، فقرأ القراءة التي سمعها منه عمر - رضِي الله عنه - فقال - صلواتُ الله وسلامُه عليه -: ((هكذا أُنزِلتْ، إنَّ هذا القُرآن نزَل على سبعة أحرُف، فاقرَؤُوا ما تيسَّر منه))[7].

وأهل الأهواء كما يرى أهل العلم هم أهل ضَلالة، ومصيرهم إلى النار، وصاحب البدعة عندهم لا تُقبَل له صلاةٌ ولا صيامٌ، ولا حجٌّ ولا عمرةٌ، ولا جهادٌ، ولا صرفٌ ولا عدلٌ، وما ابتدع الرجل بدعةً عندهم إلا استحلَّ السيف؛ ولهذا فإنما يُشدِّدون على ترْك الجدال والمراء وخاصَّة في القرآن، الذي لا يقول إنسانٌ فيه برأيه ولا يفسره إلاَّ بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم- أو أحدٌ من صَحابته - رضي الله عنهم - أو عن أحدٍ من التابعين - رحمة الله عليهم - أو عن إمامٍ من أئمَّة المسلمين، ولا يماري ولا يجادل.

فالمؤمن لا يُدارِي ولا يُمارِي، يَنشُر حكمة الله - عزَّ وجلَّ - فإنْ قُبِلتْ حمد الله - عزَّ وجلَّ - وإنْ رُدَّت حمد الله - عزَّ وجلَّ.

وقال عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه -: تعلَّموا العلم، وتعلموا للعلم السكينة والحِلم، وتواضعوا لِمَن تتعلَّمون منه وليتواضَع لكم من تُعلِّمونه، ولا تكونوا جبابرةَ العلماء، فلا يقوم عِلمُكم بجَهلِكم.

وصلَّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.



[1] انظر: تخريج الآجري للحديث ص54-55.
[2] انظر: تخريج الآجري للحديث ص 67.
[3] انظر: تخريج الآجري للحديث ص 67.
[4] انظر: تخريج الآجري للحديث ص 68.
[5] انظر: تخريج الآجري للحديث ص 68.
[6] انظر: تخريج الآجري للحديث ص 69.
[7] انظر: تخريج الآجري للحديث ص 70.

شبكة الألوكة

 تم النشر يوم  الخميس، 3 يناير 2013 ' الساعة  12:49 م


 
Toggle Footer