الاثنين، 19 أغسطس 2013

{بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:66]


رامي بن أحمد ذوالغـنى


خطابٌ من الله جل جلاله إلى حبيبه وصفيِّه محمد -صلى الله عليه وسلم- يأمره أن يعبدَه وحدَه لا شريك له، وأن يجعلَ محور عبوديَّته لربه شُكرَه على نعمه الدينية والدنيوية.
قال السعدي رحمه الله: ((أخلص له العبادةَ وحدَه لا شريك له، وكن من الشاكرين على توفيق الله - تعالى- فكما أنه يُشكر على النِّعَم الدنيوية كصحَّة الجسم وعافيته وحصول الرزق وغير ذلك، كذلك يُشكر ويُثنى عليه بالنِّعَم الدينية كالتوفيق للإخلاص والتقوى، بل نِعَمُ الدين هي النِّعَمُ على الحقيقة، وفي تدبُّر أنها من الله – تعالى- والشكر لله عليها سلامةٌ من آفة العُجْب التي تَعرض لكثير من العاملين بسبب جهلهم)).

فهذا الخطاب من الله لنبيِّ الأمة، خطابٌ لكلِّ فرد من أفرادها، قال ابن كثير: ((أي أخلص العبادةَ لله وحدَه لا شريك له، أنت ومن اتَّبعك وصدَّقك))، فكان لزاماً على كلِّ مسلم أن يكونَ شكره ملازماً لعبوديته لربِّه، فمَن شكر الله كان عابداً له، ومن لم يشكره فليس من أهل عبادته، قال تعالى: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172].

والخلقُ منقسمون إلى شاكر وكافر، قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3]، وقال: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الزمر: 7]، وقال: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40].

ولما كان مقامُ الشكر من أجلِّ مقامات العبوديَّة لله عز وجل، كانت غايةُ إبليس الكبرى في إغوائه بني آدم أن يُخرجَهم من دائرة الشكر، قال - تعالى- مبيِّناً كيد الشيطان ومكرَه ودأبه في الإغواء وغايته؛ ليتَّخذه الناس عدوّاً ويحذروه: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17].

فما الشكرُ، وكيف يكون العبدُ شاكراً؟
قال الراغب الأصفهانيُّ رحمه الله: ((الشكر: تصوُّر النعمة وإظهارُها، ويُضادُّه الكفرُ، وهو: نسيانُ النعمة وسَترُها، ودابَّةٌ شكورٌ: مُظهرةٌ بسِمَنِها إسداءَ صاحبها إليها، وقيل: أصلُه من عَينٍ شَكرى، أي: مُمتلئة، فالشكرُ على هذا هو الامتلاءُ من ذِكر المنعَم عليه. والشكرُ ثلاثة أضرُب: شكرُ القلب، وهو تصوُّر النعمة، وشكرُ اللسان، وهو الثناء على المنعِم، وشكرُ الجوارح، وهو مكافأة النعمة بقَدر استِحقاقِه)).

وقال ابن القيِّم رحمه الله: ((الشكر مبنيٌّ على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبُّه له، واعترافه بنعمه، وثناؤه عليه بها، وألا يستعملَها فيما يكره)).

وقال الغزاليُّ رحمه الله: ((اعلم أن الشكرَ ينتظم من علم وحال وعمل، فالعلمُ معرفة النعمة من المنعم، والحالُ هو الفرح الحاصلُ بإنعامه، والعملُ هو القيامُ بما هو مقصود المنعم ومحبوبه)).

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليتَّخِذ أحدُكم قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وزوجةً صالحةً تُعينُه على أَمرِ الآخِرَة))، وقال: ((قلبٌ شاكر، ولسانٌ ذاكر، وزوجةٌ صالحة تُعينك على أمر دُنياكَ ودينك خيرُ ما أكنز الناس)).

وقد أمر الله نبيَّه بالشكر فقال: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث} [الضحى: 11]، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((التحدُّثُ بنعمة الله شكر وتَركُها كفر، ومَن لا يَشكرُ القليل لا يَشكرُ الكثير))، وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: ((اللهمَّ اجعَلني لكَ شَكَّاراً)).

