الأربعاء، 21 أغسطس 2013

الطغيان في الأرض


 الشيخ إبراهيم بن صالح العجلان


الحمد لله العزيز الجبار، القوي القهار، مكور النهار على الليل، ومكور الليل على النهار، أحمده سبحانه وأشكره على فضله وخيره المدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعز من يشاء ويذل من يشاء ويخلق ما يشاء ويختار، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله الأطهار، وصحابته الأخيار، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم القرار.

أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - وارعوا حرمات ربكم، وقفوا عند حدوده، وأدوا حقوق خلقه قبل أن لا يكون درهم ولا دينار، وإنما هي الحسنات والسيئات، ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7 - 8].

إخوة الإيمان:
هو أخطر الآفات، بل هو ظلم وظلمات، إذا حل بالديار، حلت معه الفواجع، وانتشرت المواجع، يقتل الإبداع، ويخنق الحريات، ويهين الكرامة، يفسد الصدور، ويورث التناحر والإذلال!!!! إنه الطغيان.... ذاك المرض الذي أنَّ لهوله كرائمُ الرجال.
فما هو الطغيان، وما آثاره، وكيف هي صوره، ومن أبرز رموزه؟

نتحدث عن هذا السرطان الخبيث، ونحن نرى ونسمع هتافات المسلمين، مستبشرة بسقوط أحد دهاقنته في هذا العصر، والذي كان مضرب المثل في عتوه ومحادته، وقبضته الحديدية على شعبه وبلده، ولكن أتته سنة الله في الظالمين، فأذله الله في دنياه قبل أخراه، ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ﴾ [إبراهيم: 42].

الطغيان – أعاذنا الله منه – من أعظم أسباب هلاك الإنسان وهوانه عند ربه، ولذا حذر المولى رسوله – صلى الله عليه وسلم – من هذه الصفة البغيضة، فقال سبحانه: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ﴾ [هود: 112].
فالطغيان غريزة مدفونة في بعض النفوس، قابلة للانفجار، متى ما توفرت أسبابها ومشعلاتها ومهيجاتها.

فهذه الأرض، خلقها ربها للأنام، وأصلحها لأهلها، ولكن أبى الإنسان الجهول الظلوم إلا أن يفسد فيها، وإفسادها يكون بعصيان الله فيها، من الكفر به والإشراك معه، والظلم فيها، والفسق عليها.

لقد قص علينا ربنا تعالى خبر بعض من طغى من بني الإنسان، ونقل لنا شيئًا من أقوالهم، التي تكاد تنخلع من هولها الجمادات.

فوجد من بني الإنسان الضعيف من قال: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24]، ووجد من بني الإنسان الخصيم من قال: ﴿ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ [البقرة: 258]، ووجد من بني الإنسان المخلوق من نطفة من قال: ﴿ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [ص: 5]، ووجد من بني الإنسان الكفور من يقول: ﴿ إنما أوتيته على علم عندي ﴾، ووجد من بني الإنسان من يقول: ﴿ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ﴾، ومن يقول: ﴿ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ﴾.

ولم ينته طغيان الإنسان عند هذا، بل استمر الطغيان مع بني الإنسان حتى مع عصر التقدم والرقي، فكان من بني الإنسان من يقول: الدين أفيون الشعوب!
وجاء من بني الإنسان من يقول: إن الشريعة غير صالحة لزماننا هذا، وإن الحدود الشرعية قد عفى عليها الزمن!
وجاء من بني الإنسان من نادى بفصل الدين عن الحياة!
وجاء من بني الإنسان من وصف الشريعة بأنها قيدت حرية المرأة! إلى غير ذلك من مقولات طغيانية.

فالطغيان انحراف في الفكر، وانتكاسة في التصور، وكما يكون في الأفراد، يكون أيضًا في الجماعات والأمم، كما قال سبحانه: ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ﴾ [الشمس: 11].

وأعظم الطغيان وأخطره، وأشده انحرافًا وآثارًا، الطغيان في الملك والحكم، لقد قص علينا ربنا سبحانه أخبار من طغوا في ملكهم، فعتوا عن أمر ربهم، وعصوا رسله، وأوضح لنا سبحانه أوصافهم وأقوالهم، وكيف كانت نهايتهم، قص علينا ذلك، لا للتسلية، وإنما لأخذ العبرة والعظة، والتحذير من التأسي بهم.

فالطغيان ليس قضية ماضية بل سنة باقية، والوقوف على صفات طغاة الأمس من خلال نور القرآن يعطينا معالم لصفات طغاة اليوم، إذ إن السنن تتكرر، وأفعال بني الإنسان تتشابه، ﴿ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴾ [الذاريات: 53].

طاغية كثر ذكره في القرآن الكريم، ووردت قصته في سبع وعشرين سورة، هو صورة فريدة للطاغية المتجبر، وقومه صورة أخرى للشعوب التي أذلها الطغيان.

إنه طغيانٌ فاق كل حدٍ وحدود، إنه طغيانُ من قال: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾، وقال: ﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾، وقال: ﴿ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ﴾.

