الأربعاء، 28 مايو 2014



تأملات في آيات من القرآن الكريم
سورة الأعراف 

أ. د. عباس توفيق
 

1- ﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [الأعراف: 12].

والمعنى هو ما منعك أن تسجد، ولكن "أن تسجد" وردت هكذا: ﴿ أَلَّا تَسْجُدَ ، وحسِب بعضُ النحاة أن "لا" زائدة، وأضفى البعض الآخر على هذه الزيادة معنى تأكيد النفي؛ (تفسير ابن كثير 2/180).

وإذا كان هناك زيادةُ معنًى أفادها الحرفُ، فمعنى ذلك انتفاءُ فكرة الحرف الزائد، وأن لكل حرفٍ أو صيغة تعبيرية دورًا في إجلاء المغزى.

ورفضَ ابنُ جرير تأويلَ الزيادة وتأكيد النفي، ومال إلى أن الفعل "منع" يتضمن معنى فعلٍ آخر، "وتقديره ما أحرَجك وألزمك واضطرَّك ألاَّ تسجُدَ إذ أمرتُك"؛ (تفسير ابن كثير 2/180).

وتحججَ إبليس بأنه خيرٌ من آدم - عليه السلام - وذلك بنظره إلى الأصل الذي خُلق منه كل واحدٍ منهما، فزكَّى نفسه وفضَّلها من غير رعايةٍ لكون أمرِ الله - تعالى - هو الأعلى، وبذلك ارتكب معصيتينِ؛ أولاهما: هي عدم إطاعة أمر الله سبحانه وتعالى، وثانيتهما: هي الكِبْر المتمثِّلُ في تفضيل نفسه، وقد أهبطه اللهُ - تعالى - وجعله صاغرًا ممَّا كان فيه لكبره لا لعدم إطاعة أمره؛ فقال - سبحانه -: ﴿ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ [الأعراف: 13]، فقد يُتبَع عدمُ طاعة الأمر بالتوبة والإنابة، والله - تعالى - يقبَلُ من عبده أَوْبَتَه، ولكن إبليس جمَع إلى العصيان الكبرَ الجِبِلِّيَّ، الذي يكون مصدرًا لحجبِ الخيرِ عن المخلوق.

ومن الكِبْر ما يمكن علاجُه بالدِّين، أو بالوسائلِ النفسية، أو بالإرادة الذاتية، إذا ما كان صفةً يفتعل المخلوقُ وجودها في ظل ظروف معينة، ولأن اللهَ - تعالى - علاَّم الغيوب يعلَمُ أن كبْرَ إبليس من النوعِ الذي لا ينفع معه النصح ﴿ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا، وإن إبليس لم يرتدِعْ بسببٍ من كِبْرِه عندما أمَره الله - تعالى - بالهبوطِ، ولم يبادِرْ إلى التوبة من جسامة الذنب الذي ارتكبه، بل - ويا للغرابة! - زاد كِبْرُه وعناده، بأنْ طلَب من الله - تعالى - أن يُبقيَه إلى يوم الدِّينِ؛ ليُضلَّ بني آدم، مستمرًّا في الكبر والعناد!

إن إبليس أُمِر بما فيه فلاحُه؛ بالسجودِ لآدم - عليه السلام - فلم يستجِبْ، وأُمر بما فيه خسرانُه؛ بالهبوطِ، ففعَل بإرادتِه، أو بدون إرادته.

والكبْر من أخطر ما ابتُلي به الناس على مر الزمن، وهو نفْخُ الشيطان في الإنسان، ومع أن الله - تعالى - يأمُرُنا ألا نزكيَ أنفسنا بقوله - سبحانه -: ﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ [النجم: 32]، إلا أن هذه الآفةَ مستشرية في حياةِ الكثيرين من الناس؛ فتهوين الآخرين أو تهوين آرائهم أو انتقادهم بدون وجه حق على ما يفعلون، وغير ذلك ممَّا نراه ونسمعه - ينطوي على تزكية للنفس، وتقليل من شأن الغير، وإن هذا الفعل مصدرٌ أساس للصراعات الحاصلة في الشؤون الحياتية والسياسية والاجتماعية، وحتى الدينية، وكأن إبليسَ يريد أن يورد الناسَ الهلاك من ذات المورد الذي ورده هو، بأن ينفُثَ روح "الأنا" المستعلية المريضة، ويشعل بسببها التناحر والتباغض، فينغِّص على الناس حياتَهم، ويجرُّهم بها معه إلى النار، والعياذ بالله.

2- ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 16، 17].
أ- أي: لأقعدَنَّ لهم على صرطِك المستقيم؛ لأصرفَهم عنه، أو لأتهيَّأَنَّ لهم على صراطِك المستقيم؛ لأحرفَهم عنه، وحذفَ حرف الجر "على"؛ لتشير الآيةُ باختصارِها إلى إسراع إبليس في التضليل الذي عبَّر عن عميق بُغضِه لبني آدم؛ بحيث إنه يُغلِق عليه الجوانبَ كلها، ويأتيه من كل اتجاه ليحقِّقَ فيه ظنَّه بإغوائه، فقال: ﴿ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 17].

ب- ومعنى ﴿ شَاكِرِينَ ﴾؛ أي: مؤمنين موحدين، وانصرافُ الناس عن الإيمان لا يضرُّ الله - تعالى - شيئًا، ولكن إبليس ينفُثُ ضغينتَه، ويُظهر صلَفَه بتحدِّي الله - تعالى - إمعانًا في الكِبْر، وكأنه يريد بذلك أن يبيِّنَ أنه هو المصيبُ، وأن تكريمَ الله - تعالى - للإنسان كان خطأ، والعياذ بالله.

ج- نوَّعَ الضمير بين المخاطب والغائب في ﴿ تَبِعَكَ مِنْهُمْ، ثم وحَّده للمخاطب في ﴿ مِنْكُمْ ﴾؛ لأن مَن يتبع الشيطان يكون منه.

3- ﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا ﴾ [الأعراف: 20].
وسوس له وإليه: حدَّثه بما لا خيرَ فيه ولا نفع، وقد فعَل إبليس ذلك، وكان يعلَمُ أن نجاحَه في إغوائهما لا يتسبَّبُ في طردِهما من رحمة الله كما طُرِد هو، بل سيوقِعُهما فيما يخجلانِ منه ﴿ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا ﴾ [الأعراف: 20].

4- ﴿ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴾ [الأعراف: 25].
الفعلانِ الأوَّلان مبنيَّان للمعلوم، وكأن المخاطبينَ يَحْيَوْن بأنفسهم ويموتون بإرادتهم، والفاعل هو مَن يقومُ بالفعل، وهو هنا الواو المشيرة إلى المخاطبين، ومع أن الأمر ليس كذلك في الحياة أو الموت؛ أي إن الإنسانَ لا يقوم بفعلهما ذاتيًّا وإراديًّا، إلا أنَّ طبيعة اللغة جاريةٌ على اعتباره وكأنه قائم بهما، ولا يكاد إسنادُهما يكون لغيره، وأما الفعل الثالث "تُخْرَجُونَ"، فقد قُرئ بفتح التاء ليتوافق مع الفعلينِ الآخرين في البناء للمعلوم، وقد قُرِئ بضم التاء مبنيًّا للمجهول بالالتفات إلى انعدامِ قدرة الإنسانِ على فعل شيءٍ بنفسه وهو ميت، وأن خروجَه إنما هو إخراجٌ في واقع الحال.

5- ﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾ [الأعراف: 26].
اللباس لسترِ العورات، وهو من الضروريات، والرِّيش للتزيُّن والتجمُّل، وهو من الكماليات؛ (تفسير ابن كثير 2/184)، وكلاهما لستر العورات الظاهرية، ولكنَّ عوراتِ الإنسان القلبية أَولى بالستر؛ ولهذا قال: ﴿ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾ [الأعراف: 26]؛ أي: أفضل، فلا قيمة لهِندام المرءِ إذا كان باطنه خرِبًا، ولأن السترَ من الضرورات جاءت الآيةُ السابعة والعشرون محذِّرةً من الشيطان، ومن أن يفعَلَ بالناس ما فعَل بأبيهم آدم ﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 27]، وقد فتَن الشيطانُ الناسَ، فنزَع عنهم أو عن معظمهم السترَ القلبي، بأن جعلهم كافرين ووثنيين، وأزال عنهم السترَ الظاهريَّ المتمثل في الملابس، فكانوا يُلقونها رجالاً ونساءً في طوافهم بالبيت؛ بدعوى عدم جواز الطواف بملابس عصَوُا اللهَ - تعالى - فيها، ثم جعلوا هذا العُرْيَ مما أمَر الله به؛ ﴿ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 28]، وقد نجَح الشيطانُ مرة أخرى الآن في نزع لباس الإنسان، ولكن بدعوى التطور، ومجاراة الموضة، أو أن هذا اللبس أو ذاك أكثرُ ملاءمةً ومناسبة لطبيعة العمل الذي يقوم به الناس، وخاصة النساء، وغير ذلك من أسباب إلقاء اللباس.

