الأحد، 7 يوليو 2013

اعتزال السلف للفتن 


الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل


الحمد لله العليم الحكيم؛ ابتَلَى عِباده بالكفر والإيمان، وبالمعصِية والطاعة، وبالشرِّ والخير؛ لينظُر كيف يعملون، فيُجازِيهم على أعمالهم؛ ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35]، نحمَده حمدًا كثيرًا، ونشكُره شكرًا مَزِيدًا.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، أنار الطريق للسالِكين، ونصَب الأدلَّة للباحِثين، وأقام حُجَّته على العِباد أجمعين.

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ نصح لأمَّته فحذَّرها من فِتَنٍ يَأخُذ بعضُها برِقاب بعض، تُسفَك فيها الدماء، وتُرَمَّل النساء، ويُيَتَّمُ الأطفال، وتَطِيش عُقُول الناس؛ فلا يدري القاتل فِيمَ قَتَل، ولا المقتول فِيمَ قُتِل، فأرشد إلى ما يَعصِم منها، وبَيَّن سبيل النجاة منها، وكيفيَّة التعامُل معها، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه؛ فقهوا عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أحاديث الفِتَن، فتَجنَّبوها وأهلَها حين ثارَتْ فيهم؛ قال التابعيُّ الجليل محمد بن سيرين - رحمه الله تعالى -: "هاجَتِ الفتنة وأصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عشرة آلاف فما خَفَّ فيها منهم مائة بل لم يبلغوا ثلاثين"، وصلِّ اللهم على التابِعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أمَّا بعد:
فاتَّقوا الله - تعالى - وأَطِيعوه، والزَمُوا دينَه، وتمسَّكوا بهدي نبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإنَّه قد حدَّث عن فِتَن آخِر الزمان، التي تَدَعُ الحليم حيران، وبَيَّن طرق النجاة منها؛ وذلك بلُزوم جماعة المسلمين، واعتِزال الفتنة وأهلها؛ كما في حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ستكون فِتَنٌ، القاعد فيها خيرٌ من القائم، والقائم فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي، ومَن يُشرِف لها تَستَشرِفْه، ومَن وجد ملجَأً أو مَعاذًا فليَعُذْ به))؛ رواه الشيخان.

وأمر - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالفِرار من مواقعها؛ لئلاَّ يُفتَن العبد في دينه، ولكيلا تتَلَطَّخ يداه بالدماء المعصومة؛ كما في حديث أبي سَعِيدٍ - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يُوشِك أن يكون خيرَ مال المسلم غنمٌ يَتبَع بها شَعَفَ الجِبال ومَواقِع القطر، يَفِرُّ بدينه من الفِتَن))؛ رواه البخاري، وبوَّب عليه بقوله - رحمه الله تعالى -: "باب من الدين الفرار من الفتن".

وسبب الفِرار منها عدمُ استِبانة الحقِّ فيها، وللأهواء مَداخِل على القلوب في شِدَّتها، والسيف إذا وقَع فيها لا يُرفَع منها؛ كما في حديث ثوبان - رضِي الله عنه - أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إذا وُضِع السيفُ في أمَّتي لَم يُرفَع عنها إلى يوم القيامة))؛ رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.

ولقد فَقِه الصحابة الذين رَوَوْا أحاديث الفِتَن وفضْل اعتزالها ما وصَّاهم به النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فاعتَزَلُوا الطوائف المُتقاتِلة، ومنهم مَن خرج إلى البادية فِرارًا من الفتنة:
كان منهم سلَمة بن الأَكْوَع - رضِي الله تعالى عنه - فإنَّهُ دخل على الحجَّاج فقال له: "يا ابن الأَكْوَع، ارتَددتُ على عَقِبَيْك تعرَّبتَ، قال: لا، ولكن رسول الله أَذِنَ لي في البدو".
وعن يزيد بن أبي عُبَيد قال: لما قُتِل عثمان بن عفَّان خرج سلَمة بن الأَكْوَع إلى الربذة، وتزوَّج هناك امرأةً، وولدت له أولادًا، فلم يزل بها حتى قبل أن يموت بليالٍ نزل المدينة"؛ رواه البخاري وبوَّب عليه، فقال - رحمه الله تعالى -: "باب التَّعَرُّب في الفتنة".