إنه طغيانٌ كان نتيجته ونهايته ومآله عليه وعلى قومه أنه: ﴿ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ﴾ [هود: 98].

فما هي معالم طغيان فرعون، وما هي ملامح سياسته العاتية، التي استحق بها هذا العذاب والنكال؟
إننا حين نستعرض آيات القرآن، تتضح لنا بعض الملامح العامة في المنهج الفرعوني في الطغيان، مع كفره بربه، وادعاءه للربوبية.

من هذه الملامح:
العلو والتكبر في الأرض، والتزاهي على الآخرين بالملك والجاه والمال، قال سبحانه: ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ ﴾ [القصص: 4]، وقال تعالى: ﴿ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [القصص: 39].

ومن مباهاته ومفاخراته أن جعل يستحقر الآخرين ويعيبهم فقال عن موسى: ﴿ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ﴾ [الزخرف: 52].

هذا الزهو والتزاهي، واحتقار الآخرين مع أكل حقوقهم، وسلب مقدراتهم وإراداتهم، هو الفساد بعينه، قال تعالى: ﴿ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ﴾ [الفجر: 10 - 12].

ومن أبرز معالم الطاغية:
استرخاصه للدماء، وإذلاله لشعبه، فتهدر الدماء، لأتفه الأسباب، بل إن فرعون أصدر أوامره بقتل كل مولود، حين رأى حلمًا أزعجه، فعبُر له: أنه يولد في بني إسرائيل مولود يكون عليه زوال ملكك.

وهكذا تسال الدماء، وتقتل أرواح الأبرياء، لأجل المنامات، قال سبحانه عن فرعون: ﴿ يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ﴾ [القصص: 4].

وقال فرعون لبطانته مهددًا ومتوعدًا شعبه: ﴿ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ﴾ [الأعراف: 127].

ومن ملامح الصفات الفرعونية:
أكل خيرات البلاد، وادعاؤه أن ذلك حق له خلق له، فكانت الأثرة له ولبطانته ولزبانيته، وعاش بنو إسرائيل بعدها على فتات موائدهم، ﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الزخرف: 51].

هذا الطغيان المادي، والأثرة في أكل الخزائن، مع الكفر والعناد، جعل موسى عليه السلام يدعو على فرعون وملأه بقوله: ﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس: 88].

ومن أبرز معالم طغيان فرعون:
معاداته للدين وأهله، يستخدم أشد أنواع التعذيب والتنكيل، بمن اتبع دين موسى، فتوعد السحرة حين آمنوا بقوله: ﴿ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ﴾ [طه: 71].

مع أن هؤلاء المؤمنين ما نازعوا فرعون في ملكه، وما نادوا بالخروج عليه، وإنما أعلنوا إيمانهم وأظهروا شعائر دينهم، فما احتمل هذا الدينَ الطغيانُ الفرعوني، ﴿ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ﴾ [طه: 60]، ومع هذه القسوة في التعذيب والاضطهاد في الدين: ﴿ مَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ ﴾.

ومن ملامح طغيان فرعون:
ادعاؤه معرفة الحقيقة، فرأيه هو الصواب دائمًا، وقوله هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والويل ثم الويل لمن خالف أمره ورأيه، قال فرعون مفاخرًا ومتعاليًا: ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾.

هذا الرأي الفرعوني كان يلاقي كل مدح ومديح، فكل أمر عنه فهو عظيم، وكل قرار ولو كان سفكًا للدماء فلا يصدر إلا من حكيم، ولذا كان من شقاء فرعون أنه كان محاطًا بحاشية سيئة، وبطانة متملقة أكالة، تزين له المنكر، وتحضه على الشر، فقالت تلك البطانة عن موسى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأعراف: 109]، وقالت محرضة: ﴿ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ﴾ [الأعراف: 127].

عباد الله:
التشويه الإعلامي للخصوم، سياسة فرعونية قديمة، فحين استجاب من استجاب لدعوة موسى وآمن السحرة وعذِّبوا، أرسل فرعون أبواقه في الآفاق محذرًا من موسى وأتباعه، ومقللاً من شأنهم، قال تعالى: ﴿ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ﴾ [الشعراء: 53 - 56].

 ومن سياسة الطغيان الفرعوني في مواجهة الحق، شراء الذمم بالمال، والإغراء بالوجاهة والمناصب، قال تعالى: ﴿ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ [الأعراف: 113 - 114].

ومن ملامح طغيان فرعون:
المجادلة واللجاجة في الباطل، فقد قص علينا القرآن كثرة جدال فرعون مع ضعف حجته وسفاهة رأيه فقال لموسى مجادلًا: ﴿ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ وقال: ﴿ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى ﴾ وقال: ﴿ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ﴾، هذه المجادلة ليست بقصد الوصول إلى الحق، وإنما بقصد رد الحق وإضعافه، قال تعالى: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُس-هُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ [النمل: 14].

ومن أبرز ملامح طغيان فرعون:
تهديد الخصوم بالسجن، وملء المعتقلات بالمظلومين، فحين جادله موسى في الربوبية، وبطلت حجته، وانقطعت، جاء التهديد الفرعوني، بقوله: ﴿ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ﴾ [الشعراء: 29].

