وصل ما بعد رمضان
الشيخ محمد صفوت نور الدين
أخرَج الجماعةُ عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ينزِل ربُّنا - تبارَك وتعالى - في كلِّ ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقَى ثُلُثُ الليل الآخِر، فيقول: مَن يدعوني فأستجيب له؟ مَن يسألني فأعطيَه؟ مَن يستغفرني فأغفر له؟)).
يقول الترمذي: قد رُويَ هذا الحديث مِن أوجه كثيرة عن أبي هريرة عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أنه قال: ((ينزل الله - تبارك وتعالى - حين يبقَى ثُلُثُ الليل الآخِر))، وهذا أصحُّ الروايات، يُشير بذلك إلى أنَّ روايات الحديث جاءتْ على سِتَّة أوجه؛ أولها هذا، وثانيها: ((إذا مضَى الثُّلث الأول))، وثالثها: ((إذا مضَى الثُّلُث الأول، أو النصف))، ورابعًا: ((النصف))، وخامسها: ((النصف))، أو ((الثلث الأخير))، وسادسها: الإطلاق، كحديثٍ جاءَ عند مسلم عن جابر - رضي الله عنه - قال: سمعتُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إنَّ في الليلِ لساعةً لا يُوافقها رجلٌ مسلم يسأل الله خيرًا مِن أمر الدنيا والآخِرة، إلاَّ أعطاه إيَّاه، وذلك كلَّ ليلة)).
قال القاضي عياض: الصحيح رواية: ((حين يبقَى ثُلُث الليل الآخِر))، كذا قال شيوخُ الحديث، وهو الذي تظاهرتْ عليه الأخبارُ بلفْظه ومعناه.
وللعلماءِ تخريجاتٌ لطيفة في التوفيقِ بيْن سائرِ الألفاظ على بعضِ الخلاف فيها، ولكن يكفينا هنا المتَّفق على صحَّته؛ حيث يقول شيخ الإسلام ابن تيميَّة: ما اتَّفق علماءُ الحديث على صحَّته هو: ((إذا بقِيَ ثُلُث الليلِ الآخِر))، وأمَّا رواية النصف والثلثين، فانفردَ بها مسلم في بعضِ طرقه، وقال: وقد رُوي عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من روايةِ جماعةٍ كثيرة مِن الصحابة، كما ذكرْنا قبلَ هذا، فهو حديثٌ متواتِر عند أهل العلم بالحديث.
وقد جمَع العيني في "العمدة" مَن روى مِن الصحابة حديثَ النزول، فبلَغ عددهم بضعًا وعشرين صحابيًّا، هم: أبو هريرة، وعلي بن أبي طالب، وأبو سعيد الخدري، ورفاعة الجهني، وجُبَير بن مطعم، وابن مسعود، وأبو الدرداء، وعثمان بن أبي العاص، وجابر بن عبدالله، وعُبادَة بن الصامت، وعُقْبة بن عامر، وعمرو بن عبَسَة، وأبو الخطاب، وأبو بكر الصِّدِّيق، وأنس بن مالك، وأبو موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل، وأبو ثَعْلَبة الخُشني، وعائشة، وابن عبَّاس، ونواس بن سِمعان، وأم سلمة، وجَدُّ عبدالحميد بن سَلَمة.
