الأربعاء، 21 أغسطس 2013

لا تتعجب.. إنها إرادة الله! 


خميس النقيب


الطُّغيان خُلُق مذموم، وطبْع ملعون، ووصْف ممقوت، إنه تجاوزٌ للحدود المعلومة، وتعدٍّ للخطوط المرسومة، ﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴾ [طه: 43]، ﴿ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أتَى ﴾ [طه: 60].

والطُّغاة - ما أكثرَهم - يُفسدون في الأرض بعدَ إصلاحها، يتَّخذون لهم بطانةً على شاكلتهم، وهؤلاء لا حولَ لهم ولا قوَّة، جاؤوا يُكثِّرون السواد، وينشرون الفساد، ويُمهِّدون الطريق لتخريبِ البلاد والعباد، هذه حالهم، وهذا دَيْدنهم، وهذا عمَلهم؛ ﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ﴾ [الأعراف: 127].

إنَّه فرعون الملعون في القرآن، وبطانته الملعونة كذلك بالتبعيَّة، والمأخوذة بإفسادها في حقِّ البشرية، ﴿ وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ﴾ [إبراهيم: 21].

إنَّ ما تعيشه الأمَّة الإسلامية الآنَ مِن ألوان الظُّلم والقهْر والفقْر، والفساد والاستبداد، إنما هو مما كسَبَتْ أيديهم مِن الذنوب والمعاصي، التي سَلَّط الله بها عليهم الحُكَّام الذين لا يخافونه ولا يخشونه؛ ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30].

حُكَّام فاسِدون مفسِدون، وحكومات باطِلة مبطِلة، عمَّ الظلم والفساد أرجاءَ البلاد، وطال كلَّ العباد، وتفشَّى في الهيئات: المجالس النيابية والنقابات، والجمعيات الأهلية والمصالح الحكومية والمؤسَّسات، فهي لا تُبقي ولا تذر، ولا عجب بعدَها أن تتخبَّط الشعوب الإسلامية في ظُلمات الجهل، والتخلُّف والفقر، حتى راح الناس يسعَوْن بكل ما يملكون مِن طاقات، وأوقات ومقدَّرات، وراءَ لقمة العيش متلهِّفين، يلهثون وراءَ السراب، ويبحثون حتى عن ذرَّات التراب، إنْ كان فيه حياتهم ونجاتهم مِن ضِيق العيش، وصعوبة التكيُّف والاستمرار.

ثم يَرْتاح الحاكم الفاسِد بعدَ ذلك لهذا التخبُّطِ، ولذلك الفقْر، الذي يُعانيه شعبُه، والذي يَحول بينهم وبيْن مساءلتِهم إيَّاه عن حقوقهم، وواجباتِه تُجاهَهم، كيف أنَّه أفسد الحياة عليهم، وسَلَب حريَّتَهم وكرامتهم، وآدميتَهم وإنسانيتهم، وصادَر أموالهم وممتلكاتهم، وأكَل حقوقَهم في أمسهم ويومهم وغدِهم؟! وهُم في غفْلة لا يدرون ما يُحاك لهم من خَراب، وما يُدبَّر لهم من دمار!

كل هذا وأكثر؛ ليبقَى هو وحْدَه الأوحد، وليذهبَ الباقون إلى الجحيم، أو ما هو أشد، فلا يهم؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 118]، هذا ما أرادُوه، وهذا ما فعَلُوه، ومِن رحمة الله - تبارك وتعالى - بالأمَّة أنْ جعَل الآياتِ والعِبرَ من الأُمم السابقة مِن الأنبياء والمرسَلين السابقين؛ لتكونَ لنا عِظةً، وسراجًا منيرًا، نهتدي ولا نَضِل به أبدًا.

