الجمعة، 25 أبريل 2014

حرص الإسلام على سلامة الأمة ووحدتها

الشيخ طه محمد الساكت


لم يَحرص الإسلام على شيء حِرْصَهُ على سلامة الأمة ووحدتها، وشَدِّ بنيانها، واجتماع كلمتها؛ وهو لذلك يحذرها كلَّ الحذر، ويشفق عليها كل الإشفاق، مما يوهن أمرَهَا، أو يُضْعِفُ شأنها، أو يثلم هيبتها، أو يجرح كرامتها وعزتها، ومن تأمل قليلاً في قواعد الإسلام ودعائمه، وأصوله وفروعه، وأوامره ونواهيه، وحِكَمِه وأحكامه، وجد أسمى غاياته، وأجلَّ مقاصده: أن تكون أمته أجمع الأمم كلمةً، وأعظَمَها قوةً، وأرفعها مكانًا.

وحسْبُكَ أن تنظر إليه وقد دعا بمختلف الأساليب وأقواها، إلى الائتلاف والتَعاون والتحابِّ، حتى نفى الإيمان عمن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه[1]، ووعد المتحابين بأن لهم منابر من نور يوم القيامة[2]، وأن الله يُظِلُّهم في ظله يوم القيامة يوم لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ[3]، وأمر بالتواضع حتى لا يبغِيَ أحد على أحد[4]، وأذهب عن المؤمنين بَعْدَ أن بعث فيهم رسولاً من أنفسهم - عُبِّيَّةَ[5] الجاهلية، وفخرها بالآباء والأحساب، فكلهم بنو آدم، وآدم من تراب[6]، لا فضل لعربي على عجمي، ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى[7]؛ ورغَّب في إصلاح ذات البين، وقال: ((إِن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشَّعر، ولكن تحلق الدين))[8]! وشدد النكير على الفتن ما ظهر منها وما بطن، حتى لقد بلغ من نكيره على من أيقظ فتنة أو دعا إليها أنْ تبرَّأ منه حيًّا وميِّتًا، فقال: ((ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا مَن قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية))[9]، وقال: ((مَن حمل علينا السلاح، فليس منا))[10].

وهذه قصة تُبيِّنُ منهجَه - صلى الله عليه وسلم - في سياسة أمته، وحرصه البالغ على اتحادها وائتلافها، والحيلولة بينها وبين نزغات الشيطان، ونزوات الشهوة، ومُضِلاَّت الهوى.

روى أصحابُ السِّيَر والمغازي أن بني المصطلق اجتمعوا لحرب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فخرج إليهم حتى لَقِيَهم على ماء من أمواههم يقال له: المُرَيْسِيعُ، فهزم اللهُ تعالى بني المصطلق، وأمكن منهم، ولما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أمرهم، وردت واردة من الناس تستقي الماء، وتذود الخيل والإبل، فاشتد الزحام حتى اقتتل أجيرٌ لعمر بن الخطاب يدعى جَهجاه بن مسعود الغفاري، وحليفٌ لبني عوف يسمى: سنان بن مسعود الجُهَني، فصرخ الجُهَني: يا لَلْأَنصارِ! وصرخ الغفاري: يا لَلْمهاجرين! فثارت حمية ابنِ أُبَيٍّ رأسِ المنافقين، وعنده رَهْطٌ من قومه، وقال: أوَقَدْ فعلوها؟ نَافَرونا في ديارنا، وكَاثَرُونا في بلادنا، واللهِ ما مثَلُنا ومثَلُهُم إلا كما قال الأول: سمِّنْ كلبك يأكلْكَ! أمَا - والله - لئن رجعنا إلى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ! ثم أقبل على رهطه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما - والله - لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم، لتحولوا إلى غير بلادكم، فتنبَّهتِ الفتنة، وهاج هائجُ الشَرِّ، وبَلَغَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - الخبرُ[11] وكانت له معذرة دونها كلُّ معذرة في قتْل رأس النفاق، والشقاق، وسوء الأخلاق، ولا سيما بعد أن استأذنه الفاروق في قتله، ثم ابنه عبدالله - رضي الله عنه - لَمَّا قيل له خطأً: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يريد قتل أبيك![12]