ثم سرَد العيني منها أحاديثَ اثني عشر صحابيًّا بعدَ حديث أبي هريرة - رضي الله عنهم - أجمعين، وذلك يشهَدُ لقولِ شيخ الإسلام: أنَّ خبَر النزول متواتِر عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
مناسبة الموضوع:
هذا الحديثُ يُصبح - إنْ شاء الله تعالى - بيْن يدي القارئ في شوَّال، وقد انخلَع شهرُ رمضان بفضائلِه الكثيرة، وخيراته العميمة، منها ما جاءَ في الحديث الشريف عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((تسحَّرُوا؛ فإنَّ في السحور برَكة))، فإنَّ مِن جملة بركاتِ السُّحور أن يستيقظَ المسلم في وقت السَّحَر، وأنْ يتناولَ طعام السحور، فيدعو بدعاءٍ طيِّب، كأنْ يقول بسبب الطعام: ((اللهمَّ بارِكْ لنا فيما رزقْتَنا، وقِنَا عذابَ النار))، كما جاءَ في حديث ابن عمرٍو الذي رواه ابن السُّني، فيقَع ذلك الدعاء في وقتٍ ينادي ربُّ العزة سبحانه على عِباده: ((مَن يدعوني فأستجيبَ له؟ مَن يسألني فأعطيَه، من يستغفرني فأغفرَ له))، فيطلب خيرَ الدنيا كاملاً بقوله: ((بارِكْ لنا فيما رزقتَنا))، وخيرَ الآخرة في الجنة يدخلها بغيرِ سابقة عذابٍ بقوله: ((وقِنا عذابَ النار))، وغير ذلك مِن برَكات السحور، مع أنَّ رَبَّ العِزة ينادي على عبادِه في كلِّ ليلة من ليالي العام، فهُم يتمكَّنون منها في رمضان بفضْل السحور وبركاته؛ لذا أردتُ التنبيه على ذلك؛ لعلَّ المسلِم الكريم بعد قراءةِ هذا الحديث يَعتاد في وقتِ السَّحَر أن يجمعَ كلَّ حاجة له، فيبثها إلى ربِّه، ويُناجيه في ذلك الوقت الذي أظلمتْ فيه الدنيا، وهجَع فيه الناس، ونامتْ فيه العيون، فيقوم لربِّه يدعوه، فيأخذ بهذا السببِ الأعظم الذي يرفع اللهُ به البلاء، ويصرِف به الداءَ، ويُفرِّج به الكَرْب، ويبارك به في الرِّزْق، ويغفر به الذَّنْب، ويتولَّى به العبدَ، فينال الخيرَ الكثير بالدعاء في هذا الوقتِ المبارَك في الثُّلُث الأخير مِن الليل.
((ينزل ربنا - تبارك وتعالى)):
يقول أبو الطيِّب في "السراج الوهاج": ولا شكَّ ولا ريبَ في ثبوت هذه الصِّفة لله سبحانه؛ لورودِ الأحاديث الصحيحة الكثيرة، التي بلغَتْ حدَّ الشهرة والقَبول، ومَن أوَّلها بنزول رحمته أو أمْره أو ملائكته، أو حمَلَها على الاستعارة بمعنى الإقْبال على الدعاء بالإجابة واللُّطف ونحوها، فقد تَحجَّرَ واسعًا، وأبْعدَ النُّجْعة، وسلَك سبيلَ غيرِ المؤمنين، وخالَف السُّنة المطهَّرة الواضِحة التي ليلُها كنهارها.
ذكَرَ الذهبي في كتاب "العلو": أنَّ حديث النزول قد بلَغ حدَّ التواتر المعنوي؛ لكثرة طرقه وقوتها.
وقال ابن خُزيمة: نَشْهد شهادةَ مقرٍّ بلسانه، مصدِّق بقلبه، مستيقن بما في هذه الأخبار مِن ذِكْر نزول الربِّ مِن غير أن يصفَ الكيفية؛ لأنَّ نبيَّنا المصطفى لم يصف لنا كيفيةَ نزول خالِقِنا إلى السماء الدنيا، وأعلَمَنا أنه ينزل، والله - جلَّ وعلا - لم يتركْ، ولا نبيه - عليه السلام - تبيانَ ما بالمسلمين إليه الحاجةُ مِن أمر دِينهم، فنحن قائلون مصدِّقون بما في هذه الأخبار مِن ذِكْر النزول، غير متكلِّفين القول بصِفته، أو بصِفة الكيفيَّة؛ إذ إنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يصِفْ لنا كيفيةَ النزول.
