الأحد، 14 يوليو 2013


الريح المرسلة



 د. محمد بن عبدالله بن إبراهيم السحيم 


إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.


أما بعد، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ ﴾ [النساء: 1] ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ [آل عمران: 102] ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا ﴾ [الأحزاب: 70].


أيها المؤمنون!
الجود عطاء واسع قد وُضِع موضعه، وهو من أرفع درجات الكرم مما أحب الله - سبحانه - وتسمّى به، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: « إن الله تعالى جواد، يحب الجود، ويحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها » رواه ابن أبي شيبة وصححه الألباني. حدّث جبير بن مطعم - رضي الله عنه - أَنَّهُ بَيْنَا هُوَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَمَعَهُ النَّاسُ، مُقْبِلًا مِنْ حُنَيْنٍ، عَلِقَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الأَعْرَابُ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ، فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ، فَوَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: «أَعْطُونِي رِدَائِي، فَلَوْ كَانَ عَدَدُ هَذِهِ العِضَاهِ نَعَمًا، لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لاَ تَجِدُونِي بَخِيلًا، وَلاَ كَذُوبًا، وَلاَ جَبَانًا » رواه البخاري، وقد سأله رجل غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ: «أَيْ قَوْمِ، أَسْلِمُوا؛ فَوَاللهِ! إِنَّ مُحَمَّدًا لَيُعْطِي عَطَاءً؛ مَا يَخَافُ الْفَقْرَ! » رواه مسلم. كان ذا شأنَه - صلى الله عليه وسلم -؛ يعطي عطاء يعجز عنه الملوك، ويعيش مع ذويه عيش الفقراء.


عباد الله!
وفي رمضان يتضاعف جود النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعظم؛ حتى وصف ابن عباس - رضي الله عنهما - ذلك الجود بمثَل تقريبي فاق فيه المشبَّهُ المشبَّهَ به فقال: « كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ » رواه البخاري ومسلم. جودٌ فاق سرعة الريح المطلقة التي تسوق الخير والرحمة، وعطاءها، ومدتها، ومساحتها؛ إذ ليس لجوده الرمضاني حدّ ينتهي إليه كما الريح، وليس له انقطاع؛ فما سئل شيئاً إلا أعطاه.


أيها المسلمون!
ومضاعفة جوده - صلى الله عليه وسلم - في رمضان متابعة لسنة الله في عباده؛ لِأَنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَى العِبَاد فِيهِ زَائِدَةٌ عَلَى غَيْرِهِ. ومضاعفة الجود من آثار معاشرة القرآن ومخالطة من نزل به؛ فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتدارسه مع جبريل - عليه السلام -في رمضان؛ فتُجَدِّدُ لَهُ تلك المدارسة والمخالطة الْعَهْدَ بِمَزِيدِ غِنَى النَّفْسِ، وَالْغِنَى سَبَبُ الْجُودِ. واستشعار شرف الزمان الذي تعظم فيه الأجور وفضيلةِ إعانة الآخرين على الطاعة من الأسباب الداعية لمضاعفة الجود في رمضان؛ ليستوجب المعينُ لهم مثلَ أجرهم؛ كما أن من جهّز غازياً أو خَلَفَه في أهله فقد غزا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: « مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْء » رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. وطلب الرحمة من دواعي مضاعفة الجود؛ فرمضان شهر يجود الله فيه على عباده بالرحمة والمغفرة والعتق من النار - لا سيما في ليلة القدر -، وأرجى ما تكون رحمة الله بالرحماء، كما قال صلى الله عليه وسلم: " إنما يرحم الله من عباده الرحماء" رواه البخاري ومسلم؛ فمن جاد على العباد بالرحمة جاد الله عليه بالعطاء والفضل، والجزاء من جنس العمل، والله أحق بالإحسان من عبده. واجتماع الجود مع الصيام من أحرى أسباب دخول الجنة، روى مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من أصبح منكم اليوم صائماً "؟ قال أبو بكر: أنا، قال: " من تبع منكم اليوم جنازة "؟ قال أبو بكر: أنا، قال: " من تصدق بصدقة "؟ قال أبو بكر: أنا، قال: " فمن عاد منكم مريضاً "؟ قال أبو بكر: أنا، قال: " ما اجتمعن في امرىء إلا دخل الجنة ". والجمع بين الصيام والصدقة من أبلغ ما تُكفّر به الخطايا، وتُتّقى به النار وتُبعد، خاصة إن انضم إليها قيام الليل، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصيام جنة من النار كجنة أحدكم من القتال " رواه أحمد وصححه ابن خزيمة، وقال: "الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وقيام الرجل من جوف الليل " - أي: أنه يطفئ الخطيئة - رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. والصيام من جماع الصبر، وفي اقترانه بالجود جماع الخلق الحسن، قال شيخ الإسلام: " وَمَا ذَكَرَهُ فِي قِصَّةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ أَمْرِ السَّخَاءِ وَالْجُودِ وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ الْحِلْمِ وَالصَّبْرِ: هُوَ جِمَاعُ الْخُلُقِ الْحَسَنِ، كَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ﴾ [آل عمران: 134] الْآيَةَ، كَمَا قِيلَ:
 