فيُقيم الله بها علينا الحُجَّة البالغة بالبرهان المبين، على أنَّه قد أنذَرَنا بالقصص القرآني، وبيَّن لنا مصيرَ الأمم السابقة، وكيف أنَّهم استحقُّوا الهلاكَ في الدنيا، والعذابَ في الآخرة؛ ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102]؛ لذا يجبُ أن نأخذَ العِبرة من السابقين، وإنْ كانوا ملعونين؛ ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111]، فلا نَهلِك مثلَما هلكوا؛ ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [هود: 117].

لقد ضرَب الله - عزَّ وجلَّ - لنا مَثلاً للحاكم الفاسِد المفسد، وبطانته التي لا تقلُّ عنه فسادًا، في فرعون وقومه، وكيف أنَّه طغَى واستكبر، وعاث في الأرض فسادًا، وكيف كان مصيرُهم في الدنيا والآخرة؛ جزاءً لما جنَتْ أيديهم في حقِّ البلاد والعباد؛ ظلمًا وعدوانًا، كفرًا وعنادًا، إنَّه ليس مجرَّد قصة وتاريخ فحسْبُ، وإنما تحول إلى واقع عملي، وزخم فِعلي، وعالَم حسي - للأسف الشديد - نراها كلَّ صباح، ونحياها كلَّ مساء، إنها صورةٌ قديمة جديدة!

(فرعون): حاكم فاسد:
طغيان: ﴿ اذْهَبَ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴾ [النازعات: 17] ، تجاوز كلَّ الحدود، واستولى بالقوَّة والسُّلطة على ما ليس من حقِّه، ولم يُبقِ على حُرْمة ولا ذِمَّة، طغَى على شَعْبه من أجْل إنفاذ أمره ومراده، وتكريس حُكمه وإحكام سطوتِه على البلاد، وإفراد إمْرته على العباد.

لم يكن فرعونُ طاغيةً فحسبُ، بل ارْتَقى في طغيانه ليصلَ إلى كونه طاغوتًا، كيف؟ إنَّه تعدَّى على حقِّ الله - عزَّ وجلَّ - فجعل من نفسَه إلهًا يُعبَد من دون الله؛ ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [القصص: 38].

استخفاف: ﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ [الزخرف: 54].

استبداد: ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ [غافر: 29].

عُلو وعِناد: ظنَّ أنَّه لا يُحاسب ولا يُسأل؛ ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 4].

وكذلك زَهْو واستكبار: ﴿ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: 39]، حتى إنَّه وصَل بغروره إلي هذه الدَّرجة، ظنَّ أنَّ مصر له فقط، وهو فقط لمصر، وأنَّه المبصر الوحيد، وكل ما عداه أعمَى لا يُبصر!
﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ﴾ [الزخرف: 51]، فما لبِثَ أنْ جاءه موسى بالحقِّ وبالبيِّنات، والآيات الواضحة الجلية، التي لا يختلِفُ على صحَّتها اثنان، وعلى أنَّها ليست من صُنع بشَرٍ، حتى قال لموسى - عليه السلام - ومعه قومه: ﴿ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 132]، كان ردُّ فِعْله قرارًا في مكْتبه، قرارًا في دُرْجه، طُبِخ بليل، ودُبِّر بمَكْر، وصُنِع بخُبْث، يخرج في وقته وساعته؛ من أجْل تكميم الأفواه، وتهديد الدُّعاة: ﴿ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ﴾ [الشعراء: 29].

ولم يكتفِ بذلك، وإنَّما راح يضطهد قومَ موسى؛ ﴿ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ﴾ [الأعراف: 127]، في محاولةٍ منه لرَدْع موسى عن الحقِّ، وصرْفه عن تبليغ الرِّسالة، وهداية الناس.

حقًّا لقدْ مارس فرعونُ أشدَّ أنواع التنكيل والتعذيب، والقمْع والإرْهاب، والسجن والاعتقالات؛ كل ذلك ليردَّ المؤمنين عن إيمانهم، ودعاةَ الحق عن حقِّهم؛ خوفًا على سُلطانه من الزوال، شأنُه شأنُ كل طاغية جاءَ من بعده؛ ليستبدَّ ويتسلَّط.