يقول شيخ الإسْلام ابن تيميَّة: وتأويل المجيءِ والإتيان والنُّزول ونحو ذلك، بمعنى القصْد والإرادة ونحو ذلك هو قولُ طائفة، وتأوَّلوا ذلك في قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ﴾ [البقرة: 29]، وجعَل ابن الزاغوني وغيرُه ذلك هو إحْدى الروايتين عن أحمد، والصَّواب: أنَّ جميعَ هذه التأويلات مبتدَعة لم يقلْ أحدٌ من الصحابة شيئًا منها، ولا أَحَدٌ مِن التابعين لهم بإحسان، وهي خلافُ المعروف المتواتِر عن أئمَّة السُّنَّة والحديث: أحمد بن حنبل وغيره من أئمَّة السُّنة، ولكن بعض الخائضين بالتأويلاتِ الفاسدة يتشبَّث بألفاظ تُنقَل عن بعض الأئمَّة، وتكون إما غلطًا أو محرَّفة.
ويقول شيخ الإسلام: الصواب - وهو المأثورُ عن سَلَف الأمَّة وأئمتها - أنه لا يزال فوقَ العرْش، ولا يخلو العرْش منه مع دُنوه ونزوله إلى السماء الدنيا، ولا يكون العرْش فوقه، وكذلك يومَ القيامة كما جاءَ به الكِتاب والسُّنَّة، وليس نزوله كنزول أجسامِ بني آدمَ مِن السَّطْح إلى الأرْض؛ بحيث يبقَى السقف فوقَهم، بل اللهُ مُنزَّه عن ذلك.
يقول شيخُ الإسلام - رحمه الله -: وأمَّا قول المعترِض: إنَّ اللَّيْل يختلف باختلافِ البلدان، والفصول في التقدُّم والتأخُّر، والطول القِصر، فيقال له: الجواب عن قولك مثل الجواب عن قول: هل يخلو منه العرْشُ أو لا يخلو منه؟ وذلك أنَّه إذا جازَ أنه ينزل ولا يخلو منه العرْش، فتقدُّم النزولِ وتأخُّره، وطوله وقِصره كذلك بناء على أنَّ هذا نزولٌ لا يُقاس بنزول الخَلْق... (حتى قال): فالنزولُ الإلهي لكلِّ قومٍ هو مقدار ثُلُث ليلِهم، فيختلف مقدارُه بمقاديرِ الليل في الشَّمال والجنوب، كما اختَلَف في المشرِق والمغرب، وأيضًا فإنَّه إذا صار ثُلُث الليل عندَ قَوْمٍ؛ فَبَعْدَهُ بِلَحْظَةِ ثُلُثُ اللَّيْلِ عِنْدَ مَن يقاربهم مِن البلاد، فيحصل النزولُ الإلهي الذي أخْبَر به الصادقُ المصدوق أيضًا عندَ أولئك إذا بقِيَ ثُلُث ليلهم، وهكذا إلى آخِرِ العمارة.
يقول الجامي في "الصفات الإلهية": إنَّ السلف يُثبِتون نزولَ الربِّ سبحانه إلى السماء الدنيا حين يبقَى ثُلُثُ الليل الأخير، كما يَليق بجلاله وعظمَتِه، ويُثبِتون المعنى العام للنزول دون الخوْض والتنقيب عن الكيفية؛ إيمانًا منهم بأنَّ معرفةَ كيفية الصفة متوقِّفة على معرفة كيفيةِ الموصوف؛ فحيث آمنَّا بالله إيمانَ تسليم دون بحْث عن كُنْه ذاته سبحانه، فيجب الإيمانُ بجميع الصِّفات التي أثبتها لنفسِه، أو أثبتها له رسولُه الأمين محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصِفة النزول إلى السَّماء الدنيا مِن الصفات التي أخْبر عنها الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويشهَد له القرآن، حيث أخْبر الربُّ سبحانه عن مجيئه يومَ القيامة، فنستطيع أن نقول: إنَّ النزول ثابتٌ بالكتاب والسُّنة، ولولا هذه النقولُ لكفَفْنا عن إثباتها، هذا هو الذي نَعْني بأنها خبريَّة محضة، إلاَّ أنَّ العقل الصريح، والفِطرة السليمة، لا يرفضانِ كلَّ ما ثبَتَ بالنقل الصحيح، ولا يَعُدَّانه مستحيلاً، كما يزعم بعضُ الزاعمين؛ لأنَّ العقل يشهد أنَّ الذي يفعَل ما يشاء إذا شاءَ أن يفعلَ مثلَ النزول والاستواء والمجيء مثلاً، والقادِر على كلِّ شيء أكْملُ مِن الذي لا يفعل كلَّ ما يريد فعلَه؛ لأنه: ﴿ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾ [البروج: 16]، هكذا بصِيغة (فعَّال)، وهي تدلُّ على كثْرة الفِعل، وقد يُفهَم من الكثرة التنوُّع، والله أعلم.