وكان بعضهم ينهى الناس عن المشاركة في قتال الفتنة، ويأمرهم باعتِزالها؛ كما روى الأَحْنَفُ بن قيس - رحمه الله تعالى - قال: "خرجت وأنا أُرِيد هذا الرجلَ فلقِيَني أبو بَكْرَة فقال: أين تُرِيد يا أحنف؟ قال: قلت: أريد نصر ابن عمِّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم، يعني: عليًّا - فقال لي: يا أحنفُ، ارجِع؛ فإنِّي سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إذا تَواجَه المسلمان بسيفَيْهما فالقاتل والمقتول في النار))، قال: فقلت: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: ((إنَّه قد أراد قتل صاحبه))؛ رواه مسلم.

وفعل ذلك أيضًا عِمران بن الحُصَيْن - رضِي الله عنه - كما روى حُمَيْدُ بن هِلال قال: "لَمَّا هاجت الفتنة قال عِمران بن الحُصَيْن لحجير بن الربيع العدوي: اذهب إلى قومِك فانههم عن الفتنة، فقال: إني لَمَغمور فيهم وما أطاع، قال: فأبلِغهم عنِّي وانههم عنها، قال: وسمعت عِمران يُقسِم بالله لأنْ أكون عبدًا حبشيًّا أسود في أعنز في رأس جبل أرعاهُنَّ حتى يُدرِكني أجَلِي، أَحَبُّ إليَّ من أن أرمي في أحد الصفَّيْن بسَهْمٍ أخطأتُ أم أصبتُ"؛ رواه الطبراني.

ومن كِبار الصحابة الذين اعتَزلُوا الفِتَن سعدُ بن أبي وقَّاص - رضِي الله عنه - ذهَب في غنَمِه وترَك الناس يَموجُون في الفِتَن، فجاءَه ابنُه عمر - وكان ممَّن انغَمَس في الفِتَن - فلمَّا رآه سعدٌ قال: أعوذ بالله من شرِّ هذا الراكب، فنزل فقال لأبيه: أنَزلتَ في إبلك وغنَمِك وتركتَ الناس يَتنازَعون الملك بينهم؟ فضرب سعدٌ في صدرِه فقال: اسكت، سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إن الله يحبُّ العبدَ التقيَّ الغنيَّ الخفيَّ))؛ رواه مسلم.

وجاءه مَرَّة أهل فتنة فدعَوْه - رضِي الله عنه - إلى الخروج معهم، فأبى عليهم سعدٌ وقال: لا، إلا أن تُعطُوني سيفًا له عينان بصيرتان، ولسان ينطق بالكافر فأقتله، وبالمؤمن فأكف عنه، وضرب لهم سعد مثَلاً فقال: مثَلُنا ومثَلُكم كمثل قومٍ كانوا على محجَّة بيضاء واضِحة، فبينما هم كذلك يَسِيرون هاجَتْ ريح عجاجة، فضلُّوا الطريق والتَبَس عليهم، فقال بعضهم: الطريق ذات اليمين، فأخذوا فيه فتاهوا فضلُّوا، وقال الآخَرون: الطريق ذات الشمال فأخَذوا فيه فتاهُوا فضلُّوا، وقال الآخَرون: كُنَّا على الطريق حيث هاجَت الريح فأناخُوا وأصبَحوا وذهَبَت الريح وتبيَّن الطريق، قال مَيمون بن مِهران - رحمه الله تعالى -: فهؤلاء هم أهل الجماعة، قالوا: نلزَم ما فارَقَنا عليه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى نلقاه، ولا نَدخُل في شيءٍ من الفِتَن حتى نلقاه، فصارَتِ الجماعة والفِئة التي تُدعَى فِئة الإسلام ما كان عليه سعد بن أبي وقاص وأصحابُه الذين اعتَزلُوا الفِتَن حتى أذهب الله الفُرقَة، وجمع الأُلفَة، فدخلوا الجماعة، ولزموا الطاعة، وانقادوا لها، فمَن فعل ذلك ولَزِمَه نجا، ومَن لم يلزَمْه وشكَّ فيه وقع في المهالك".