لا يُريد لغَيْر كلمته أن تُسمَع، ولا لغير رأيه أن يَصِل، سَمْتُه الكبر والاستعلاء، أُسلوبُه الظلم والاستعباد، نهْجُه التنكيل والاستبداد، فلا بأسَ مِن مصادرة الحريَّات والممتلكات، ولا بأسَ أيضًا من هتْك الحُرُمات والأعراض، ما دام كلُّ ذلك سيحفظ له سلطانَه، ويضمن له استمرارَه، ويحفظ له أطيانه.

ولم يكتفِ بهذا وحسْبُ، بل بدأ طُغيانُه يَزيد بعدَ أن آمَن لموسى - عليه السلام - السحرةُ مِن قوم فرعون؛ ﴿ قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاَفٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ﴾ [طه: 71].

(الملأ): بطانة فاسدة:
اجتهدوا في مدْحِه، والثناء عليه، نعمْ، شأنه شأن أيِّ طاغية دكتاتوري في العالَم في أيِّ مكان، وفي كلِّ زمان، طغَى فرعون، وانفردَ بالحُكم سنين وسنين؛ لأنه لم يجدْ مَن يردَعُه عن طُغيانه وإفساده؛ قال لموسى - عليه السلام - يومًا: ﴿ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ﴾ [طه: 57]، وقالوا: ﴿ إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ﴾ [طه: 63]، فكان له السَّبْق والقُدوة، والمَثَل الأعلى في الطُّغيان والاستبداد، والانفراد بالحُكم لأطولِ فترةٍ ممكنة، والصلاحيات التي أعطاها لنفسِه عنوة؛ ليفرضَ رأيه وفسادَه على البلاد والعباد، وهذا هو دأبُ الحاكم الطاغي، الذي يستعِبدُ الشعب، ويسرق ثرواتِه، وقوتَ عيشه.

نَعَمْ، بطانةٌ كثيرًا ما سوَّلَتْ له سوءَ أفعاله، بل وأعانتْه على إفساده، فقلّبتْ له الأمور، وزيَّفت له الحقائق؛ ﴿ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [الكهف: 104].

هم مراكِز القُوى، والبِطانة المفسِدة، والحاشية الطاغية، فهي تتكوَّن وتقوَى كلَّما طالها مددُ حُكم الحاكم المفسِد في الأرض، لم يكن لفرعونَ أن يطغى أو يُفسِد في الأرض إلاَّ لِمَا كان من سلبية شعْبه، وتركه يستخفُّ بعقولهم، فيفعل بهم ما شاء؛ ﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ [الزخرف: 54].

وهم يُصدِّقون أفعالَه وأقواله، ويَمْدحون أقوالَه وأفعالَه، بل ويُصفِّقون له، ويُثنون عليه، مهما ثبَت خطؤها، وتبيَّن زيفُها، وما كان لفرعونَ أن يطغَى إلا ممَّا وجدَه من تشجيع بِطانته له، وانصياع شعْبه لأوامرِه، فمِن كثرة تملُّق بِطانته له ادَّعى أنَّه عليهم الربُّ الأعلى؛ ﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24]؛ وكل هذا تَقرُّبًا إليه، ليفوزوا بالنصيبِ الأوفرِ مِن السلطة والأموال، والهبات التي لا تُعدُّ ولا تُحصَى.

هُم الذين قالوا لفرعون: إنَّ موسى - على ما جاء به مِن البيِّنات - ساحرٌ عليم؛ ﴿ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأعراف: 109].

وهُم الذين أشاروا على فرعونَ بجَمْع السحرة يومَ الزِّينة؛ ليبارزوا موسى - عليه السلام - ﴿ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ﴾ [الأعراف: 111 - 112].

وهم الذين شجَّعوا فرعونَ على اضطهاد المؤمنين الصالحين المصلحين؛ ﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ ﴾ [الأعراف: 127].

