الجمعة، 23 أكتوبر 2015


خيرة الله([1])
د. عمر بن عبد الله المقبل 

إن الحمد لله... أما بعد:

فيقول ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ: نزلتْ فيّ شدة، وأكثرتُ من الدعاء أطلب الفرج والراحة، وتأخرت الإجابة؛ فانزعجت النفسُ، وقلقت! فصحتُ بها: ويْلكِ! تأملي أمرَك! أمملوكةٌ أنت أم حُرّة مالكة؟! أمدبِّرةٌ أنت أم مُدبَّرة؟! أما علمتِ أن الدنيا دار ابتلاءٍ واختبار؛ فإذا طلبت أغراضكِ، ولم تصبري على ما ينافي مرادكِ؛ فأين الابتلاءُ؟! وهل الابتلاء إلا عكس مقاصد النفس! فافهمي معنى التكليف، فلما تدبرتْ ما قلتُه؛ سكنتْ بعضَ السكون!

ثم قلتُ لنفسي: أنتِ نفسٌ مملوكة، والمملوكُ العاقلُ يطالب نفسَه بأداء حق المالك، ويعلم أنه لا يجب على المالك تبليغه ما يهوى؛ فسكنتْ أكثرَ من ذلك السكون! فقلت لها: يا نفسُ! لقد استبطأتِ الإجابة، وأنتِ سددتِ طرُقَها بالمعاصي، فلو قد فتحتِ الطريق؛ أسرعتْ! كأنكِ ما علمتِ أن سبب الراحة التقوى! أو ما سمعت قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ﴾[الطلاق: 2-3]، ﴿يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾[الطلاق: 4]؟! أو ما فهمت أن العكس بالعكس؟! فعرفتْ النفسُ أن هذا حقٌ؛ فاطمأنتْ نفسي.

ثم قلتُ لها: يا نفسُ! أنتِ تطلبين ما لا تعلمين عاقبتَه، وربما كان فيه ضررك، فمَثَلُك كمثل طفلٍ بريء يَطلب الحلوى، والمدبِّر لك أعلم بالمصالح، كيف وقد قال الله: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾[البقرة: 216]! فلما بان الصوابُ للنفس في هذه الإجابة؛ زادت طمأنينتُها([2]).

بهذه الخواطر يتحدثُ هذا العالم الكبير ـ رحمه الله ـ عن سرٍ مِن أسرار الطمأنينة التي يجدها المؤمنونَ مع أقدار الله المؤلمة للنفس، وهم يُدركون ويردِّدون بلسانِ الحال والمقال: خِيرة الله خيرٌ مِن خيرتنا لأنفسنا.. وكم تطلبُ أنفسنُا شيئاً وفيها عطبُها مِن حيث لا تشعر!

إن القرآن الكريم ـ يا عباد الله ـ يؤسس في النفسِ البشرية هذه الحقيقةَ من خلال ترسيخها عند مقام التكليف ببعض الأحكام الشرعية، أو تقرير بعض الأمور القدَرية؛ ليزداد يقينُ العبد ـ الذي لن يذوق حلاوةَ الرضا بالله ربًا حتى يعلم ـ أن خِيرة الله خيرٌ من خيرته لنفسه.

تأملوا ـ أيها الإخوة ـ ماذا قال اللهُ حين فرَضَ الجهاد، الذي فيه غربةٌ عن الأوطان غالباً، وذهابٌ للأنفس، وإزهاق للأرواح: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 216].

ولما قرّر القرآنُ شيئاً من أحكام مفارقة الزوج لزوجته، قال الله مطمئناً الزوجين على تقبّل هذا القدَر الذي قد تكرهه بعضُ النفوس: ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾[سورة النساء: 19].

إن أحدَنا ـ يا عباد الله ـ قد يقع له شيءٌ من الأقدار المؤلمة، التي تكرهها نفسُه، فربما جزع، أو أصابه الحزن، وظن أن ذلك المقدور هو الضربة القاضية على آماله وحياته، فإذا بذلك المقدور يصبح خيراً على الإنسان من حيث لا يدري.

والعكس صحيح: كم مِن إنسانٍ سعى في شيءٍ ظاهرُه خيرٌ، واستمات في سبيل الحصول عليه، وبذل الغالي والنفيس من أجل الوصول إليه؛ فإذا بالأمر يأتي على عكس ما يريد! هذا هو معنى القاعدة القرآنية التي تضمنتها هذه الآية باختصار.