6- ﴿ قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 38].
لكل منهما ضعفٌ؛ لأن الأوَّلينَ كانوا أولينَ من الناحية الزمنية أم كبراء مِللِهم قد كفروا وروَّجوا لكفرهم، وحملوا أتباعَهم عليه، وأما الآخِرون زمانيًّا أو مكانةً، فلأنهم كفروا واتبعوا سابقيهم أو كبراءَهم بدون بصيرة، وجعلوهم يفكِّرون بدلاً عنهم، وعطَّلوا عقولَهم الذاتية التي هي مناطُ التكليفِ، فلم يستعملوها في التمحيصِ والوصول إلى الحقيقة.

7- ﴿ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 43].
ومعنى أورثه شيئًا: ترَكه له، وأعقبه إياه؛ أي صارت الجنَّةُ عقبى لكم، وأوَّلَه الطبريُّ بأورثكم اللهُ - تعالى - عن الذين كذَّبوا رسله، بتصديقِكم إياهم، وإطاعتِكم ربَّكم، وروى عن السديِّ أن ما من مؤمن ولا كافر إلا وله في الجنَّة والنار منزلٌ، فإذا دخل أهلُ الجنة الجنةَ وأهلُ النار النارَ، ودخلوا منازلَهم، رُفعت الجنَّةُ لأهل النار، فنظروا إلى منازلِهم فيها، فقيل لهم: هذه منازلُكم لو عمِلْتم بطاعة الله، ثم يقال: يا أهل الجنة، رِثُوهم بما كنتم تعملون، فتوزع تلك المنازلُ على أهل الجنة؛ (تفسير الطبري 12/442-443).

8- ﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 44].
وأظهر المفعول به في ﴿ وَعَدَنَا رَبُّنَا، وأخفاه في  ﴿ وَعَدَ رَبُّكُمْ ﴾، على تقدير وعدكم؛ لأن الحوار بين المؤمنين وغير المؤمنين، والوعد المسؤول عنه هو العذاب، فالذين دخلوا الجنة كانوا صِنفًا واحدًا يجمَعُهم الإيمان، وأما الذين دخَلوا النار، فقد كانوا أصنافًا، وقد يكون مِن بينهم المؤمنون العاصون إلى أن يتطهروا، فحُذف المفعولُ به "كم"؛ لأن إظهارَه يجعل المخاطَبين بأصنافهم المختلفة متساوين ومشمولين بما في السؤال من تقريعٍ، بينما التقريع خاصٌّ بغير المؤمنين، والله أعلم.

9- ﴿ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾ [الأعراف: 51].
والله - تعالى - لا ينسى، وإنما ورد هذا الفعل من باب المشاكلةِ اللفظية لنسيان الناس لربهم، وقد يكون المقصودُ أننا نهملهم ونتركُهم، كما أهملوا هم هذا اليومَ وترَكوه فلم يعدُّوا له عدَّته في حياتِهم الدنيا.

10- ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 54].
وسواء كانت هذه الأيام كأيام الدنيا، أم كان كلُّ واحد منها كألف سنة؛ (تفسير ابن كثير 2/195) - فإن الله تعالى قادرٌ على أن يخلق ما خلَق في لحظة، وقد ورد في القرآن الكريمِ كثيرًا أنه إذا أراد شيئًا ﴿ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 47، وغيرها]، ولكن الحكمةَ مِن خَلْقه للسمواتِ والأرض في ستة أيام هي - والله أعلم - أن يُريَ ملائكتَه قدرتَه، فكما أظهر لهم تلك القدرة في أشياء بإيجادها في لحظة، أظهَرَ لهم القدرة في خلق السموات والأرض بصورة متكرِّرة ومتجددة.