هكذا تكون البِطانةُ الفاسدة، ومراكز القوى التي تُحيط بالحاكِم، فلا تُعينه على حقّ، ولا تدفعه إلى صَواب، وإنما إلى كل شرّ، وإلى كلِّ ظلم وإلى كل إفساد؛ لذلك تَرْوي السيدة عائشةُ - رضي الله عنها -: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إذا أراد الله بالأميرِ خيرًا جعَل له وزيرَ صِدْق، إنْ نسِيَ ذكَّره، وإن ذَكَر أعانه، وإذا أراد به غيرَ ذلك، جعَل له وزيرَ سوء، إنْ نسِي لم يُذكِّره، وإن ذَكَر لم يُعِنه))؛ رواه أبو داود، وصحَّحه الألباني.

ولنَعلمْ علمَ اليقين: أنَّ هداية البشريَّة وإصلاح البلاد، ليستْ في رؤوس مصدّري الظلم، ولا في عقول طواغيتِ الفساد، فلا يظنَّ أحد أنَّ النصر معلَّقٌ عليهم، أو مرهون بهم، وهم في هذه الحالة مِن السوء؛ من الفساد والإفساد!

ولذلك كانتْ مهمَّة موسى مع فرعون ليستِ الهداية والنُّصح فحسبُ، بل كانت لإخراجِ بني إسرائيل مِن ظُلْمِه وبَطْشه؛ ﴿ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [الأعراف: 105]، فالرهان على الشُّعوب الإسلاميَّة لا على المستبدِّين الذين استباحوا حُرُماتِ المسلمين، واستحلُّوا أقواتَهم وأعراضهم، يجب ألاَّ نُعوِّل عليهم نصرًا مثلَما لم يعوِّل موسى - عليه السلام - على فرعون هدايةً.

ذاقوا حلاوة الإيمان، فخرَجوا مِن رَحِم الطغيان:
إنَّ أشدَّ ساعات الليل ظلامًا تلك التي تَسبِق بُزوغَ الفَجْر، وأشدَّ أوقات السماء غيومًا تلك التي تَسبِق نزولَ الغَيْث، وأشَد لحظاتِ المرأة إيلامًا تلك التي تسبِق نُزولَ الولد!

مِن هذا الرُّكام الفاسِد، من وسط هذا الجوِّ الخانق، ومِن قلْب هذا الظلام الحالِك، جاء بصيصُ الأمل وخرَج شُعاع النور!

مَن كان يظنُّ أنَّ امرأةً - ماشطة ابنة فرعون - من أفقرِ الناس تتحدَّى الكفرَ بإيمانها، وتتحدَّى الاستبدادَ بقوة إيمانها، وتتحدَّى التعذيبَ بجَلَدها وصبرِها؟!

قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لما كانتِ الليلةُ التي أُسري بي فيها، أتَتْ عليَّ رائحةٌ طيِّبة، فقلت: يا جبريلُ، ما هذه الرائحة الطيبة؟ فقال: هذه رائحةُ ماشطة ابنةِ فرعون وأولادِها، قال: قلت: ما شأنُها؟ قال: بينا هي تَمشُط ابنةَ فرعون ذاتَ يوم إذ سقطتِ المِدرى مِن يدِها فقالت: بسم الله، فقالت لها ابنة فرعون: أبِي؟ قالت: لا، ولكن ربِّي وربّ أبيك اللهُ، قالت: أُخبِره بذلك؟ قالت: نعم، فأخبرتْه، فدعاها فقال: يا فلانةُ، وإنَّ لك ربًّا غيري؟! قالت: نعم، ربِّي وربُّك الله، فأمر ببقرة مِن نُحاس، فأُحميتْ، ثم أمر بها أن تُلقَى هي وأولادُها فيها.

