الاثنين، 20 مايو 2013


نماذج مقتبسة من الكتاب والسنة 
يستضاء بها في التربية (1)


د. عبدالرب نواب الدين آل نواب




ينبغي للآباء توخِّي الصدق وعِفة اللسان، والالتزام بسائر الخصال الشريفة التي يأمر بها الدين الحنيف، والتزامُهم بذلك جزءٌ أساس في صلاح البيت، وأسلوب رشيد بالغ التأثير في تربية الأولاد على الخُلق الفاضل والسَّمت الكريم.



وفيما يلي بعضُ النماذج المُقتبسة من الكتاب العزيز وسُنة النبي - صلى الله عليه وسلم - يستضاء بها في هذا المضمار:

الإخلاص:

الإخلاص لُبُّ الدين وحقيقته، وكلمة الإخلاص: "لا إله إلا الله " أساس الدين، وأصله الأصيل، وهو ما اتَّفقت عليه جميعُ رسالات الله؛ قال الله - تعالى -: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [البينة: 5].



وتربية الولد على الإخلاص في الأقوال والأعمال والمقاصد، تبدأ من سن التمييز؛ كما سبقت الإشارة إليه؛ ليَستشعر غايته في كل عملٍ يؤدِّيه، وهي ابتغاء وجه الله، وبهذه النية الصالحة يَرشُد مسلكُه، فيتخلَّص من أدواء النقص، وتتأسَّس أخلاقه على أساس وطيدٍ، ويُكتَب له ولوليِّه بذلك الأجْرُ؛ قال - تعالى -: ﴿ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى ﴾ [الليل: 19 - 20]، فمَن أخلَص فابتغى وجْه ربِّه، رضِي الله عنه، وأرضاه بالجزاء الأَوْفى.



إن للإخلاص في حياة المسلم القيمةَ العليا والأثر الأكبر، وإن تربية الولد على هذه الخَصلة الشريفة والخُلق الأصيل أفضلُ ما يقدِّمه والدٌ لولده وفِلذة كبده، بل هو أجَلُّ ما يُسديه إليه ويُنشئه عليه.



الصدق:

هو مطابقة القول العملَ، وموافقة الكلام الواقعَ، قال في مفردات القرآن: الصدق: مطابقة القول الضميرَ والمخبرَ عنه معًا، ومتى انخرَم شرطٌ من ذلك، لم يكن صدقًا تامًّا[1].



والصدق من أُمهات الأخلاق، وهو من خصائص المؤمنين، يهدي إلى الخير وإلى جنات النعيم، كما أن الكذب من صفات المنافقين، يهدي إلى الشر وإلى عذاب الجحيم؛ كما في حديث عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البِر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليَصدُق حتى يكون عند الله صدِّيقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذِب ويتحرَّى الكذب، حتى يُكتَب عند الله كذَّابًا))[2].



وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((آيةُ المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذَب، وإذا وعد أخلَف، وإذا اؤتُمِن خان))[3].



وتربية الولد على فضيلة الصدق تكون في المقام الأول بالقدوة، بأن يلتزم الأبوان وسائر من في البيت بالصدق في القول والعمل، في الجِد والهَزْل؛ ليرى الولد ذلك تطبيقًا عمليًّا، فينشأ عليه، ويراه خُلقًا حيًّا، فلا يَنفَك عنه طِيلة حياته بعد أن تربَّى عليه واشتدَّ عُوده به.



لقد حرَص الدين الحنيف على أن تكون سِمة الصدق جلبابًا يتحلَّى به البيت المسلم، حتى في أسلوب التعامل مع الأطفال الصغار الذين قد لا يتفطَّن لنَباهتهم ودِقة تلقِّيهم من خلال سلوك الآباء.



وفي حديث عبدالله بن عامر - رضي الله عنه - قال: دعَتني أمي يومًا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعدٌ في بيتنا، فقالت: ها تعالَ أُعطِكَ! فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وما أردتِ أن تُعطيه؟))، قالت: أُعطيه تمرًا، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أما إنَّك لو لم تُعطيه شيئًا، كُتِبتْ عليك كَذبة))[4].



والأبوان يحتاجان إلى ترغيب الولد في المحاسن وتحبيبها إليه، فعليهما ألا يَعِداه بشيء إلا بنية التحقيق، وإن كان من الأمور المُحقَّرة، وإن كان على سبيل المَزْح، ولقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُمازح أصحابه، لكنه كان لا يقول إلا حقًّا.