إذن: فنحن أمام آياتٍ متنوعة، تناولت أحوالاً شتى: دينية ودنيوية، وبدنية ونفسية، وهي أحوال لا يكاد ينفك عنها أحدٌ في هذه الحياة الدنيا التي:

جُبلت على كدَرٍ وأنت تريدها *** صفوا من الأقذاء والأقذار

وقول الله أبلغ: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾(سورة البلد:4).

إذا تبين هذا -يا عباد الله- فليُعْلم أن العيش مع هذه الآيات وأمثالها من أعظم ما يملأ القلبَ طمأنينةً وراحةً، ومِن أهم أسباب دفع القلقِ الذي عصف بحياةِ كثيرٍ من الناس؛ بسبب موقف من المواقف، أو بسبب قدَرٍ من الأقدار المؤلمة -في الظاهر- جرى عليه في يوم من الأيام!

ولو قلّبنا قَصصَ القرآن، وصفحاتِ التاريخ، أو نظرنا في الواقع؛ لوجدنا من ذلك عِبَراً وشواهدَ كثيرة، لعلنا نُذَكِّر ببعض منها؛ عسى أن يكون في ذلك سلوةً لكل محزون، وعبرةً لكل مهموم:

1 - قصة إلقاء أم موسى لولدها في البحر! فإذا تأمل القارئُ لهذه القصة وجدَ أنه لا أكْرَه لأم موسى مِن وقوع ابنها بيد آل فرعون، ومع ذلك ظهرتْ عواقبُه الحميدةُ، وآثارُه الطيبةُ في مستقبل الأيام، وصدق ربُّنا: ﴿وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾.

2 - وفي قصة الغلام الذي قتله الخضر بأمر الله تعالى؛ فإنه علّل قتْلَه بقوله: ﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا﴾[سورة الكهف:80،81]، توقَّفْ أيها المؤمن! كم مِن إنسانٍ لم يقدِّر الله تعالى أن يرزقه بالولد؛ فضاق لذلك صدرُه؟! -وهذا شيء طبْعي- لكن الذي لا ينبغي أن يستمر: هو الحزنُ الدائم، والشعورُ بالحرمان الذي يقضي على بقية مشاريعه في الحياة!

وليت من حُرِم نعمةَ الولد يتأمل هذه الآية، ليس ليذهب حزنُه فقط؛ بل ليطمئن قلبُه وينشرح صدرُه، وليته ينظر إلى هذا القَدَر بمنظار النعمة والرحمة، وأن الله تعالى قد يكون صرَفَ هذه النعمةَ رحمةً به! وما يدريه؟ لعله إذا رُزق بولدٍ أن يكون هذا الولد سبباً في شقاء والديه وتعاستهما، وتنغيص عيشهما! أو تشويه سمعتهما.

3 - وفي السُنة النبوية نجد هذا لما مات زوجُ أم سلمة: أبو سلمة رضي الله عنهما، تقول أم سلمة رضي الله عنها: سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلم تصيبه مصيبةٌ فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها؛ إلا أخلف الله له خيراً منها"، قالت: فلما مات أبو سلمة، قلت: أيّ المسلمين خير من أبي سلمة؟ أول بيتٍ هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم! ثم إني قلتها؛ فأخلف الله لي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم!([3])

فتأمل هذا الشعورَ الذي انتاب أم سلمة -وهو بلا شك ينتاب بعضَ النساء اللاتي يُبتَلينَ بفقد أزواجهن، ويتعرض لهن الخُطّاب- ولسان حالهن: ومَن خير من أبي فلان؟! فلما فعلتْ أمُّ سلمة ما أمرها الشرعُ به: من الصبر والاسترجاع، وقول المأثور؛ أعقبها اللهُ خيراً لم تكن تحلم به.

وهكذا المؤمنة.. يجب عليها أن لا تختصر سعادتها، أو تحصرها في بابٍ واحد من أبواب الحياة، نعم.. الحزنُ العارضُ هذا شيء لم يَسلَم منه حتى الأنبياءُ والمرسلون! إنما الذي لا ينبغي: هو اختصارُ الحياة أو السعادة في شيء واحد، أو رجل، أو امرأة، أو شيخٍ!