قالت له: إنَّ لي إليك حاجةً، قال: وما حاجتُك؟ قالت: أُحبُّ أن تجمعَ عِظامي وعِظامَ ولَدي في ثوْب واحد، وتدفنَنا، قال: ذلك لِمَا لك علينا من الحقِّ، قال: فأمر بأولادها فأُلقوا بيْن يديها واحدًا واحدًا، إلى أنِ انتهى ذلك إلى صبيٍّ لها يرْضَع، وكأنها تقاعسَتْ مِن أجْله، قال: يا أُمَّهْ، اقتحمي، فإنَّ عذاب الدنيا أهونُ مِن عذاب الآخرة، فاقتحمتْ))، "قال: قال ابن عبَّاس: تكلَّم أربعة صِغار: عيسى ابن مريم - عليه السلام - وصاحِب جُرَيج، وشاهد يوسف، وابن ماشطة فرعون"؛ أخرجه أحمد وابن حبان والطبراني - كما هو مبيَّن في (التهذيب) - قال السيوطي: سنده صحيح، وقال ابن كثير: إسنادُه لا بأس به.

مَن أخرَج هذه المرأةَ المؤمنة من هذا الوسطِ الكافر؟! لا تتعجَّب، إنَّها إرادة الله!

مَن كان يظنُّ أن يخرجَ من وسطِ هذا الجوِّ الفاسد، والمناخ الظالِم، امرأةُ - آسية امرأة فرعون - المهرجَان، ومالِكةُ السلطان، وصاحبة الصَّوْلجان، صاحبة الأمْر والنهي في المكان؛ لتحيا مع ربِّها، وتنعمَ بإيمانها، وتؤسِّس لبيتها، هناك في جنَّة ربِّها؟! ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾﴿ ﴾ [التحريم: 11]، فجعلَها الله مثلاً للمؤمنين في كلِّ مكان، وعَبْر كلِّ زمان، إنَّها إرادة الله!

قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((حَسْبُك من نساء العالمين مريم بنت عمران، وخديجة بنت خُوَيلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون)).

مَن كان يظنُّ أن يخرج رجل - مؤمن آل فرعون - مِن أقصى المدينة، يدفعُه إيمانُه بالله، وحبُّه لدعوة الله، إلى نُصح نبي الله؟! ﴿ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ [القصص: 20]؛ يقْطَع الأميال، لا يُبالي بالاتِّكال، ولا يَعْبأ بالأغلال - أنكال الطغيان، وأغلال الشيطان - وإنما يُحقِّق الآمال في الحِفاظ على الدعوة الراشدة، والداعية الفعَّال، إنَّها إرادة الله!

مَن كان يظنُّ أن يتحوَّل أناس - سحرة فرعون - بعدَ أن رَغِبوا في أجْر الدنيا؟! ﴿ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِين ﴾ [الأعراف: 113]، وأقسَموا بعِزَّة الطاغية؛ ﴿ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ ﴾ [الشعراء: 44]، تحوَّلوا فآمنوا بالله، واعتقدوا في الآخِرة، واستهانوا بالدُّنيا، ولم يَجْزَعوا من الموت، يقولون لفرعون وهُم في ثباتِ الجِبال: ﴿ لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ [طه: 72].

إنَّهم لا يحرِصون على شيءٍ عندَه، ولا يخافونه على شيءٍ عندَهم، لماذا يخافون وقد ذاقوا حلاوةَ الإيمان؟! ولماذا يَضعُفون وقد ارْتكنوا إلى رُكن شديد؟! ولماذا يَهِنون وقد تبرَّؤُوا من حَوْلِهم وقوَّتهم إلى حوْلِ الله وقوته؟!

لقد انقلَبوا من أتْباع له، منفذين لأمره، مطيعين لقراره، إلى دُعاةٍ له، يُبشِّرون وينذرون، وبأمْر الله فقط يأمُرون، وبتوجيه الله فقط يَنصَحون؛ ﴿ إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 73].
مَن حَوَّل قلوبَهم؟ ومَن غيَّر وجهتَهم؟ ومَن بدَّل طريقَهم؟
لا تتعجَّبْ، إنَّها إرادة الله!