يتغنى فرعون بالوطنية ﴿ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ﴾ ثم هو يحارب أبناء وطنه وشعبه، تارة بالقتل، وتارة بالسجن، وتارات بالفقر والجوع، ونشر الفرقة بينهم؛ ﴿ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا ﴾.

هذه السياسة الفرعونية، بقهرها وقبضتها الحديدية جعلت من فرعون صنمًا مطاعًا طاعة عمياء، طاعة طمعًا في الدنيا، ولأجل العاجلة، هذا الانحراف في الطاعة عبر عنه القرآن بالاستخفاف، قال تعالى: ﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾.

إخوة الإيمان:
معاداة الدين معركة محسومة، ونهايته متيقنة، "لن يشاد الدين أحد إلا غلبه"، ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ﴾ وقديمًا قال الطاغية اليهود حيي بن أخطب: من يغالب الله يغلب.
ومهما طال ليل الظلم، فإن صبح العدل والحرية سينبلج.

تنام عين الطاغية، وعين الله لم تنم، ينام كالجيفة، على أرائكه ومفارشه، وما علم أن هناك أرجل قد وقفت في ظلمات الأسحار، وأكف مقهورة، ترفع ظلامتها، للملك العلام.

فبينما فرعون في غيه سادر، وفي ظلمه قاهر، إذ أتاه أمر ربه بغتة , يخرج الشقي منتفخًا ثائرًا، يطلب دم كليم الرحمن، وفي لحظة لم يستعد لها، إذا به يصير هاربًا بعد أن كان طالبًا، هاربًا من جند من جنود الله، ﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ﴾ [المدثر: 31]، طوفان عظيم ابتلعه هو وأقاربه وزبانيته، ﴿ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴾.

ذهب الطاغية وذهب معه غروره وكيده، فكأنه ما كان هو ولا ملكه، وجعله ربه عبرة لكل طاغية بعده، فلفظه البحر على شاطئه ليراه الناس، ﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾ [يونس: 92].

فيا لله هذه نهاية الطغيان، هذه الجثة التي يراها الناس، كانت يومًا من الدهر تقول: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى.
كم أرعدت وأبرقت هذه الجثة، وأرعبت بخطاب: ﴿ لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ﴾.
فأف والله من الطغيان وأهله، أف والله من حقارة الإنسان، حين يطغى ويتكبر، ويتعالى ويتجبر.

قل لي بربك هل وجدت سبيلا
وهل اتخذت إلى النجاة سبيلا
ماذا تقول لمن سيحصي كلَّ
ما قد كان منك كثيرَه وقليلا؟
ماذا تقول لصاحب الجبروت
في يوم يصير به العزيز ذليلا؟
أتقول إنك قد نبذت كتابه
ورضيت قانون الضياع بديلا؟
أتقول إنك قد سجنت دُعاته
وجعلت قيد الصالحين ثقيلا؟
ها أنت تخرج من حياتك عاجزا
وتركت خلفك قصرك المأهولا

أقول قولي هذا.. وأستغفر الله تعالى.
  
الخطبة الثانية

أما بعد فيا إخوة الإيمان: 
وكما يكون الطغيان في الملك، يكون الطغيان في صور أخرى، والنفس البشرية مهيأة أن تنزع نحو الطغيان، إذا توفرت وتهيأت لها أسبابها، والمعصوم من عصمه الله.

فمن أسباب الطغيان:
السعي في جمع المال والحرص عليه وعلى تكديسه من الحلال أو من الحرام، فهذا يورث الطغيان، قال تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق: 6 - 7].

إيثار الحياة الدنيا والرضا بها، ونسيان الآخرة، والتغافل عنها، نوع من الطغيان، ﴿ فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 37 – 39].

النفرة من أحكام الله وتشريعاته، يورث الطغيان، والانحراف، قال تعالى: ﴿ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ﴾ [المائدة: 64].

إذا نزلت العبر والعظات، والآيات والمثلات، فلم تتعظ لها القلوب، ولم ترتجف لها النفوس، فهذا مؤشر لا يبشر بخير، يخشى على صاحبه من الطغيان، قال تعالى: ﴿ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 60].

عباد الله:
ومن خطر الطغيان وخطورته، أن المرء قد يصل درجته ويتقلب فيه، وهو لا يشعر به، لأنه قد حجب عنه نور الحق، ﴿ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الأنعام: 110].

فاتقوا الله أيها المؤمنون، واحذروا من الطغيان وصوره، فهو داء يبغضه الله، ويكره أهله، وتوعدهم بأشد الوعيد وأغلظه، قال تعالى: ﴿ هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [ص: 55 – 56]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآبًا ﴾ ويكفي الطغيان شؤم وبلاء، أن الشجر والدواب تتأذى من أفعال أهل الطغيان، وفي الحديث "والعبد الفاجر يستريح منه العباد والشجر والدواب".

عباد الله:
صلوا بعد ذلك على الهادي البشير والسراج المنير.


شبكة الألوكة

 تم النشر يوم  الأربعاء، 21 أغسطس 2013 ' الساعة  9:45 ص


 
Toggle Footer