11- ﴿ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ ﴾ [الأعراف: 62]، ﴿ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ﴾ [الأعراف: 68]، ﴿ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ﴾ [الأعراف: 79]، ﴿ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾ [الأعراف: 93].

وجاءت ﴿ رِسَالَاتِ ﴾ بصيغة الجمع و﴿ رِسَالَةَ ﴾ بصيغة المفرد، ورسالة الأنبياء واحدة، ولكن صيغة الجمع تكونُ بالالتفات إلى الأوامر والنواهي المتعددة والمتكررة، وكأن كل واحد منها رسالة، والذي يناسب التعدد والتكرار هو الجمعُ الذي ورد ثلاث مرات، وأما صيغة المفرد، فبالالتفاتِ إلى المنهج الربَّاني الواحد الذي دعا إليه الأنبياءُ، والذي يحوي فيه كل ما شرعه الله - تعالى - لعباده، وهو منهجٌ لا تعدُّدَ فيه.

12- ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاؤُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ﴾ [الأعراف: 115، 116].
البادئ بالكلام هم السحرة، وانطوى بَدْؤُهم به على رغبتِهم في أن يكونوا أولَ الملقين؛ لتكون المبادَأَةُ في أيديهم، ويُفلِتوها من يدِ موسى - عليه السلام - ويُرْهِبوه ويُوهِنُوا عزيمتَه، ويحقِّقوا بذلك هدفَهم الذي اجتمعوا من أجله، ولكن الذي حصَل هو أنهم أفزَعوا الناس وأرهبوهم بما جاؤوا به، وأما موسى - عليه السلام - فما كان منه إلا أن ألقى عصاه، وانقلب السِّحرُ على الساحر، ويبدو أن جمهور الناس الذين فزعوا بما رأوا من السحرة، زُلزلوا بالنتيجة، وأيقنوا أو أيقن قسمٌ منهم بصحة ما جاء به موسى - عليه السلام - ولكنهم لم يجهَروا بتيقُّنِهم؛ خوفًا من فرعونَ الذي يبدو أنه أيقَن هو أيضًا فقد "انْقَلَبُوا صَاغِرِينَ"، ولكنه أنكَر كِبْرًا، وسكت القرآنُ الكريم عما كان من الناس، وأبرَز مآل السَّحرة الذين كانت آمال فرعون معقودةً عليهم؛ ﴿ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ﴾ [الأعراف: 119، 120]، فإذا أقرَّ المُناظِر والخبيرُ بالحقِّ، فإن المراقِب الذي جاء بالمُناظر والخبير لدفع الخصم، سيؤول إلى الخِذلانِ، وستسقُط من يدِه أسبابُ قوَّتِه.

﴿ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ﴾ [الأعراف: 121، 122]، و﴿ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ﴾ [الأعراف: 122] عطفُ بيانٍ لـ ﴿ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 121]؛ أي إنهم قالوا: إنهم آمنوا بذلك الربِّ الذي هو لموسى وهارون - عليهما السلام - لكيلا يظُنَّ فرعون أو يشيعَ بين الناس أن السحرةَ آمنوا به هو؛ حيث كان يدَّعي الألوهيةَ لنفسه، أو بما كان يقوله في أن موسى - عليه السلام - ساحر، ولقد أغلق السحرةُ عليه باب التلاعب بالحقيقة ببيان أن الرب الذي آمنوا به هو: ﴿ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ﴾ [الأعراف: 122].

14- ﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ﴾ [الأعراف: 127].

﴿ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ﴾ "قال بعضهم: الواو هنا حالية؛ أي: أتذرُه وقومَه يفسدون في الأرض، وقد ترك عبادتك؟... وقال آخرون: هي عاطفةٌ؛ أي: أتدَعُهم يصنعون من الفساد ما قد أقرَرْتَهم عليه وعلى ترك آلهتك، وقرأ بعضهم: إلاهتك؛ أي: عبادتك"؛ (تفسير ابن كثير 2/210 ).

15- ﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الأعراف: 145].