وانقلب السحر على الساحر:
قد يَستخدمُ أهلُ الباطل بعضَ الوسائل؛ لتفشِّي ظلمهم في البلاد، ولكن الله - سبحانه وتعالى - يقلب الأداةَ التي استخدمها أهلُ الفساد إلى أداة لخدمةِ الحقِّ وأهلة؛ ليجعل كيدَهم في نحورهم، وتكون الدائرة عليهم.

فقد استخدمَ فرعونُ السحرةَ كأداة ووسيلة؛ ليهزمَ بها موسى - عليه السلام - وليُسكت كلمةَ الحق، وليُطفئ نورَ الله - عزَّ وجلَّ - ولكن الله - سبحانه وتعالى - قَلَب هذه الأداةَ؛ لتكون وبالاً على فرعون وقومه، وخيبةَ أملٍ لهم، فقد آمَن بربِّ موسى جميعُ السحرة؛ لِمَا وجدوه من معجزة ليستْ من صُنع بشَر، وهكذا سُنة الله تعالى في خلْقه وكونه، فإنَّ مَن أراد العبث بأيِّ وسيلة، أو أيِّ أداة يمكن أن يستخدمَها لإسكات صوتِ الحق، وإحْكام سطوتِه على البلاد، وتفشِّي الظُّلمِ والفساد، إنَّما هي - بإذن الله - ستكون وبالاً عليه، وعلى مَن معه ممَّن وقَفوا بصِفِّه، وصفَّقوا له، وستكون خيبةَ أمل له ولقومه؛ ليُنهيَ الله - عزَّ وجلَّ - بها ظلمًا وفسادًا طال لسنوات وسنوات.
إنها إرادة الله.

وأنت أخي القارئ، قد تتخيَّل - ولو للحظاتٍ قليلة - أنَّ مِن شدَّة ظُلم الظالِم وبَطْشه وجبروته أنَّه لن يسقطَ ولن يقعَ، ومِن طول مددِه أنه لن يَنتهي، لكن أين فرعون وملؤُه الآن؟!
وكم تجبَّروا وعلَوْا في الأرْض وأفسدوا؟!

إنَّ ما تراه الآن مِن قوة الباطل، إنَّما هي في الحقيقة أهونُ على الحق من بيْت العنكبوت؛ لأنَّ القوي لا يَكيد المكائد، وإنما يُواجِه ويُناضل، ويتحدَّى وجهًا لوجه، وإنَّ الذي يَكيد ويتربَّصُ لخَصْمه؛ ليأتيَه من خلفه إنَّما هو الضعيف، وإنْ ظننتَ أنت فيه القوَّة، فكَيدُه خيرُ دليل على ضعْفِه ووهنِه، وأنَّه كلَّما ازداد كيدًا، ازداد ضعفًا.

وهكذا كان فرعون؛ ﴿ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ﴾ [طه: 60]، واسمع معِي بقلبك: ﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [الحشر: 2].

إرادةٌ نافذة، ومصير محتوم، ونهاية دراماتيكية:
عندَما ضرَب الموجُ وجهَ فرعون، وشعر بالماء يتسرَّب إلى جوْفه صرَخ قائلاً: ﴿ آَمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 90].

لم يَقبلِ الله هذا الإيمان، بل رفَضَه على الفور، قيل له: ما قِيمةُ هذا الإيمان بعدَ فوات الأوان؟! ﴿ آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [يونس: 91]، هل تُقبَل توبةُ هؤلاء وهم على عتَبات الآخرة؟
((مَن تاب إلى الله قبْلَ أن يُغرْغِر قبِل الله منه))؛ صحيح الجامع.