وغير المشاهير من الصحابة - رضي الله عنهم - حَفِظُوا أحاديث الفِتَن، وعملوا بوَصايا النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لهم فيها، ولم يَحِيدوا عن ذلك.

حدثت عُدَيْسَةُ بنت أُهْبان بن صَيْفِي الغفاريِّ عن تعامُل أبيها مع الفتنة فقالت: "جاء عليُّ بن أبي طالب إلى أبي فدعاه إلى الخروج معه، فقال له أبي: إنَّ خليلي وابن عمِّك عَهِدَ إليَّ إذا اختَلَف الناس أن أتَّخِذ سيفًا من خشب فقد اتَّخذْتُه، فإن شئت خرجت به معك، قالت: فتركه"؛ رواه الترمذي.

ولَمَّا كان يومُ الجمل خرج محمد بن طَلحَة بن عُبَيدالله مع أبيه، فقالت له عائشة - رضِي الله عنها -: كُنْ كخيرِ ابنَيْ آدم، فأغمَد سيفَه وقام حتى قُتِل، فمرَّ به عليٌّ - رضي الله عنه - فقال: هذا السجَّاد قتَلَه بِرُّه بأبيه.

وأُجبِر عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - على الخروج في صفِّين، فحضر ولم يُقاتِل، وكان يقول: ما لي ولصفين، ما لي ولقتال المسلمين! لوددت أني متُّ قبلَه بعشر سنين، أمَا والله ما ضربتُ بسيفٍ، ولا طعنتُ برمحٍ، ولا رميتُ بسهمٍ.

وعلى أيدي أولئك الأعلام من الصحابة - رضِي الله عنهم - تتَلمَذ التابِعون، فحملوا عنهم أحاديث التعامُل مع الفِتَن وفقهها، فعَمِلُوا بها، وجانَبُوا الفِتَن وأهلَها.

كان من أولئك التابِعين الذين عاصَرُوا عَظائم المِحَن، وكبيرات الفِتَن، مُطَرِّفُ بن عبدالله تلميذ عِمران بن حُصَيْن - رضِي الله عنهم أجمعين - وقد نُقِل عنه أعاجيب في تَوَقِّي الفِتَن والحَذَر منها، قال قتادة - رحمه الله تعالى -: "كان مُطَرِّف إذا كانت الفتنة نهى عنها وهرب".

وكان يُمسِك لسانَه عن الخوض فيها، ويُغلِق آذانَه عن الاستِماع إلى أخبارها، فنَجَّاه الله - تعالى - بوَرَعِه وتَقواه، قال - رحمه الله تعالى -: "لَبِثْتُ في فتنة ابن الزبير تِسعًا أو سبعًا ما أُخبِرت فيها بخبر، ولا استَخبَرت فيها عن خبر"، وسُئِل أخوه يزيد: "ما كان مُطرِّف يصنع إذا هاجَ في الناس هَيْجٌ؟ قال: كان يَلزَم قَعْرَ بيته، ولا يقرب لهم جمعة ولا جماعة حتى يَنجَلِي لهم عمَّا انجلَتْ".