هكذا يجتمع العقلُ والنقلُ على الدلالة على صِفات الأفعال بما في ذلك نزولُ الربِّ سبحانه إلى السماء الدنيا كيف يشاء، وللهِ الحمد والمِنَّة.
والحديث نصٌّ في إثْبات صِفة الكلام أيضًا لله سبحانه، وأنه يتكلَّم كلامًا حقيقيًّا؛ لذا ساق البخاريُّ روايةً لهذا الحديث في كتاب التوحيد، باب "يريدون أن يبدِّلوا كلام الله"، فذكَر في كتاب التوحيد عِدَّة أبواب في إثْبات كلامِ الله، وهو مِن صفاته، جمَع فيها من الحديثِ عشرات، واستشهد فيها بكثيرٍ من الآيات.
وقول سلَف هذه الأمَّة: إنَّ كلامه تعالى صِفةُ فعْل يتكلَّم بها متَى شاء، وكيف شاء، وإنَّ كلامَه حروفٌ وأصوات يُسمِعُها مَن يشاء مِن خلْقه، وأنَّ صوتَه سبحانه بالكلام ليس كصوتِ المخلوقين، وهو متعلِّق بمشيئتِه واختياره.
وبعدُ؛ ففي الحديث: ((مَن يدعوني فأستجيبَ له؟ مَن يسألني فأعطيَه؟ مَن يستغفرني فأغفرَ له؟)).
وفي رواياتٍ أخرى: ((هل مِن تائبٍ فأتوبَ عليه؟ مَن ذا الذي يَسترزقني فأرزقَه، مَن ذا الذي يستكشِف الضرَّ فأكشفَ عنه))، ومنه أيضًا: ((ألاَ سقيم يستشفي فيُشفَى))، ((مَن يُقرِض غيرَ عديم ولا ظلوم)).
وفي ذلك حثٌّ للمسلِم أن يجمع حاجاتِه في ذلك الوقت فيَسأل ربَّه، فباب الخير مفتوح، وبيدِه ملكوتُ كلِّ شيء، فهو ينزل المطر، ويُنبت النبات، ويُخرج الزَّرْع، ويدر الضَّرْع، ويبارك في الرِّزق: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82].
ففي الحديث تحريضٌ على السُّؤال والدعاء، وفيه أيضًا حثٌّ على عملِ الطاعات، والإكثار مِن القُرُبات التي تساعِدُ العبد على رفْع الدعاء، وقَبول الرَّجاء.
وفيه إشارةٌ إلى عظيمِ الثواب، وجميل العطاء في قوله: ((مَن يُقرِض غيرَ عديم، ولا ظلوم))؛ أي: لا يُضيع ثوابَ عامل، ولا يبخل على داع، ولا يردُّ سائلاً.
والحديث فيه بيانُ فضْل الدعاء في آخِرِ الليل، وبالتالي في الصلاة والأذْكار؛ لذا كان أهلُ العِلم يُفضِّلون صلاةَ آخر الليل على أوَّله، ومنه قولُ عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - لَمَّا جمع الناس على صلاةِ القيام في رمضان، فكانوا يصلُّون في أوَّل الليل، فقال: ((وإنْ كانتِ التي ينامون خيرًا مِن التي يقومون)).
يقول - تعالى -: ﴿ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾ [آل عمران: 17]، يقول ابن كثير: دلَّ على فضيلةِ الاستغفار وقتَ الأسحار، وقد قيل: إنَّ يعقوب - عليه السلام - لَمَّا قال لبَنِيه: ﴿ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ﴾ [يوسف: 98] أنَّه أخَّرهم إلى وقتِ السَّحر، (ثم ساق حديثَ أبي هريرة - رضي الله عنه - هذا).
