الأحد، 4 مايو 2014

من تشبه بقوم فهو منهم

الشيخ محمد حامد الفقي

الشبيه: المثيل والمشابهة المماثلة، واشتبه هذا بهذا؛ أي: صار مثله، وتشبه فلان بفلان؛ أي: اجتهد وحاول أن يجمع من الصفات والأحوال ما يكون به مماثلا له وعلى صورته. وللإنسان صورتان: صورة ظاهرة حسية، وصورة باطنة معنوية، والتشابه يقع في كل منهما.

والدليل على ذلك قول الله تعالى ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ فقول الذين لا يعلمون: لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية، صفة ظاهرة حسية شابهوا فيها وماثلوا الذين من قبلهم. والذي أوجب لهم هذا التشابه الحسي الظاهر هو ما في قلوبهم من التشابه المعنوي، في أن كلا من الأولين والآخرين قلبه جاحد قاس مظلم، بعيد عن الهدي والنور، فاسق عن أمر ربه، غير موقن بالله وآياته.

فلكل من التشابهين ارتباط بالآخر، واتصال به وثيق، ولكل منهما أثر في حصول الآخر ووجوده، وإن كان المعنوي أشد تأثيرا في إيجاد الظاهري وتحقيقه، والظاهري قد لا يكون إلا أمارة على المعنوي ودليلا.

والقاعدة التي لا تكاد تنخرم أو تشذ: أن الإنسان حيوان مقلد؛ أي أنه شديد الانفعال والتأثر والانصباغ بما حوله وما يحيط به من البيئة المادية الحسية، والأدبية المعنوية. ومن هنا نفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم "مثل الجليس الصالح كالعطار، ومثل الجليس السوء كالحداد" وقوله في حديث الذي قتل مائة وسأل عالما هل له من توبة؟ فدله على التوبة وشرط عليه أن يهاجر من بلده - بلد الفاسقين - إلى بلد أخرى - هي بلد أهل التقوى وأهل الرحمة. وغير ذلك من الأحاديث التي تبين مقدار ما للوسط والبيئة من أثر في التشابه والتماثل الحسي والمعنوي.

وكثيرا ما يكون للتشابه الظاهري أثر في إيجاد التشابه المعنوي. فأنت تجد في نفسك أنساً وميلا وانجذابا إلى جليسك الذي لم يسبق لك به معرفة إذا كان مشابها لك في اللباس، واللغة، والجنس، ويزداد ذلك إذا علمت أنه يشابهك في الاسم والحرفة وعلى عكس ذلك تجد انقباضاً ووحشة أو نفوراً من جليسك الذي يخالفك في كل ما تقدم فإن ذلك الشبه الصوري حين وقع عليه بصرك انطبع في نفسك الباطنة فولّد عندك تجانساً معنويا روحياً انبعث عنه هذا الأنس والميل والانجذاب، كما قيل: شبيه الشيء منجذب إليه، وكما قيل إن الطيور على أشكالها تقع، وهذا أمر محسوس واضح.

إذا عرفت هذا علمت السر في أن الله سبحانه وتعالى حذر أشد التحذير من موافقة اليهود والنصارى وغيرهم من كل خارج عن طاعة الله؛ فاسق عن أمره، وأمر آكد الأمر بمخالفتهم ومباينتهم كل المخالفة وأشد المباينة؛ وأن نتأسى ونقتدي بعباده الصالحين، وأن نتشبه بهم في ظواهر أحوالهم الصالحة وأخلاقهم الكريمة ليثمر لنا هذا اصطباغ قلوبنا ونفوسنا بتلك الصورة الصالحة، فنكون من المهتدين المفلحين.

أمرنا الله وعلمنا أن نكرر في اليوم والليلة مراراً أن نستهديه صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؛ وأن يباعدنا عن طريق المغضوب عليهم والضالين.

وقال تعالى ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ وقال ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ * هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾.

وجلَّى الله للمؤمنين في كتابه الكريم عن أحوال وصفات وأعمال وأخلاق أولئك المغضوب عليهم والضالين بما يملأ النفوس العاقلة والقلوب السليمة مقتاً لهم، وحنقاً وغيظا عليهم، وكراهية ونفوراً لتلك الأخلاق والأعمال والصفات البالغة في القبح والشناعة أقصى حد، حتى يقطع على الشيطان سبيل الوسوسة والإغواء بمشاركتهم والتشبه بهم في هذه الذمائم والقبائح. وزاد التنفير منهم تأكيداً بما قص علينا من عاقبة أمرهم وما أوقع الله بهم من النكال والعذاب في الدنيا على أيدي بعض عباده؛ وبما أرسل عليهم من آيات السماء والأرض من خسف ومسخ، وإحراق وإغراق.

