الاثنين، 20 مايو 2013

نماذج مقتبسة من الكتاب والسنة 
يستضاء بها في التربية (3)


د. عبدالرب نواب الدين آل نواب




شاهدنا بعض النماذج المُقتبسة من الكتاب العزيز وسُنة النبي - صلى الله عليه وسلم - يستضاء بها في مضمار التربية في الحلقات السابقة، ونكمل:
صِدق الوعد.
صِدق الوعد: لونٌ رفيع من صدق اللسان، وهو من أَمَارات الإيمان، كما أن الكذب وخُلْف الوعد من أمارات النفاق؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((آيةُ المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذَب، وإذا وعَد أخلف، وإذا اؤتُمِن خان))[1].

وتربية الولد على صدق الوعد تبدأُ من خلال تعامُله مع الوالدين الصادقين، اللذَيْن إذا وعداه وفَّياه، فهو يتربَّى على هذا بطريق القدوة العملية التطبيقية التي هي أنجع وسائل تربية الأولاد، لا سيما في سنِّ التمييز وما يليها من مراحل عُمر الإنسان.

وتبدو أهمية التربية على هذا الخلق الإسلامي الجليل - إضافة إلى ما سبَق التنويه عنه من أمارات الإيمان - من خلال سلسلة أخلاقية تتعاظم في درجاتها مما يُطالب به المسلم؛ فمن ذلك الوفاء بأعظم العهود، وهو عهد الله - تبارك وتعالى؛ قال - تعالى -: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النحل: 91]، وقال - تعالى -: ﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا ﴾ [الإسراء: 34].

والعهد هنا يشمل الإيمان بالله، وما يَستلزمه من توحيده، والإخلاص له، وأداء الفرائض، وغير ذلك من أمور الدين، كما يشمل عهود الناس وعقودهم التي يتعاملون بها بينهم[2].

وفي الوفاء بالعهود التي بين العباد يقول - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1]، ويقول - سبحانه -: ﴿ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ﴾ [الرعد: 20].

وكل هذه العهود والمواثيق المنوطة بذِمة المسلم، إنما يَنتهض لها أُولو العزم، ممن كانت تربيتهم منذ الصغر على خُلق الوفاء بالعهد بعد توفيق الله ومشيئته؛ لأن ما تعوَّد عليه الإنسان منذ الصبا وصار له طبعًا - يكون أثبتَ في فؤاده، وأسهلَ في أسلوب تعامُله وجاري أخلاقه، والوفاء بالعهد من مستلزمات الإيمان بالله وباليوم الآخر.

وعليه؛ فإن تربية الأولاد على عقيدة الإيمان بالله وتوحيده، وما يَستتبع ذلك من لوازمه؛ كالخوف والخشية، والرجاء وتعلُّق القلب به - سبحانه - لَمِمَّا يَندرِج في أَوليَّات اهتمامات الوالدين بتربية الأولاد؛ كي ينشؤوا نشأةً إسلامية سويَّة.

رحمة الضعيف:
الرحمة في ذاتها من سمات أهل الجنة؛ كما في حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((وإنما يرحَم اللهُ من عباده الرُّحماء))[3].

فغرْسُ الرحمة في فؤاد الولد منذ نعومة أظفاره؛ ليكون رقيقَ القلب، غزيرَ الدمع شفقةً وحُنوًّا، فيَّاضَ المشاعر، مُرهف الحِس، يتأثر بأحوال المساكين والبؤساء والمحرومين - هو مطلب شرعي وخُلق إسلامي نبيلٌ، يأمر به الوالدان والمُربُّون والمعلمون.

والرحمة بمفهومها الواسع تأخذ أبعادًا أخلاقية متعددة؛ فالأمة الإسلامية أمة رحمة، والمسلمون دُعاة سلام ورحمة وبرٍّ، والبر بالضعفاء ورحمتهم من أخلاق المسلمين الأصيلة؛ لأنهم يتراحمون، وتتدرَّج التربية على الرحمة على درجات؛ منها:
رحمة الولد والحُنو عليه والشفقة به، وإحاطته بمشاعر المحبة والرِّقة والحنان والرعاية، منذ تدرُّجه في مدارج الطفولة الأولى؛ فلقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو نبيُّ الرحمة يقول كما في رواية أنس - رضي الله عنه -: ((إني لأدخُل في الصلاة وأنا أُريد أن أُطيلها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوَّز في صلاتي مما أعلم من شِدَّة وَجْد أُمِّه عليه))[4].

