الأحد، 8 نوفمبر 2015

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين..
 
أما بعد:
فإن المساجد بيوت الله -جل وعلا-، وخير بقاع الأرض، وأحب البلاد إليه سبحانه وتعالى، وقد أضافها إلى نفسه تشريفاً لها وتكريماً، فقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} سورة الجن (18).
في تلك البقاع المفضلة تؤدى أفرض فرائض الله، بل أهم ركن من أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي فريضة الصلاة، وفيها يعلم الجاهل، ويذكر الغافل، ويرشد الحيران، ويعان المحتاج.
من تلك البقاع المباركة تخرج العلماء والفقهاء، والقادة والعظماء، والعباد والزهاد، وفيها رفعت الأيدي لرب الأرض والسماء، وعفرت الجباه لذي العزة والكبرياء، وفي مدحها وفضل بنائها، جاءت أحاديث سيد ولد عدنان، وتنافس الخطباء والوعاظ والشعراء في أيهما يحوز على قصب السبق في وصفها، ووصف عامريها بالذكر والدعاء، والتعليم والخشوع والبكاء، فهذا أحد الشعراء يصف من يرتادها ويحن إليها كلما سمع النداء فيقول: 
 
لابد من صنع الرجال *** ومثله صنع السلاح
وصناعة الأبطال علم *** قد دراه أولو الفلاح
لا يصنع الأبطال إلا *** في مساجدنا الفساح
في روضة القرآن في *** ظل الأحاديث الصحاح
من خان حي على الصلاة *** يخون حي على الكفاح
 
بتلك البيوت تعلقت قلوب المحبين لله، وانقطعت إلى ملازمتها لإظهار ذكره فيها، فالملازمين لها رجال: {لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} سورة النور(36-38).
وسنقف مع حديث من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا المعنى.
 
نص الحديث:
عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها) رواه مسلم.
 
شرح الحديث:
قوله: (أحب البلاد إلى الله مساجدها)؛ لأنها بيوت الطاعات، وأساسها على التقوى..
ففي المساجد يعبد الله ويوحد، ويثنى عليه ويمجد ويحمد، وفيها يركع له ويسجد، وفيها يذكر الله ويقرأ القرآن، وفيها تقام الصلوات، ومجالس العلم والتعلم، فيذكر الناسي، ويعلم الجاهل، ويرشد الحيران، وما إلى ذلك من الأمور التي من أجلها بنيت المساجد.. فلذلك كانت أحب البلاد إلى الله.
 
قوله: (وأبغض البلاد إلى الله أسواقها)؛ لأنها محل الغش والخداع والربا والأيمان الكاذبة وإخلاف الوعد والإعراض عن ذكر الله وغير ذلك مما في معناه.
 
ففي الأسواق النصب والاحتيال والسرقة، والغش والمكر والخديعة، والحلف الكاذب، وفيها معصية الرحمن، وسماع مزامير الشيطان، وفيها يباع ما حرم الله من خمر وسجائر ومخدرات، وفيها مزاحمة الرجال للنساء، والتبرج والسفور، وخلوة المرأة بالبائعين، بل وفيها الشيطان حيث ينصب رايته فيها، فيسول الشر ويزينه ويحسنه، ويكره الخير ويبغضه إلى قلوب الناس، فتلك وظيفته: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} سورة ص(82) (83).
وأخرج مسلم في صحيحه عن سلمان الفارسي –رضي  الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، فإنها معركة الشيطان، وبها ينصب رايته). 
 
قال القرطبي -رحمه الله-: "لما كثر الباطل في الأسواق وظهرت فيها المناكر: كره دخولها لأرباب الفضل والمقتدى بهم في الدين تنزيها لهم عن البقاع التي يعصى الله فيها، فحق على من ابتلاه الله بالسوق أن يخطر بباله أنه قد دخل الشيطان ومحل جنوده، وأنه إن أقام هناك هلك، ومن كانت هذه حاله اقتصر منه على قدر ضرورته وتحرز من سوء عاقبته وبليته".
 
فينبغي التقليل من دخول الأسواق التي فيها منكرات، وإن اضطر الإنسان إلى دخولها فليدخلها وهو متأدب بآداب السوق: من الدعاء، وغض البصر، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما إلى ذلك من الآداب الإسلامية.
 
ذلك أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قد شبه السوق بساحة معركة بين الشيطان وبين بني آدم، قال القرطبي -رحمه الله-: "تشبيه النبي -صلى الله عليه وسلم- السوق بالمعركة تشبيه حسن، وذلك أن المعركة موضع القتال سمي بذلك لتعارك الأبطال فيه ومصارعة بعضهم بعضا فشبه السوق وفعل الشيطان بها ونيله منهم مما يحملهم من المكر والخديعة والتساهل في البيوع الفاسدة والكذب والأيمان الكاذبة واختلاط الأصوات وغير ذلك بمعركة الحرب ومن يصرع فيها"1..
 
فلذلك كانت الأسواق من أبغض البقاع إلى الله، فينبغي أن تكون الأسواق من أبغض البقاع إلى عباد الله الذين يحبون الله، فإن من أحب شيئاً أحب ما يحبه، وكره ما يكرهه.
 
بعض النصوص في فضل بناء المساجد:
لقد جاءت نصوص كثيرة في فضل بنائها وعمارتها، فمن ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} سورة التوبة(18). والعمارة تشمل العمارة المعنوية والعمارة الحسية..
وجاء في الحديث عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة)2. وفي رواية: (بنى الله له مثله في الجنة).
وروى البزار واللفظ له والطبراني في الصغير وابن حبان في صحيحه عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول -صلى الله عليه وسلم-: (من بنى لله مسجدا قدر مفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة)، ورواه ابن خُزيمة من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- ولفظه: (ومن بنى مسجدا كمفحص قطاة أو أصغر بنى الله له بيتا في الجنة). ومفحص القطاة هو عشها. والقطاة واحدة القطا طائر معروف من أنواع الحمام..
 
ماذا يعني التبرك بالمساجد؟:
يعني ذلك الصلاة فيها والاعتكاف وقراءة القرآن والقيام بأنواع العبادات المختلفة.
فالمساجد لها مزية عموماً، ولكن هناك أربعة مساجد لها مزيد من المزايا وهي: المسجد الحرام، ومسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والمسجد الأقصى، ومسجد قباء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام).
وعند الإمام أحمد بزيادة: (وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا). ولقوله -صلى الله عليه وسلم- كما في البخاري ومسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى). ولقوله صلى الله عليه وسلم: (من تطهر في بيته، ثم أتى مسجد قباء وصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة)3.
بل كل المساجد فيها الفضل والبركة، بما يمن الله فيها على عباده بمغفرة الذنوب، فقد جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة).
وقد جاء في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل قلبه معلق بالمساجد) متفق عليه.
والمجتمعين فيه لمدارسة كتاب الله تنزل عليهم السكينة، وتغشاهم الرحمة، وتحفهم الملائكة، ويذكرهم الله فيمن عنده؛ كما جاء بذلك الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة-رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحملتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)..
 
فعلينا جميعاً أن نكثر من البقاء في المساجد فإنها أحب البقاع والبلاد إلى لله، كما علينا أن نحذر من كثرة البقاء في الأسواق فإنها من أبغض البلاد إلى الله.
 
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
 

1 انظر: الجامع لأحكام القرآن(13/15) للقرطبي..
2 رواه البخاري ومسلم.
3 رواه أحمد والنسائي وابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، رقم(1160).
 تم النشر يوم  الأحد، 8 نوفمبر 2015 ' الساعة  12:50 م


 
Toggle Footer