4 - وفي الواقع قصص كثيرة جداً، أذكر منها: أن رجلاً قَدِم إلى المطار، وكان مُجهَداً بعض الشيء، فأخذته نومةٌ ترتّب عليها أن أقلعت الطائرةُ، وفيها ركابٌ كثيرون يزيدون على ثلاثمائة راكب، فلما أفاق، وإذا بالطائرة قد أقلعت قبل قليل، وفاتته الرحلة! فضاق صدرُه، وندم ندماً شديداً، ولم تمض دقائقُ على هذه الحال التي هو عليها حتى أُعلن عن سقوط تلك الطائرة، واحتراق مَن فيها بالكامل!

والسؤال: ألم يكن فواتُ الرحلة خيراً لهذا الرجل؟! ولكن أين المعتبرون والمتعظون؟ والخلاصة: أن المؤمنَ عليه:

أن يسعى إلى الخير جَهده *** وليس عليه أن تتم المقاصدُ

 وأن يتوكل على الله، ويبذل ما يستطيع من الأسباب المشروعة، فإذا وقع شيءٌ على خلاف ما يحب؛ فليتذكر هذه القاعدة القرآنية العظيمة: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.

وليتذكر أن من لطف الله بعباده: "أنه يُقدِّر عليهم أنواعَ المصائب، وضروبَ المحن والابتلاء بالأمر والنهي الشاق؛ رحمةً بهم ولطفاً، وسَوقاً إلى كمالهم، وكمال نعيمهم"([4]).

ومِن ألطاف الله العظيمة: أنه لم يجعل حياةَ الناس وسعادتهم مرتبطةً ارتباطاً تاماً إلا به سبحانه وتعالى، وبقية الأشياء يمكن تعويضها، أو تعويض بعضها:

من كل شيء إذا ضيعته عِوضٌ *** وما من الله إن ضيعتهُ عوضُ

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة....



الخطبة الثانية

الحمد لله ....، أما بعد:

ففي هذه الأيام يَكثر خروجُ الناس إلى البريّة، والنـزهة في الخلاء، وهنا على العبد أن يراعي في خروجه أموراً، منها:

-  التفقه: بالقراءة أو بالسؤال عن الأحوال التي تَعرِض للإنسان في مثل هذه الأحوال؛ كمعرفة أحكام استقبال القبلة، ومتى يحل القصر مِن عَدَمه، ومتى يجوز له التيمم، ومتى وكيف يمسح على الخفين، وغير ذلك من الأحكام التي تتكرر غالباً.

-  النظافة: فعلى مَن جلس في مكانٍ أن يعتني بنظافته ما استطاع، وعدم أذية المسلمين في طرقاتهم التي يطرقونها أو يستظلون بها أو يأوون إليها، فقد ثبت في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا اللعانَين» قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال: «الذي يتخلى في طريق الناس، أو في ظلهم»([5])، وعلى رَبّ الأسرة أن يُربي مَن تحته على هذه الآداب الإسلامية، وأن تكون ثقافةً لدى أفرادِ أسرته.

-  حفظ حقوق الغير: فإنّ تعمُّد إتلاف ما يكون في المخيمات المستأجرة؛ فهذا محرّم، حتى ولو عوّض عن ذلك صاحب المخيَّم، فإن إتلاف المال لا يجوز من حيث الأصل.

-  أترك أثَرًا طيبًا: فعلى المرء أن يجتهد أن تشهد له الأرضون -التي يمكث بها أو يخرج إليها- بالخير: من صلاة، وذِكر، ومباح، وليحذر أن تأتي هذه البقاع يوم القيامة شاهدة عليه بأنه عصى الله عليها: ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾[الزلزلة: 4-8].

اللهم ارزقنا الرضا بك وعنك، وارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة.
---------------------------

([1]) ألقيت في 26/3/ 1436هـ.

([2]) صيد الخاطر (ص: 220) بتصرف.

([3]) مسلم ح(918).

([4]) تفسير أسماء الله الحسنى(74) للسعدي.

([5])  مسلم ح(269).
 تم النشر يوم  الجمعة، 23 أكتوبر 2015 ' الساعة  2:02 م


 
Toggle Footer