لكنه - صلوات الله عليه وسلامه - وقد آتاه الله الحكمة، وبعثه لِيُتَمِّمَ مكارم الأخلاق، سلك ما هو حقيق به وبخير أمة أخرجت للناس، فنهى عن العصبية، وأخبر أنها خبيثة مُنْتِنَةٌ، لا تجلب إلا الوبال والنكال، وخُبْثَ الفعال، وأخبر عُمَرَ أنَّ قَتْلَ هذا الخبيث ليس من الخير للمسلمين، ولا للدعوة الإسلامية؛ فإن دعاة السوء سيُشِيعون أن محمدًا - وحاشاه - يقتل أصحابَهُ، لأن عبدالله بنَ أُبَيٍّ كان يُظْهِرُ الإسلام والصحبة، ويبطن النفاق والكفر! ثم ما أجْمَلَ أن يأمر - صلى الله عليه وسلم - ابنَه عبدَالله، وهو من خيرة صحابته، أن يرفق بأبيه ويُحسِنَ إليه، وقد هَمَّ بأن يحمل رأسه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حسمًا للفتنة، وسبقًا إلى الطاعة، وإيثارًا لمرضاة الله ورسوله على أقرب الناس إليه وَأَمَسِّهِمْ به[13]! ثم أمر - صلى الله عليه وسلم - بالرحيل في وقت لم يكن يرتحل فيه؛ ليشتغل كلٌّ بنفسه، ويلهوَ عما يُضرِم نار الحقد والخصام[14].

قصة اليهودي قيس بن شاس:
وقصة أخرى لا تَقِلُّ عن هذه شأنًا إِن لم تَزِد عليها، يرويها المفسرون، وأصحاب السِّيَر أيضًا، قالوا: مرَّ قيس بن شاس اليهودي بنفر من الأوس والخزرج، وهم في مجلس يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من أُلْفَتِهِمْ، وصلاح ذات البين بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، وكان شيخًا عظيم الكفر، شديد الضغينة على المسلمين، فقال: قد اجتمع ملأ بني قَيْلةَ[15] بهذه البلاد، والله ما لنا معهم إذًا من قرار! وأَمَرَ شابًّا يهوديًّا كان معه أن يُذَكِّرَهُمْ يومَ بُعاث[16] وينشدهم بعض ما كانوا يتقاولون فيه من أشعار، وكان يومًا اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظَّفَرُ فيه للأوس على بني عمهم؛ ففعل عدو الله فعلته، فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا حتى تواثبوا، وقالوا: السلاحَ السلاحَ! فبلغ ذلك رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين، وقال: يا معشر المسلمين، أَبِدَعْوَى الجاهليةِ وأنا بين أظْهُرِكُمْ، بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام، وقطع عنكم أمر الجاهلية، وألَّف بينكم؟ فألْقَوُا السلاحَ، وبكَوا، وعانق بعضهم بعضًا، وانصرفوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سامعين مطيعين؛ فأنزل الله - عز وجل -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [آل عمران: 101،100]، قال جابر: ما رأيت يومًا أقبح أولاً، وأحسن آخِرًا من ذلك اليوم[17].

هذا قليل من كثير من دعوته - صلوات الله وسلامه عليه - إلى الأُلْفة والوَحْدة، وجهاده في نبْذ الشقاق والفُرْقة، وحُسْن بلائه في لَمِّ الشعث وجمع الكلمة، فهل آن لأُمَّتِهِ، ولا سيما حَمَلَةِ شريعته، أن يَسْتَنُّوا بسنته، ويهتدوا بهديه؟ ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].