وإنك لتجد هذه المقاصد في القرآن الكريم واضحة أشد الوضوح، بارزة أشد البروز من كثرة ما اعتنى الله بها، وكرر القول فيها على صور مختلف؛ وبأساليب متعددة وكذلك اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم سبيل القرآن وطريقته في التحذير من ذلك؛ والتنفير من التشبه بالمغضوب عليهم والضالين في أعمالهم وأقوالهم، وصفاتهم وعباداتهم وأحوالهم وقفّى الخلفاء الراشدون وبقية الصحابة على آثار الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك. وكل ذلك لما علم الله من شدة تأثير الأسوة؛ ومن كثير ما يجر التشبه بأهل الشر والفساد والغضب والضلال من عصيان ومخالفة وفسوق. وأن ذلك من أوسع أبواب الشيطان دخولا إلى قلب المؤمن؛ ومن أيسرها على نفسه لما يدعو إليه من موافقة الطبع والغريزة في حب التقليد، وداعي التمازج والتشابه.

وكشف الله تعالى لنا ورسوله صلى الله عليه وسلم عن خفايا ما تكنه قلوب هؤلاء المغضوب عليهم والضالين من الحسد والبغي، ومحاولة إرجاعنا عن ديننا، وردنا إلى الكفر بعد إذا هدانا الله للإيمان، جهد طاقتهم وقدر استطاعتهم ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾.

ولكن مع كل هذه المعاقل والحصون التي أقامها الله ورسوله من حول المسلمين؛ وهذا السياج الذي أحاطهم من هذه التحذيرات؛ غلبهم أهل الغضب والضلال وغيرهم على أمرهم، وحق عليهم قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه".

وما زال أهل الغضب والضلال يزينون للمسلمين أسباب ضلالهم وغضب الله عليهم ويعرضونها عليهم في ألوان مختلفة، ويحلونها بزخارف شتى حتى راجت عن المسلمين؛ وأخذوا يتشبهون بهم شيئاً فشيئاً؛ ويقتبسون من بعض أحوالهم وأخلاقهم وصفاتهم التي قبحها الله، وشنع عليها، ويروج ذلك على الناس حتى عم الشر وطمّ البلاء وأصبحت لا ترى في أغلب البلدان الإسلامية، والجماعات الإسلامية، إلا النزر القليل من الصفات والأعمال والأحوال والعبادات والطاعات التي أحبها الله ووفق لها رسوله صلى الله عليه وسلم وصحابته البررة الأخيار.

وأكثر ما تجد أولئك المسلمين حريصين عليه متفانين فيه، مفتونين به أشد الفتنة في أصله وصورته، أو في صورته من أعمال المغضوب عليهم والضالين، وقل أن تجد شيئا من ذلك إلا وفي القرآن والسنة النص الواضح والبيان الشافي في النهي عنه والتحذير منه.

ولكن غلب على الناس اليوم جاهلية – هي فيما أعتقد لا تقل عن الجاهلية الأولى، إن لم تكن شراً منها – أضاعت الرشد، وأذهبت اللب والعقل، وردت الناس إلى سفه مستحكم وهوى متأصل؛ وظن سيء بالله وكتابه ورسوله وسنته، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وأنا بادئ الآن بالقول في التشبه بالمغضوب عليهم والضالين في أعيادهم الشركية وأعيادهم القومية، ومواسمهم الجاهلية؛ وذكرياتهم الوثنية، فإنها قد راجت عند المسلمين اليوم أعظم الرواج، حتى لم يسلم منها عامي ولا منتسب إلى العلم، وظنوا أنها لا تضرهم في دينهم شيئا، ولا توجب لهم عند الله غضباً وسخطا ومقتا، وخاب ظنهم؛ فلو أنهم كانوا يعقلون؛ أو يفقهون الإسلام على حقيقته، وأن قلوبهم امتزجت بها حلاوة الإيمان وحب الله ورسوله على علم وهدى ونور، لأحست الألم أشد الألم، والشقاء أعظم الشقاء من تلك الأعياد والمواسم والذكريات؛ ولكن ما لجرح بميت إيلام؛ وطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون.