ومن الصدق في القول: الاقتصاد في الكلام، والاقتصاد على النافع منه، وهو ما ينبغي ملاحظته في تربية الناشئة، وفي حديث حفص بن عاصم - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((كفى بالمرء إثمًا أن يُحدِّثَ بكل ما سمِع))[5].



إن الصدق كما أنه سِمة البيت المسلم الرشيد، هو كذلك سبيل إلى التحلي بسلسلة لا يُستهان بها من مكارم الأخلاق المرتبطة بالصدق؛ كالعِفة، والأمانة، والوفاء، بل لا تكاد تجد خُلقًا فاضلاً إلا وله عُرًى تتداخل مع الصدق في وشائجَ متلاحمة، وتأمَّل حديثَ صفوان - رضي الله عنه - وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا سُئل: أيكذب المؤمن؟ قال: ((لا))[6]، فجعل الصدق أمَارةَ الإيمان.



عِفة اللسان:

اللسان آلة النُّطق والبيان، وهي نعمة تميَّز بها الإنسان عن سائر البهائم، وللسان محاسنه، بل لا تُجاريه في المحاسن جارحة أخرى، وللسان أيضًا آفاته المُوبقة، ومزالقه المُهلكة، وعليه فإن مصير الإنسان يتقرَّر من لسانه، وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن العبد ليتكلَّم بالكلمة، يَنزل بها في النار أبعدَ ما بين المشرق والمغرب))[7].



ومما يَستهين به كثيرٌ من الآباء حال الغضب: الدعوة على الولد، فقد يوافق ساعة إجابة، فيتسبَّب في شقاوة ولده وفلذة كبده، وقد جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاث دعوات مستجابات: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده))[8].



وفي حديث أبي اليَسر - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((لا تَدْعوا على أنفسكم، ولا تدْعوا على أولادكم، ولا تَدْعوا على أموالكم؛ لا تُوافقوا من الله - تبارك وتعالى - ساعةَ نيلٍ فيها عطاءٌ، فيَستجيب لكم))[9].



ومما يُعين الآباء على الالتزام بالكلمة الموفقة المُسددة، شعورهم بقِيمتها وأثرها وتَبعاتها، كما سبق في حديث مَن يَنزل بكلمته في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب، وأيضًا التورُّط في لعْن الوالدين، وقد حذَّر منه النبي - صلى الله عليه وسلم؛ كما في حديث عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما -: ((إن أكبر الكبائر أن يَلعَن الرجلُ والديه))، قيل: يا رسول الله، وكيف يَلعَن الرجل والديه؟! قال: ((يَسُبُّ الرجل أبا الرجل، فيَسُب أباه، ويَسُب أمَّه، فيَسُب أُمَّه))[10].



وفي اتِّخاذ السبِّ عادةً جرأةٌ عظيمة، فلئن كان سبُّ المسلم فِسقًا لو سبَّه مرة واحدة، فكيف بمَن يتَّخذ ذلك عادة؟!



جاء في حديث عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((سِباب المسلم فسوق، وقتاله كُفر))[11].



مِن ذلك إدراك قيمة الكلمة الطيبة وآثارها في النفس وفي الحياة، وقد جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الكلمة الطيِّبة صدقة))[12].



ومن هنا، فإن ترويض اللسان على محاسن الأقوال وإلجامه بلِجام العفاف والتقوى، يبدأ من سنٍّ مبكرة، ويتحمَّل الأبوان مسؤولياتهما التربوية في تهذيب ألسِنة الأولاد.



وأسلوب القدوة من أقوم الأساليب وأنْجعها في تربية الناشئة على عفة اللسان، فإذا كان الولد يسمع من أبويه أو أحدهما بذاءةَ اللسان - من السب واللعن، والطعن والتنقُّص، والكذب والنميمة، وكثرة الحَلِف، والحلف الكاذب - قلَّده في ذلك وجاراه، وظنَّ أن هذا من الذكاء والكِياسة، وترسَّخ ذلك لديه، حتى يُصبح مَلَكة على مَرِّ الأيام، فيَصعُب تغييره وتحويرُه!



وأما إذا سمِع منه قولاً كريمًا، ورأى هدْيًا قويمًا، تأسَّى به، فصار له طبعًا، فسعِد وأسعَد غيرَه!