[1] روى البخاري (13)، ومسلم (45) عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)).
ورواه ابن حبان في "صحيحه" (235) ولفظه: ((لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه)).
[2] روى الترمذي (2390) عن معاذ - رضي الله عنه - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((قال الله - عز وجل -: المتحابون في جلالي، لهم منابرُ من نور، يغبطهم النبيون والشهداء))؛ وقال: حديث حسن صحيح.
[3] روى البخاري (660)، ومسلم (1031) وغيرهما عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله...))، وذكر فيه: ((ورجلان تحابا في الله، اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه)).
[4] روى مسلم (2865)، وأبو داود (4895)، وابن ماجه (4179) عن عياض بن حمار - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – : ((إن الله أوحى إليَّ: أن تواضعوا؛ حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحد)).
[5] بضم العين المهملة وكسرها، وتشديد الباء والياء: الكِبْر والفخر. وهذا وما بعده اقتباس من صحاح كتب السنة (طه).
[6] روى أبو داود (5116)، والترمذي (3955) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية، وفخرها بالآباء؛ إنما هو مؤمن تقي، وفاجرٌ شقيٌ، الناس بنو آدم، وآدم خُلِق من تراب)).
[7] أخرج أحمد في "المسند" 5: 158 (21407) عن أبي ذر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ((انظر؛ فإنك ليس بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى))؛ تفرَّد به أحمد، وهو صحيح لغيره.
وروى أحمد أيضًا 4: 145 ( 17313) عن عقبة بن عامر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ليس على أحد فضل إلا بالدين، أو عمل صالح))؛ وإسناده حسن.
[8] أخرجه أبو داود (4919)، والترمذي (2511).
[9] هي المدافعة عن العشيرة ظلمًا وعدوانًا، والحديث رواه أبو داود (5121) عن جبير بن مطعم.
[10] رواه البخاري (6874)، (7071)، ومسلم (98)، (100) عن أبي موسى وابن عمر - رضي الله عنهم.
[11] بلَّغه زيد بن الأرقم. وانظر قصته، وتصديق الله له في صحيح البخاري (4900) (4901) (4902) في تفسير سورة (المنافقين)، ومسلم (2772) في أول صفات المنافقين.
[12] موقف عبدالله بن أُبَيٍّ من أبيه رواه الطبراني من طريق عروة بن الزبير، وقال الهيثمي في "المجمع" 9: 318: رجاله رجال الصحيح.
[13] روى البزار من حديث أبي هريرة قال: مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعبدالله بن أُبَيٍّ، وهو في ظلِّ أُطُم - أي: بناء مرتفع - فقال: غَبَّر علينا ابن أبي كبشة - يعني بذلك رسول الله - فقال له ابنه عبدالله بن عبدالله: يا رسول الله، والذي أكرمك لئن شئتَ لآتينَّكَ برأسه، فقال: ((لا، ولكنْ برَّ أباك، وأحسِنْ صُحْبَتَهُ))؛ قال الهيثمي في "المَجْمَع" 9: 318: رواه البزار، ورجاله ثقات.
[14] معالجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للفتنة التي أثارها المنافقون في هذه الغزوة رواها ابن هشام في السيرة 2: 290-292، والحديث رجاله ثقات، ولكنه مرسل.
[15] أُمُّ الأوس والخزرج، وهما في الأصل أبناء عم (طه).
[16] بالعين والغين: كغراب، ويثلث، موضع بقرب المدينة؛ "القاموس".
[17] أخرجه ابن جرير الطبري في "التفسير" 5: 632، وعبدالرزاق في "التفسير" 1: 173، وزاد السيوطي في "الدر" 2: 103 عزوه لابن أبي حاتم بإسناد صحيح، إلا أنه مرسل.

موقع شبكة الألوكة
 تم النشر يوم  الجمعة، 25 أبريل 2014 ' الساعة  2:11 م


 
Toggle Footer