وأما حالُه وهو سيِّد الشاكرين فقد وصفته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- فقالت: كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صلَّى قام حتى تَفطَّرَ رجلاه، قالت عائشة: يا رسولَ الله، أتصنع هذا وقد غفر الله ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟! فقال: ((يا عائشةُ، أفلا أكونُ عبداً شكوراً)).

ومن وصاياه - عليه الصلاة والسلام- لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: ((لا تَدَعَنَّ في دُبُر كلِّ صلاةٍ أن تقولَ: أَعِنِّي على ذِكركَ وشكركَ وحُسن عبادتك))، والشكرُ كما قال بعض العلماء نصف الإيمان، ورُويَ عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: ((الإيمانُ نصفُ صَبرٍ ونصفُ شكرٍ)).

قال ابن القيم رحمه الله: ((الإيمانُ اسمٌ لمجموع القول والعمل والنيَّة، وهي ترجعُ إلى شَطرين فعلٍ وتركٍ، فالفعلُ هو العمل بطاعة الله وهو حقيقةُ الشكر، والتَّركُ هو الصبر عن المعصية، والدِّين كلُّه في هذين الشيئين: فعلُ المأمور وتركُ المحظور))، وقال أيضاً: "وكلٌّ من الصبر والشكر داخلٌ في حقيقة الآخَر لا يمكن وجودُه إلا به، وإنما يعبَّر عن أحدهما باسمه الخاصِّ به باعتبار الأغلَب عليه والأظهَر منه، وإلا فحقيقةُ الشكر إنما يلتئم من الصبر والإرادة والفعل، فإن الشكرَ هو العملُ بطاعة الله وترك معصيته، والصبرُ أصل ذلك، فالصبرُ على الطاعة وعن المعصية عينُ الشكر، وإذا كان الصبرُ مأموراً به فأداؤه هو الشكر".

ومَن تأمَّل قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]، علم أن غايةَ الخلق والأمر شكرُ الله عز وجل.

قال الغزاليُّ رحمه الله: ((اعلم أن العبدَ لا يكون شاكراً لمولاه إلا إذا استعملَ نعمته في محبته، أي فيما أحبَّه لعبده، وأما إذا استعمل نعمتَه فيما كرهه فقد كفر نعمته كما إذا أهملها وعطَّلها .. وفعلُ الشكر وتركُ الكفر لا يتم إلا بمعرفة ما يحبُّه الله مما يكرهه))، وقال أيضاً: ((لم يقصِّر بالخلق عن شكر النعمة إلا الجهلُ والغفلةُ عن معرفة النعم، ولا يُتصوَّر شكر النعمة إلا بعد معرفتها، ثم إنهم إن عرفوا نعمةً ظنوا أن الشكرَ عليها أن يقول بلسانه: الحمد لله، والشكر لله، ولم يعرفوا أن معنى الشكر أن يستعملَ النعمة في إتمام الحكمة التي أُريدت بها وهي طاعةُ الله عز وجل، فلا يمنع من الشكر بعد حصول هاتين المعرفتين إلا غلبةُ الشهوة واستيلاءُ الشيطان".

ولا يزال العبدُ بخير ما تعرَّف نعمَ ربه واعترف بفضله عليه، وأقرَّ بافتقاره إليه، وكان على مراده جلَّ شأنُه في استعمالها فيما يُرضيه، وسواء في ذلك النعمُ الدينية والدنيوية، قال الحسن البصريُّ رحمه الله: ((مَن لا يرى لله عليه نعمة إلا في مَطعم أو مَشرب فقد قصر علمه وحضر عذابه)).

وحريٌّ بالعبد إن وفَّقه الله إلى الشكر، أن يشكرَه على ذلك، فالإعانةُ على الشكر نعمةٌ تستوجبُ الشكر، ولا يزال العبدُ بمزيد من ربِّه ما كان شاكراً لأنعُمه: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].

فاللهم أعنَّا على الشكر وأكرمنا بالمزيد حتى نلقاكَ وأنت راضٍ عنا في يوم المزيد، والحمد لله رب العالمين.


شبكة الألوكة
 تم النشر يوم  الاثنين، 19 أغسطس 2013 ' الساعة  9:27 ص


 
Toggle Footer