إن المسلم يتميَّز عن غيره بعفة اللسان وسَداد القول، وهو مظهر من مظاهر سلامة الطويَّة وتكامُل الرُّشد؛ قال الله - تعالى -: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ﴾ [الإسراء: 53]، وقال: ﴿ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِم ﴾ [النساء: 148]، وقال: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: 83]، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 70]؛ أي: قصدًا وحقًّا، وقال ابن عباس: أي: صوابًا.



وهو مأخوذ من تسديد السهم ليُصاب به الغرَض، والقول السديد يعمُّ الخيرات؛ فهو عام في جميع ما ذُكِر وغير ذلك[13].



ومن هدْي النبي - صلى الله عليه وسلم - قول أنس - رضي الله عنه -: "لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - سبَّابًا، ولا فحَّاشًا، ولا لعَّانًا، كان يقول عند المَعتَبة: ((ما له ترِبَ جَبينُه))[14].



وقوله: "ترِب جَبينه": كلمة تقولها العرب، ولا تقصِد معناها، وهو أصابه التراب ولصِق به، وقيل: تضمَّن الدعاء له بالطاعة والصلاة.



ومما يدخل في عفة اللسان: الاعتدال في الكلام، ويَلزم منه ترْك المدح بغير علمٍ، والمدح المبالغ فيه؛ كما في حديث عبدالرحمن بن أبي بَكرة عن أبيه - رضي الله عنه - قال: أثنى رجل على آخر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ((ويْلَك، قطَعت عُنق أخيك - ثلاثًا - من كان منكم مادحًا لا مَحالة، فليَقُل: أحسَب فلانًا والله حسيبُه، ولا أُزكي على الله أحدًا إن كان يَعلم))[15].



فلا يَمدَح إلا بما يعرِف، ولا يمدح إلا إذا وثِق من أنه لا يخشى عليه من فتنة الإعجاب بنفسه؛ لكمال تَقواه، ورسوخ عقله؛ كما يقول النووي[16].



وهذه الآداب ضرورية للولد منذ تمييزه بين الخير والشر؛ لأنها تنمي لديه مَلكة الموازنة بين المصالح والمفاسد، وإدراك عاقبة البر ومساوئ الفُحش، فينشأ نشأةً سويَّة - بإذن الله.


[1] مفردات القرآن، مادة: (صدق)، ص (277).
[2] متفق عليه؛ رواه البخاري في كتاب الأدب (6094)، ومسلم في كتاب البر والصِّلة (2607).
[3] متفق عليه؛ رواه البخاري في كتاب الإيمان (33)، ومسلم في كتاب الإيمان (59).
[4] رواه أبو داود في كتاب الأدب (4991)، وأحمد في مسند المَكِّيين (15147).
[5] رواه مسلم في المقدمة برقم (5)، وأبو داود في كتاب الأدب (4993).
[6] جزء من حديث رواه مالك في موطَّئه في كتاب الجامع، حديث رقم (1571).
[7] متفق عليه؛ رواه البخاري في كتاب الرقاق، حديث (6477)، ومسلم في كان الزهد، حديث (2988).
[8] رواه الترمذي في كتاب الدعوات، حديث (3448) وحسَّنه، وابن ماجه في كتاب الدعاء (3862)، وأبو داود في كتاب الصلاة، حديث (1536)، وأحمد في مسند المكثرين (7197).
[9] رواه مسلم في كتاب الزهد، حديث (3014)، وأبو داود في كتاب الصلاة، حديث (1532).
[10] متفق عليه؛ رواه البخاري في كتاب الإيمان، حديث (5973) واللفظ له، ومسلم في كتاب الإيمان (90).
[11] متفق عليه؛ رواه البخاري في كتاب الإيمان، حديث (48)، ومسلم في كتاب الإيمان، حديث (64).
[12] متفق عليه؛ رواه البخاري في كتاب الجهاد، حديث (2989)، ومسلم في كتاب الزكاة (1009).
[13] تفسير القرطبي (14/ 253).
[14] رواه البخاري في كتاب الأدب، حديث (6031)، وأحمد في مسند المكثرين، حديث (11826).
[15] متفق عليه؛ رواه البخاري في كتاب الأدب، حديث رقم (6162)، ومسلم في كتاب الزهد، حديث رقم (3000).
[16] المنهاج؛ للنووي (18/ 336).


المصدر : شبكة الألوكة
 تم النشر يوم  الاثنين، 20 مايو 2013 ' الساعة  6:36 ص


 
Toggle Footer