الثلاثاء، 16 أبريل 2013

رزية موت العلماء

مراد باخريصة



إن العلماء هم ورثة الأنبياء وقرة عيون الأولياء وأمناء الله في خلقه فهم أنوار العباد ومنارات البلاد وقوام الأمة بهم يحفظ الله الملة وينصر الشريعة ويقيم الحكمة وهم منبع السلامة ومعدن الكرامة وغيظ الشيطان.



بهم تحيا القلوب الحية وتموت القلوب الزائغة المضلة فهم في الأرض كالنجوم في السماء يهتدى بها في ظلمات البر والبحر لأنهم ينفون عن دين الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.



بهم يعرف الحلال من الحرام ويتميز الحق من الباطل لأنهم يذكّرون الغافل ويعلمون الجاهل ويقومون بالرد على أعداء الإسلام وخصومه فلهذا رفع الله ذكرهم وأعلى منزلتهم وبيّن فضلهم وأخبر أن منزلتهم غالية ودرجتهم عند الله عالية يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11] ويقول: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 9].



إن حاجتنا إلى العلماء الربانيين هي فوق كل حاجة لأنهم مصابيح الدجى وأعلام الهدى فالناس لا يعرفون كيف يعبد الله إلا بالعلماء فحياتهم غنيمة وموتهم مصيبة فإذا مات العالم فشا الجهل واندرس العلم وتحير الناس وظهر الشر والنفاق يقول عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- "خراب الأرض بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير فيها".



أنظروا عباد الله إلى واقعنا اليوم حينما قل فينا العلماء الربانيون كثر الجهل والتخبط وفشا المنكر وانتشر وتحكم فينا الأراذل والسفهاء وأتهم الدين وأهله وحورب الإسلام باسم الإسلام وضيعت معالم الدين وحدوده واختلطت الأمور على الناس فلا يعلمون الحق ولا يميزون أهله لأن أهل الحق الصادقين وعلمائه الربانيين قد غابوا وقلوا وصاروا في الدنيا قليل من قليل من قليل وصدق النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».



إن الأمة اليوم عندما فقدت خيارها وعلمائها صارت كالجسد بلا روح وكالمركب بلا شراع فأمة بلا علماء كجيش بلا قائد ومقاتلين بلا سلاح لأن دورهم في تحريك الأمة كبير وأثرهم على الأمة عظيم فاعرفوا قدرهم وأدوا حقهم وأحسنوا الظن بهم واتبعوهم من غير تقليد ولا تقديس يقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ».



إن العلماء الربانيين هم القوم لا يشقى بهم جليسهم فحبهم دين وطاعة والقرب منهم ومن مجالسهم خير وعبادة واحترامهم وتوقيرهم هو من إجلال الله سبحانه وتعالى وتوقيره وإيذائهم والطعن فيهم ومحاربتهم هو طعن في الشريعة وأذية لأولياء الله الصالحين يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: "مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ".



بل قرن الله سبحانه وتعالى طاعتهم بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 59] والمقصود بأولي الأمر هنا هم علماء الشرع الصادعين بالحق والأمراء في الخلق الذين يحكمون بين الناس بالشرع والعدل.



وأمر الله جل وعلا في آيات أخرى بالرجوع إلى أهل العلم فيما يشكل على الناس من أمور الدين ومسائله فقال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، [الأنبياء: 7] وقال: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 83].



إن العالم الرباني هو العالم الذي يهتدي بنور الله ويتمسك بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويدعوا الناس إلى شرع الله يبلغ رسالة الله ولا يخشى إلا الله ويقول كلمة الحق لا يخشى في ذلك لومة لائم ويعلم الناس التوحيد ويتحمل في سبيل ذلك التعب والنصب والمشقة ويفرض نفسه على السلطان ولا يفرض السلطان نفسه عليه ولا يتزلف له ولا يتقرب منه ولا يفتي لصالحه بفتاوى سياسية مضلة تهدم الدين وتنفر الناس منه.



العالم الرباني هو الذي يحيط بالناس ويقترب منهم بكل أدب وتواضع فينتفعون بعلمه ويجتمعون حوله ويرجعون إليه في قضاياهم وشكاويهم ويسعى في قضاء حاجاتهم وفض نزاعاتهم والإصلاح بينهم ويصبر على التعامل معهم وينزل إلى عمق المجتمع ليعيش معهم ويسمع منهم ويجلس بينهم فلا يترفع عليهم ولا ينزوي في زاوية بعيد عنهم ولا يتخذ لنفسه مكاناً قصياً أو برجاً عالياً فتحدث الفجوة بينه وبينهم فهو عالم أمة ورجل صدق وتواضع.

الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها
متى يمت عالمٌ منها يمت طرفُ
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حل بها
وإن أبى عاد في أكنافها التلفُ



يقول بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ﴾ [الرعد: 41] قالوا: هو موت العلماء.



وروى الترمذي عَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ - رضي الله عنه -، قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالآخَرُ عَالِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ» رواه الترمذي وصححه الألباني.



يقول عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله قلت لأبي يعني الإمام أحمد بن حنبل يا أبتي أي رجل كان الشافعي؟ فإني أسمعك كثيراً ما تدعوا له فقال: يا بني! كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن، فهل لهذين من خَلَفٍ؟ أو عنهما من عِوض؟.



يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 28] ويقول: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 43] ويقول سبحانه وتعالى عن القرآن ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 7].


الخطبة الثانية

فقدت حضرموت في الأسبوع الماضي علماً من أعلامها ورجلاً من خيرة رجالها وعالماً من أجل علمائها نحسبه والله حسيبه ولا نزكي على الله أحداً كان له الفضل بعد الله سبحانه وتعالى في تأسيس الدعوة في هذه البلاد والصبر على الابتلاء في سبيلها وتحمل المشاق من أجلها حتى شاء الله لها أن تترعرع وتنتشر في طول البلاد وعرضها إنه الشيخ الفاضل عوض بن محمد بانجار رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.



مات الشيخ رحمه الله لأن الموت لا يستثني أحداً ولا يعرف عالماً أو جاهلاً فليس لأحد منه مفر أو مهرب فهو يدخل على الجميع بلا استئذان ويأتي بغتة إلى كل إنسان فلنعد له ولنستعد للقائه بالتوبة النصوح وفعل الخيرات وترك المنكرات ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [الأعراف: 34] [النحل: 61].



إن موت العلماء رزية على الأمة بأسرها وموتهم حث لنا على طلب العلم ومواصلة الدرب في طلب العلم حتى نسد الثغرة التي كانوا يسدونها وحتى يوجد في الأمة من يقوم مقامهم ويغطي الفراغ الذي تركوه وإذا كان لكل واحد منا عدداً من الأبناء فهل فكر أن يجعل أحدهم عالماً يخدم الدين ويتفرغ لطلب العلم الشرعي فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ».



ما الفخر إلا لأهل العلم إنهمُ على الهدى لمن استهدى أدلاءُ.



وقدر كل امرئٍ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداءُ.



ففُزْ بعلمٍ تحيا به أبداً الناس موتى وأهل العلم أحياءُ.



يقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ".



شبكة الألوكة
 تم النشر يوم  الثلاثاء، 16 أبريل 2013 ' الساعة  9:05 ص


 
Toggle Footer