وكانت الرحمة بالصِّبيان والصبايا الصغار تجري منه - صلى الله عليه وسلم - مجرى الدم من العروق؛ فهو - صلى الله عليه وسلم - مع قيامه بأعباء الرسالة، يُخصِّص وقتًا من عُمره الشريف للأطفال؛ يُداعبهم، ويَحنُو عليهم، ويدعو لهم، ومما تَزخَر به كُتب السُّنة في هذا الجانب التربوي الهام: حديثُ أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤتى بالصِّبيان، فيدعو لهم، فأُتي بصبيٍّ، فبالَ على ثوبه، فدعا بماءٍ، فأتْبَعه إيَّاه، ولم يَغسِله"[5].

ويقول أبو موسى - رضي الله عنه -: "وُلِد لي غلام، فأتيتُ به النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمَّاه إبراهيم، فحنَّكه بتمرة، ودعا له بالبركة، ودفَعه إليَّ"، وكان أكبر أولاد أبي موسى[6].

وكان - صلى الله عليه وسلم - مع أسلوبه العملي هذا، يوجِّه إلى الرحمة بالأطفال والمساكين؛ كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((الساعي على الأرمَلة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وكالذي يصوم النهار ويقوم الليل))[7].

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قبَّل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الحسَنَ أو الحسين وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشَرة من الولد ما قبَّلت أحدًا منهم، فنظر إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((مَن لا يرحَم، لا يُرحَم))[8].

تعريف الولد بحق القريب الضعيف؛ فإن حقَّه مقدَّم على المسكين غير القريب؛ قال - تعالى -: ﴿ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ ﴾ [الإسراء: 26].

تعليمه هذا الأدبَ وتمرينه عليه؛ ليعلم أن الكبير يُحترَم ويُوقَّر؛ سواء كان كبير سنٍّ، أو مقامٍ، وأن الصغير يُرحَم، وأن هذا من آداب المسلمين وأخلاقهم التي لا يصح التهاون بها أو التفريط فيها؛ فعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن لم يَرحم صغيرنا ويَعرف حَقَّ كبيرنا، فليس منا))[9].

وهذا التراحُم إذا استشعره كلُّ مسلمٍ وأدَّى ما عليه فيه، كان عاملاً مُهمًّا من عوامل ترابُط الأمة الإسلامية، وتكامُل وتسانُد بُنيانها؛ كما في حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ترى المؤمنين في تراحُمهم وتوادِّهم وتعاطفهم، كمثل الجسد إذا اشتكى عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمى))[10].

ويبدأ ذلك من البيت المسلم بتعليم الأولاد خُلقَ الرحمة والتراحم بكلِّ صُوره المُمكنة نظريًّا وعمليًّا؛ ليتعلَّمها ويتمرَّسَ عليها؛ قال ابن حجر: قال ابن جمرة: الذي يظهر أن التراحم والتوادُد والتعاطف، وإن كانت متقاربة في المعنى، لكن بينها فرقٌ لطيف، فأمَّا التراحم، فالمراد به أن يَرحم بعضهم بعضًا بأخوَّة الإيمان لا بسبب شيءٍ آخرَ، وأما التوادُد، فالمراد به التواصل الجالب للمحبَّة؛ كالتزاور والتهادي، وأما التعاطف، فالمراد به إعانة بعضهم؛ كما يَعطِف الثوب عليه ليُقوِّيه[11].

وهذه المعاني المُنبثقة من الرحمة والراجعة إليها، تَشملها كلها التربيةُ الأبوية التي ينبغي أن ينشأ عليها الولد منذ صباه؛ كي يكون عارفًا بمرامي الرحمة، واعيًا مستوعبًا لمستلزماتها، قائمًا بها.

الرفق بالحيوان:
تعيش البهائم والعجماوات بين الناس وقد سُخِّرت لهم، وهيَّأ الله - عز وجل - للإنسان سُبل تطويعها وتسخيرها لمنافعه، وأوجَب عليه مراعاة الجوانب الإنسانية والضوابط الأخلاقية في التعامل معها، ومن ذلك: الرِّفق واللين، وتجنُّب العنف والغلظة، وجعل ذلك من جملة المعروف الذي يُؤمَر به، وترْكه من المنكر الذي يُنهى عنه.

عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((دخلَت امرأة النار في هِرَّة ربَطتها، فلم تُطعمها، ولم تدَعها تأكُل من خَشاش الأرض))[12].

وعليه، فلا يجوز تجويع البهائم ولا حبْسها لغير حاجة، ولا تعذيبها، ولا التلهِّي والتسلية بإيذائها، كما يفعل السفهاء فيما يُسمى بمصارعة الدِّيَكة ومصارعة الثيران، وتناطُح الكِباش، ونحو ذلك مما ليس من أخلاق المسلمين، ولا هو من عوائدهم، بل إنما يُعرَف في بلاد الكفرة من الإفرنج وغيرهم.

والولد - كما هو مشاهد ومعروف - كثيرُ الشغف بالحيوانات، لا سيما الصغيرة منها؛ كالطيور والقطط، وما أشبهها، ويجب تعليمه الرِّفقَ بها، وتجنُّب مضارَّتها، وليكون ذلك من جملة التربية التي يَنشأ عليها؛ سواء ما يكون في بيته، أو في الحدائق العامة، أو في أيِّ مكانٍ، ولقد كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يُراعون غرْس هدا الخُلق في أولادهم، فيأْمُرونهم بالرفق، ويَنهونهم عن ضده، ومن ذلك أن أَنَسًا - رضي الله عنه - رأى غِلمانًا نصَبوا دجاجة يَرمونها؛ فقال: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تُصْبَر البهائم"[13].

وقوله: "صَبْر البهائم": حبْسها وهي حيَّة؛ لتُقتَل بالرمي ونحوه، وما رواه سعيد بن جُبير - رحمه الله - قال: كنت عند ابن عمر - رضي الله عنه - فمرُّوا بفِتْية نصَبوا دجاجة يَرمونها، فلما رأوا ابن عمر، تفرَّقوا عنها، وقال ابن عمر: "مَن فعَل هذا؟ إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعَن مَن فعَل هذا"، وقال ابن عمر: "لعَن النبي - صلى الله عليه وسلم - من مثَّل بالحيوان"[14]، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التحريش بين البهائم"[15].



[1] متفق عليه؛ رواه البخاري في كتاب الإيمان، حديث رقم (33)، ومسلم في كتاب الإيمان، حديث رقم (59).
[2] انظر: تفسير القرطبي (1/ 332)، وتفسير ابن كثير (3/ 45).
[3] متفق عليه؛ رواه البخاري في كتاب الجنائز، حديث (1284)، ومسلم في الجنائز (923).
[4] متفق عليه؛ رواه البخاري في كتاب الأذان، حديث (709)، ومسلم في كتاب الصلاة (470).
[5] متفق عليه؛ رواه البخاري في كتاب الدعوات، حديث (6355)، ومسلم في كتاب الطهارة (286).
[6] رواه البخاري في كتاب العقيقة، حديث رقم (5467).
[7] متفق عليه؛ رواه البخاري في كتاب الأدب، حديث (6006) واللفظ له، ومسلم في كتاب الزهد والرقائق، حديث رقم (2982).
[8] متفق عليه؛ رواه البخاري في كتاب الأدب، حديث (5997)، ومسلم في كتاب الفضائل، حديث رقم (2318).
[9] رواه أبو داود في كتاب الأدب، حديث (4943) واللفظ له، والترمذي في كتاب البر والصِّلة، حديث (1919)، وقال: حديث غريب، وأحمد في مسند المكثرين من الصحابة، حديث (6776).
[10] متفق عليه؛ رواه البخاري في كتاب الأدب، حديث (6011)، ومسلم في كتاب البر والصلة، حديث (2586).
[11] الفتح (10/ 439).
[12] متفق عليه؛ رواه البخاري في كتاب بَدء الخلق، حديث (3318) واللفظ له، ومسلم في كتاب السلام، حديث رقم (2242).
[13] متفق عليه؛ رواه البخاري في كتاب الذبائح، حديث (5513)، ومسلم في كتاب الصيد (1956).
[14] متفق عليه؛ رواه البخاري في كتاب الذبائح، حديث (5515)، ومسلم في كتاب الصيد (1958).
[15] رواه أبو داود في كتاب الجهاد، حديث (2562)، والترمذي في كتاب الجهاد، حديث (1708).



المصدر : شبكة الألوكة
 تم النشر يوم  الاثنين، 20 مايو 2013 ' الساعة  6:44 ص


 
Toggle Footer