الإسلام دين روحاني وجسماني، ودنيوي وأخروي، دين فرد ودين جماعة، ودين دولة ودين اجتماع، وكتابه نزله الله تبيانا لكل شيء، ورسوله خاتم المرسلين، وإمام المهتدين ما ترك من شيء يصلح شئون حياتنا الأولى أو يكفل لنا سعادة الأخرى إلا وبينه أوضح البيان، ودعا إليه أشد الدعوة وأبلغها، وما ترك شيئاً إلا لأننا في غنى عنه، ولأن الانشغال به يضرنا ولا ينفعنا ويفسدنا ولا يصلحنا. هذا ما لا نشك فيه طرفة عين ولا أقل، فما للناس يولون وجوههم شطر المغضوب عليهم والضالين ينشدون لديهم أسباب الراحة؛ والسرور والنعيم، ورغد العيش في الدنيا والآخرة؟ مع أنهم يزعمون أنهم يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

الذي ولى وجوههم شطر هؤلاء يقلدونهم، ويتشبهون بهم، أنهم نظروا إلى الإسلام، وإلى نبي الإسلام، وإلى القرآن الكريم نظرة عوراء؛ بل نظرة سوداء من كثرة ما غشيها من الجهل والهوى والشهوات، فبان لهم من وراء هذه النظرة على غير حقيقته وفي غير صورته، ونظروا إلى المغضوب عليهم والضالين نظر الرضا والسرور، والإجلال والإعظام لما بيدهم من دنيا وما عندهم من ملاذ، وبما زخرفوا أحوالهم من بهرج فرأوا ذلك عظيما، ووقع من نفوسهم موقع الإعجاب والاستحسان، فبعثهم على التقليد والتشبيه، ثم أخذوا يعللون أنفسهم بالمعاذير الباطلة والأوهام الفاسدة، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون.

الذي لا يشك فيه من عنده ذرة من بصيرة وهدى أن تلك الأعياد التي هي ولا بد مصبوغة بصبغة الدين، مهما حاولوا إخفاءها - الذي لا شك فيه أنها لا تروج إلا عند من انغرس في قلبه حب عميق لأهل هذه الأعياد وأن هذا الحب هو الذي حسن للظاهر التشبه فيها وتقليد أهلها في الاحتفال بها وتعظيمها، لأن كل آثار الظاهر إنما تصدر عن سلطان القلب وتأثيره "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد وإذا فسدت فسد الجسد ألا وهي القلب".

غير أن أكثر الناس لكثرة غفلته وعظيم جهله بالإسلام وبمرض نفسه لا يميز بين البهرج والحقيقة، ولا بين الزيف والصحيح؛ وزين لهم الشيطان الأعياد الجاهلية الشركية باسم الموالد، وباسم المواسم؛ وبأسماء أخرى ما أنزل الله بها من سلطان.

وهذا عيد شم النسم من تلك الأعياد التي فتنت المسلمين أشد الفتنة؛ وعظم بها البلاء أشد البلية؛ حتى أنهم ليعظمونه ويحتفلون به أعظم من احتفالهم؛ بعيدي الفطر والأضحى اللذان اختارهما الله لنا؛ وأتم بهما النعمة علينا، وزعم الجاهلون أن ذلك لا ينافي الإسلام ولا يخالف الدين في شيء لأنه عيد قومي؛ أو لأنه يوم نزهة ورياضة وسرور، فلا علاقة له بالدين ولا صلة له.

وكل تلك دعاوى باطلة، فهو عيد له أعظم الصلة بالدين، وله أكبر الأثر في التكوين النفسي والخلقي على نقيض الإسلام، وإن لم يشعر موتى القلوب. ونصوص السلف الصالح والأئمة المهتدين في التحذير منه والنهي عنه؛ كثيرة متواترة، من أرادها فعليه بكتاب (اقتضاء الصراط المستقيم) لشيخ الإسلام ابن تيمية.

ألا فليعلم هذا من في قلبه حب لله ولرسوله، وليحذروا الاحتفال به؛ وتعظيمه بطعام خاص أو ثياب خاصة، أو تعطيل للأعمال والمدارس أو غيرها.

أولى بالأزهر وعلمائه ثم أولى وعلى رأسهم ذلك الإمام المصلح العظيم صاحب المواقف المشهودة في محاربة البدعة ونصر السنة المحمدية، الشيخ المراغي - أولى بهم ثم أولى أن يكون أول الناس إنكاراً لشم النسيم وتحذيراً منه وبغضاً له، وأن يكونوا خير قدوة للناس في الخروج على هذه التقاليد الضالة والعادات الفاسدة إلى خير الهدي محمد صلى الله عليه وسلم. هذا بلاغ للناس ولينذروا به. اللهم اشهد.

ترى الناس أسواءً إذا جلسوا معاً
وفي الناس زيف مثل زيف الدراهم

المجلة
السنة
العدد
التاريخ
الهدي النبوي
الأولى
الحادي عشر
صفر سنة 1356 هـ
 تم النشر يوم  الأحد، 4 مايو 2014 ' الساعة  10:40 ص


 
Toggle Footer