أمَّا فرعون، فقد نجَّى الله بدنَه؛ ليكونَ آيةً للفراعنة مِن بعده؛ ﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾ [يونس: 92]؛ لكي يتحوَّلوا عنِ الفسادِ والإفساد، إلى الصلاح والإصلاح، عن الظُّلم والاستبداد، إلى العَدْل والشورى، لكن هيهات هيهات! إنَّهم يأخذون المنهج نفسه، ويسلكون ذاتَ الطريق - طريق الملعون فرعون - إلاَّ مَن رحِم ربي وعصَم.

أمَّا موسى - عليه السلام – فقد نجَّاه الله وقومَه مِن الغرَق، ومِن البطش، وظنَّ موسى - عليه السلام - أنَّ فرعونَ سيلحق به، فأراد أن يضرِبَ البحر مرَّةً أُخرى؛ ليفصلَ البحر بينهما، لكنَّ الله أراد الأفْضل، وهو دائمًا يريد للمؤمنين الأفضل؛ ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 27]، ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28].

وعندَما أراد االبدريُّون في غزوة بدْر أن يَحصُلوا فقط على البضائع والأموال، أرادَ الله فوقَ ذلك؛ أن يُخلِّصهم من صناديدِ الكفر والطغيان، وقد كان؛ ﴿ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ﴾ [الأنفال: 7].

وهنا أراد اللهُ أن يقضيَ على فرعون إلى الأبد، ويُخلِّص منه البلادَ ويريح منه العباد؛ ﴿ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ﴾ [الدخان: 24]، وغرِق الطاغيةُ في الفساد، الذي كان ينشُرُه ويُمرِّره.

مَن أراد تغييرَ هذا الجو؟ ومَن أراد تبديلَ هذا الحال؟
لا تتعجَّب، إنَّها إرادة الله!

ويُخبِرنا الله - تبارك وتعالى - عن مصيرِ فرْعون المتوقَّع، والمعروف، والذي هو نهاية كلِّ ظالِم ومفسِد؛ ﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: 46]، وأنَّ قومه الذين وافقوه الرأيَ، وبِطانتَه السيئة، التي شجَّعتْه على الفساد، وكانوا لا يقلُّون عنه مفسدةً؛ ﴿ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ﴾ [هود: 98].

وأنَّهم مثلَما ألْغَوْا عقولهم وقلوبهم، وأبصارهم ومسامعهم، فلم يرَوُا الصواب إلاَّ فيما رأَى، ولم يسمعوا إلا كلمتَه، وكيف أنَّه كان يُفكِّر هو نيابةً عنهم، واتبعوه في الدنيا، سيتَّبِعونه أيضًا، ويقودهم هو يومَ القيامة إلى النار مثلَما قادَهم في الدنيا إلى الظُّلم والفساد، وهذه هي سُنَّة الله - عزَّ وجلَّ - في كونه؛ أنَّ مَن اتَّبع الظلم والفساد في الدنيا، وألْغَى عقلَه، وأسكتتْه المناصِب والأموال، وقُتِل الإيمان في داخلِ فطرته السليمة، التي كانت دائمًا تدلُّه على الخير، وباع نفسَه ودِينه وآخرتَه بعَرَض من الدنيا زائل - لا تتعجَّب أن يكون مصيرُه كمصيرِ مَن اتبع؛ جهلاً منه وظلمًا!

إنَّ المستبِدِّين لا يَقْدرون على التحدِّي، ولا يستطيعون المواجهة، ولا يُطيقون حتى الحوار، فكلُّ مستبِدٍّ إلى زوال، وكلُّ ظالم إلى فناء، مثلَما زال فرعونُ ومَن معه؛ لتبقَى كلمةُ الله هي العليا، ويعمَّ الخيرُ أرجاءَ البلاد، وأنحاء العباد.