ثم ساقَ حديثَ عائشة - رضي الله عنها -: "مِن كلِّ الليل قد أوْتَر رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من أوَّله وأوسطه وآخِره، فانتهى وترُه إلى السَّحَر، وكان عبدُالله بن عمر يصلِّي مِن الليل، ثم يقول: يا نافع، هل جاءَ السحر؟ فإذا قال: نعم، أقْبَل على الدعاء والاستغفار حتى يُصبِح.
فضل الدعاء:
الدعاءُ عطاء الضُّعفاء الذي يحتاجُه الأقوياء، ومِنحة الفقراء التي يَفتَقِر إليها الأغنياء، وهو بابُ اختبار صِدْق للباكي، يُكشَف به كذِب المتباكي، فالنبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((هل تُنصَرون وتُرزَقون إلاَّ بضعفائكم؟))، قال ابن بطال: إنَّ الضعفاء أشدُّ إخلاصًا في الدعاء، وأكثر خشوعًا في العبادة؛ لخلاءِ قلوبهم من التعلُّق بزُخرف الدنيا.
فكأنَّ العبدَ مع عجْزه عن أن يشملَ الناس بعطاءٍ مِن طعام أو شراب أو مال، فإنَّه يستطيع ذلك بالدعاء، فيُدخِل المسلمين في دعائه، ويشمل المجاهدين والمظلومين والمرْضَى، بل والموتى مِن المسلمين في الدعاء؛ لذا فعليه أن يتَّبع أسبابَ استجابة الدعاء، ومنها أن يدعوَ في جوفِ الليل، فإنَّ الله يبلغ بدعوته للمجاهدين نصرًا، ولحقوق المظلومين رَدًّا، وللمرْضى شفاءً، وللمَدينين سَدادًا، وللموتى رحمة، وللمعذَّبين تخفيفًا، وغير ذلك مما يكون العبدُ شديدَ الحاجة إليه، ولا يدركه بما يملك مِن وسائل: شجاعة، وعتاد، ومال، ورفعة.
والذي يتباكى على المسلمين الذين فسَد حالُهم، وهانَت على الكافرين حُرُماتهم، ويرَى أنه لا يبلغ موقعَهم؛ ليجاهدَ عدوَّهم فينصرهم، فيضعُف عن الوصول أو يحبس عنه، يملِك - ولا شكَّ - ثُلُثَ الليل الآخِر، يضرع فيه إلى ربه، يستنصره فيبلغ الله - بقدرته التي لا تُغلَب ولا تُحجَب - يبلغ بدعوته رِزقًا ونصرًا، وشفاءً وخيرًا.
فإنْ عجَزَ العبد عن مقاومة نوْمه في ثُلُث الليل الآخِر؛ ليقومَ بدعوة صالِحة لمَن تباكى عليهم، دلَّ ذلك على أنَّ دعواه زائفة، فإنَّ شهوةَ النوم دون نزال العدوِّ وطعناته بكثير، ودون عطاءِ المال، وشَهْوة جمْعِه، فدعاء جوْف الليل بابُ اختبارِ صِدْق وعطاء واسِع، خاصَّة وأنَّه من جملة الدُّعاء بظَهْر الغيب.
والحديث في مسلِم عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: إنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يقول: ((دعوةُ المرْء المسلِم لأخيه بظَهْر الغيْب مستجابةٌ، عندَ رأسِه مَلَك موكَّل، كلَّما دعَا لأخيه بخيرٍ قال الملَك الموكَّل به: آمين، ولك بمثلٍ)).
قال النووي: وفي هذا فضيلةُ الدعاء لأخيه المسلِم بظهر الغيب، ولو دعَا لجماعةٍ من المسلمين حصلَتْ هذه الفضيلة، ولو دعَا لجُملة المسلمين، فالظاهِر حصولُها أيضًا، وكان بعضُ السلف إذا أراد أن يدعوَ لنفسه يدعو لأخيه المسلِم بتلك الدعوة؛ لأنَّها تُستجاب، ويحصل له مثلها.