وقد يكون المعنى هو العملَ بالأوامر وترك النواهي، وقد يُنظر إلى الأعمال على أن فيها الحسنَ؛ كالاقتصاص والانتصار في مواضع الحق، والأحسن؛ كالعفو والصبر، وإن الله - تعالى - وجَّه موسى إلى أن يأمُرَ قومَه أن يحمِلوا أنفسَهم على الأخذ بما هو أدخلُ في الحُسْن، وأكثَرُ للثواب؛ (الكشاف 2/152، تفسير القرطبي 7/269).

16- ﴿ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [الأعراف: 158].

وقد يكون معنى: ﴿ الْأُمِّيِّ ﴾ الذي لا يقرَأُ ولا يكتب، وقد يكون نسبةً إلى أمِّ القرى، وهي مكة.

17- ﴿ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ﴾ [الأعراف: 160].

والسِّبط مذكَّر، ولم يُجارِه العددُ في التذكير، فضلاً عن أن تمييز العدد جاء جمعًا لا مفردًا، كما هو المقتضى في هذا الموضع، وكان تأنيثُ العدد بالنظر إلى معنى السبط في بني إسرائيل، وهو الجماعة والقبيلة؛ لأن كلَّ سِبط في بني إسرائيل كان أمَّةً وجماعة، فكأنه قال: وقطَّعناهم اثنتي عشْرةَ أمَّة، أو قبيلة، أو جماعة.

ونقل البغوي عن الفراء أن تأنيث العدد راجعٌ إلى الأمم؛ (تفسير البغوي 2/168)، وهو رأي قال به القرطبي أيضًا؛ (تفسير القرطبي 7/289)، وذكر الرازيُّ في تفسير سورة الأعراف في كتابه "التفسير الكبير" أن كل قبيلةٍ مؤلَّفة من أسباط، وأنه وضَع الأسباط موضعَ القبيلة، ونُقل عن الزجاج أن أسباطًا نعتٌ لموصوف محذوف، وهو الفِرْقة.

وأما أبو عليٍّ الفارسيُّ، فإنه يرى الأسباط بدلاً من اثنتي عشرة، وذكر الزمخشري أن ﴿ أُمَمًا ﴾ بدلٌ من ﴿ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ ، بمعنى: وقطعناهم أممًا أسباطًا، ولو قيل: اثني عشر سبطًا "لم يكن تحقيقًا؛ لأن المراد: وقطَّعْناهم اثنتي عشْرةَ قبيلة، وكل قبيلة أسباط لا سبط، فوضع أسباط موضع القبيلة"؛ (الكشاف 2/162).

18- ﴿ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ﴾ [الأعراف: 170].
أي: يعتصمون به، ويُقيمون أوامرَه، وتضعيف الفعل "يُمَسِّكُونَ" للتنويهِ بالقوة في الاعتصام والتنفيذ وعدم التراخي، ويقتضي التمسُّكُ بالكتاب إقامةَ الصلاة، ولكن الله - تعالى - أفرَدها بالذِّكر؛ تأكيدًا لها، وإعلاءً لشأنها، وبيانًا لمزيد أهميتها، ويدخُل هذا في باب ذِكر الخاص بعد العام، ويؤتى به عادة معطوفًا بالواو، وكأنه ليس مِن صنف العام، وأنه قائمٌ بذاته؛ فالتمسك بالكتاب عامٌّ، وإقامةُ الصلاة خاص، و﴿ يُمَسِّكُونَ ﴾ فعلٌ مضارع، وعطف عليه الماضي ﴿ وَأَقَامُوا ﴾، وقلَّ ما يُعطَف ماضٍ على مستقبل إلا في المعنى؛ (تفسير البغوي 2/177).

والمراد هو - والله أعلم - تمسَّكوا بالكتاب، وأقاموا الصلاة، وقرأ أُبيُّ بن كعب: "تمسَّكوا" على الماضي (المصدر نفسه)، أو أن المعنى هو يتمسَّكون بالكتاب، ويقيمون الصلاة؛ تنويهًا باستمرارية الالتزامِ بالمنهج والعمل به، وهذه الاستمراريةُ يكشِفُها الفعلُ المضارع الدالُّ على التجدُّد والدوام.
 تم النشر يوم  الأربعاء، 28 مايو 2014 ' الساعة  5:51 م


 
Toggle Footer