وبعث الحجَّاج إلى مُطرِّف أيَّام فتنة ابن الأشعث، وكان مَن اعتَزَل أو قاتَل عند الحجَّاج سواءً، فقال له الحجَّاج: اشهَد على نفسك بالكفر، فقال مُطرِّف: إن مَن خلع الخُلَفاء، وشَقَّ العصا، وسفَك الدماء، ونكث البيعة، وأخاف المسلمين - لَجَديرٌ بالكفر، فقال الحجَّاج: يا أهل الشام، إن المُعتَزِلين هم الفائزون، وخلَّى سبيله".

وذكر الخطَّابي جملة كبيرة من أخبار اعتِزال الأنبياء والصحابة والصالِحين للفِتَن، ثم قال - رحمه الله تعالى -: والعزلة عند الفِتنة سنَّة الأنبياء، وعِصمة الأولياء، وسِيرة الحكماء والأولياء، فلا أعلم لِمَن عابَها عذرٌ، لا سيَّما في هذا الزمان القليل خيرُه، البَكِيء درُّه، وبالله نستَعِيذ من شره وريبه.

نسأل الله - تعالى - أنْ يجنِّبنا والمسلِمين الفِتَن ما ظهر منها وما بطن، وأنْ يحفَظ البِلاد والعِباد من كَيْدِ الكائِدين، إنَّه سميع قريب، وأقول ما تسمَعون، وأستغفِر الله.

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا طيِّبًا كثيرًا مُبارَكًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويَرضَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتَدَى بهداهم إلى يوم الدين.

أمَّا بعد:
فاتَّقوا الله - تعالى – وأطيعوه؛ ﴿ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [آل عمران: 131- 132].

أيُّها الناس:
لقد أخبر النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن اندِلاع الفِتَن في الأمَّة، وأرشَد إلى ما يَعصِم منها - بإذن الله تعالى - وذلك بلُزُوم جماعة المسلمين وإمامهم، فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام وكانوا أشتاتًا، فالعصمة حينئذٍ في العزلة، وهو ما فعَلَه الصحابة - رضي الله عنهم - لما هاجَتِ الفِتَن فيهم، فقد سأل حُذَيْفَةُ - رضِي الله عنه - النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عند فساد الناس، وكثرة الفتن، فقال للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: فما تأمُرني إن أدرَكَنِي ذلك؟ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((تَلزَم جماعة المسلمين وإمامَهم))، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام، قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فاعتَزِل تلك الفِرَق كلها، ولو أن تَعَضَّ بأصل شجرة حتى يُدرِكك الموت وأنت على ذلك)).

وأمَّا الإفساد في بلاد المسلمين، وترويع الآمِنين، واستِباحة الدِّماء فلا يُورث إلا الفَساد والدَّمار، وهو يُؤَدِّي إلى الفُرقَة والاختِلاف، والتباغُض والتدابُر، وضعف المسلمين، وقوَّة الكافرين والمُنافِقين، وهو سببٌ لتَحجِيم مجالات الدعوة والحسبة والإغاثة وكل عمل خيري؛ فلا يُقدِم على الإفساد في بلاد المسلمين ولا يَرضاه ويَدعمه إلا مَن أُشرِب قلبه الفتنة، وبخس من الدين حقَّه، فأضرَّ بنفسه في الدُّنيا، والله - تعالى - أعلم بحالِه في الآخِرة، وألحق الضرر بالمسلمين، وكان سببًا في إيهانهم وتقوِيَة الأعداء عليهم، فليتَّقِ اللهَ - تعالى - مَن يظنُّ أنَّه يَنصُر الإسلام بالإفساد في بِلاد المسلمين، وليُعَظِّم حرمة الدِّماء التي تُسفَك، والأموال التي تُهدَر، وقد قال الله - تعالى -: ﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ﴾ [المائدة: 32].

وصلُّوا وسلِّموا على نبيِّكم.

 تم النشر يوم  الأحد، 7 يوليو 2013 ' الساعة  7:24 ص


 
Toggle Footer