يقول ابن حجر: وإنَّ الدعاء في ذلك الوقت مُجاب، ولا يعترض على ذلك بتخلُّفِه عن بعضِ الداعين؛ لأنَّ سبب التخلُّف وقوع الخلَل في شرْطٍ مِن شروط الدعاء؛ كالاحترازِ في المطعم والمشرب والملبس، أو لاستعجالِ الداعي، أو بأن يكونَ الدعاء بإثمٍ أو قطيعة رَحِم، أو تحصُل الإجابة ويتأخَّر وجود المطلوب لمصلحةِ العبد، أو لأمرٍ يريده الله؛ انتهى هذا الكلام النفيس فتدبَّرْه.
ولابن رجب في كتابه "جامع العلوم والحِكم" عند شرحه لحديث: ((إنَّ الله طيِّب لا يقبل إلا طَيِّبًا)) في ذلك الباب كلامٌ نفيس؛ فليراجع.
وفي الحديث بيان أنَّ في مفارقة بعضِ الشهوات الكثيرَ مِن الخيرات، وذلك كحديثِ أبي هريرة - رضي الله عنه - عند الشيخَيْن أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((حُجِبتِ النار بالشهوات، وحُجِبت الجنَّةُ بالمكارِه))، ففي ترْك شهوة النوم عندَ وفرة دواعيه، والاتِّجاه إلى ربِّه بالدعاء الخير الكثير، الذي يُستجاب به الدعاء؛ لذا يتَّجه الشيطان، فيَكيد للعبدِ عند نوْمه.
ففي حديثِ البخاريِّ عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يعقد الشيطان على قافيةِ رأس أحدِكم إذا هو نامَ ثلاثَ عُقد، يضرب على مكانِ كلِّ عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإذا استيقظَ فذَكَر الله انحلَّتْ عقدة، فإنْ توضَّأ انحلَّتْ عقدة، فإنْ صلَّى انحلَّتْ عقدة، فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصْبح خبيثَ النفس كسلانَ)).
قال ابن بطَّال: هذا وقتٌ شريف، خصَّه الله بالتنزيل فيه، فيتفضَّل على عباده بإجابة دعائهم، وإعطاء سؤالهم، وغفران ذنوبهم، وهو وقتُ غفلة وخلوة، واستغراق في النوم، واستلذاذ به، ومقاومة اللذَّة والدعة صعْب، لا سيَّما أهل الرفاهية، وفي زمن البرْد، وكذا أهل التَّعب، ولا سيَّما في قصر الليل، فمَن آثَرَ القيام لمناجاة ربه والتضرُّع إليه مع ذلك، دلَّ على خلوص نيته، وصحَّة رغبته فيما عندَ ربه، فلذلك نبَّه الله عبادَه على الدعاء في هذا الوقت الذي تخلو فيه النفسُ من خواطرِ الدنيا وشواغلها؛ ليستشعرَ العبد الجدَّ والإخلاص لربه - سبحانه وتعالى .
وبعد؛ ففي هذا الحديثِ حثٌّ للمسلمين في حاجاتهم إلى ربِّ العالمين - والعبد بيْن نِعمة موجودة يرجو لها دوامًا وبرَكة، ونِعمة مفقودة يرجو لها عودة، وبلية يرجو لها صَرْفًا، وذنب يرجو منه توبةً - فيتجَّه العبدُ إلى ربِّه في وقت السَّحر، الذي تعوَّد في رمضان أن يقومَ فيه لحظِّ طعامه وشرابه، يتقوَّى به على صيامه، فيَعتاد الدعاء والسؤال لربِّه، والاستغفار بالأسحار، فحرِيٌّ به أن يستمرَّ معه ذلك الخيرُ العظيم طولَ العمر؛ لأنَّ ربَّ العِزَّة - تبارك وتعالى - ينزل إلى السماء الدنيا كلَّ ليلة حين يبقَى ثُلُث الليل الآخِر، فيقول: ((مَن يدعوني فأستجيبَ له؟ مَن يسألني فأعطيَه؟ مَن يستغفرني فأغفرَ له)).
شبكة الألوكة
تم النشر يوم
الأربعاء، 7 أغسطس 2013 ' الساعة