حلاوة الإيمان تُليِّن القلوب، وتهوِّن الخطوب:
إنَّ المؤمِن الذي تذوَّق حلاوةَ الإيمان، يعتقد أنَّ رِزقه مقسوم، وأجَلَه محتوم، لا يستطيعُ أحدٌ أن يَحُول بيْنه وبيْن ما قسَم الله له مِن رِزْق، ولا أن ينتقصَ ما كتَب الله له من أجَل، وهذه العقيدة تُعطيه ثقةً لا حدودَ لها، وقوَّةً لا تقهرها قُوَّة، ومثلَما كان مِن هؤلاء الذين أنْعَم الله عليهم بالإيمان في قصْر فرعون، كان الرجل - مِن الذين سلَكوا ذات الطريق، وأخذوا نفسَ المنهج - يذهب إلى المَيْدان، مجاهدًا في سبيلِ الله، فيعترض سبيلَه المثبِّطون، ويُخوِّفونه مِن ترْك أولاده، فيقول: علينا أن نُطيعَه - تعالى - كما أمرَنا، وعليه أن يَرْزُقَنا كما وعدَنا.

كان المعوِّقون والمخذِّولون يَذهبون إلى المرأةِ، فيُثيرون مخاوفَها على رِزْقها، ورِزْق عِيالها، إذا ذَهَب زوجُها إلى الجهاد، فتُجيبهم في ثِقة واطمئنان: زَوْجي عرفتُه أكَّالاً ولم أعرْفه رزَّاقًا، فإنْ ذهَب الأكَّال فقد بقِي الرزَّاق!

والرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((سيِّد الشهداء حمزة بن عبد المطَّلب، ورجلٌ قام إلى إمامٍ جائِر، فأمرَه ونهاه فقتَله))؛ رواه الحاكم على شرْط الصحيحين، ((أفضل الجهادِ كلمةُ حقٍّ عند سلطان جائر))؛ أبو داود والترمذيُّ وابن ماجه.

وقد كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يأخذ العهدَ مِن أصحابه أن يقولوا الحقَّ أينما كانوا؛ متَّفق عليه.

والحقُّ يجب أن يؤمِن به ويُبلِّغه الفقيرُ والغني، البعيدُ والقريب، الحاكم والمحكوم، الرَّجل والمرأة، طالَمَا خالط الإيمانُ بشاشةَ قلوبهم، فقد كانتْ ماشطة ابنة فرعون فقيرةً، وكانتِ امرأة فرعون غنيَّة، وهي زوجةُ الطاغية، وكان مؤمِنُ آل فرعون ابنَ عمِّ الطاغية، وكان السَّحَرة من عامَّة الناس، لكنَّ الكلَّ آمَن بالحقِّ وبلَّغه على ما يُرام، ولم يتركوا حُجَّة لأحدٍ حتى يتقاعس.

ذلك هو شأنُ الإيمان إذا تعمَّقتْ جذوره في القلْب، وقَوِي سُلطانه على النفس، إنَّه يمدُّ صاحبَه بيقين لا يَهِنُ، وهِمَّة لا تَنْثَني، وأمَل لا يخبو، ودافِع لا يتوقَّف، وعزْم لا يخور، هو يملك الدُّنيا ولكنَّها لا تملكه، ويجمع المال ولكنَّه لا يستعبده، وتُحيط به النعمة، ولكنَّها لا تُبطره، وينزل به البلاءُ، ولكنَّه لا يَقْهره، لا تَزيده الشدائدُ إلا عزيمةً مع عزيمته، وقوَّة إلى قوَّته، كالذهب الأصيل، لا تَزيده النار إلا نقاءً وصفاءً.

اللهمَّ اجعلْنا من جُند الحق، وأتْباع الرسل، وأنْصار الله، اللهمَّ ارزُقْنا الإخلاص في القوْل والعمل، ولا تجعلِ الدنيا أكْبرَ همِّنا، ولا مبلغَ عِلمنا، وصلِّ اللهمَّ على سيِّدنا محمد، وعلى أهْله وصحْبه وسلِّم.

والحمد لله رب العالمين.


شبكة الألوكة
 تم النشر يوم  الأربعاء، 21 أغسطس 2013 ' الساعة  9:48 ص


 
Toggle Footer