بِحِلْمِ وَبَذْلٍ سَادَ فِي قَوْمِهِ الْفَتَى
وَكَوْنُك إيَّاهُ عَلَيْك يَسِيرُ " أهـ


والجود من أسباب جبر النقص وترقيع الخلل الذي يكتنف الطاعة مما لا يكاد أحد أن ينفك عنه؛ ولذا شرعت زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو الرفث.


أيها المسلمون!
ليس الجود حكراً على المال، بل هو صنوف ودرجات كما ذكر ابن القيم - رحمه الله -، والجود بالمال من أقل هذه الأنواع مع عظيم فضله وجزيل أجره. ومن صنوف الجود: الجود بالنفس فيما شرع الله، وذلك أعلى درجات الجود وأسماها ، والجود بالمنصب بالزهد فيه والتسامي عنه وعدم التكبر به، والجود براحة البدن ورفاهيته في مصلحة الغير مما يُستحسن، والجود بالعلم وبذله، والجود بنفع الجاه في بذل شفاعة الخير، والجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه، والجود بالصبر واحتمال الأذى والعفو، والجود بالخُلق والبِشر والبشاشة، والجود بالزهد عما في أيدي الناس وعدم الاستشراف له. فمن عجز عن واحدة فثمّ غيرها، ويا طوبى من سمت همّته؛ فضرب بكل جود سهماً، خاصة في مواسم الخير كشهر رمضان، والتزم بآداب الجود؛ فبَذَلَه خالصاً لله، متبعاً هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، غيرَ مانٍّ ولا مؤذٍ.

الخطبة الثانية


أيها المؤمنون!
لئن كانت خصائص رمضان داعية لمضاعفة الجود فيه؛ ففي حال حلول البلاء بأهل الإسلام يعظم ذلك الداعي ويتأكد، كيف وقد اجتمع على أهلنا في سوريا هذه الأيام حصار خانق وقصف دامٍ دائم من عدو أثيم لا يرقب في مؤمن إلّاً ولا ذمة؛ مما أفضى إلى مسغبة لحقت بإخواننا في حمص اضطرتهم لأكل لحم القطط سدّاً للرمق! وبات أنين الأطفال المتضوّرين جوعاً يصيخ سمع من لا يملك سدَّ جوعتهم! في امتحان رهيب لإيماننا؛ إذ ليس المؤمن بالذي يشبع وإخوانه لا يجدون ما يسدون به الرمق إلا لحوم القطط. فطيبوا لهم بالنفقة، وأجزلوا لهم العطاء، وثقوا بالخلف. أعينوهم بأموالكم في جهادهم؛ تجهيزاً المجاهدين، وخلَفاً لأسرهم، وإغاثة للاجئين، وعلاجاً للمرضى، وإشباعاً للجوعى، وكسوة للعاري، وفكاً للعاني، ودعماً لمشاريعهم التعليمية والدعوية والإعلامية، ولو أن تخصصوا زكاتكم لهم، وتعجلوا زكاة العامين القادمين، وتتصدقوا بتكاليف رحلة العمرة؛ فلعمر الله! إن ذاك من خير ما بذل فيه المال، وجادت به النفوس، ونسقت له المشاريع، وتنافس فيه المتنافسون؛ فهو تفريج كربة، ونصرة مظلوم، وقمع ظالم، ودفع صائل، ونشر سنة، ودحر كفر، وجهاد في سبيل الله، وبرهان على صدق الإيمان؛ فلنعم البيع ذلك البيع! ولنعم المربح ذلك المربح، ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ﴾ [التوبة: 111].

الله أعطاك فابذل من عطيته
فالمال عارية والعمر رحّال
المال كالماء إن تُحبس سواقيه
يأسن وإن يجرِ عذبٌ منه سلسال


شبكة الألوكة
 تم النشر يوم  الأحد، 14 يوليو 2013 ' الساعة  12:35 م


 
Toggle Footer