الاثنين، 20 مايو 2013

نماذج مقتبسة من الكتاب والسنة 
يستضاء بها في التربية (5)


د. عبدالرب نواب الدين آل نواب


شاهدنا بعضُ النماذج المُقتبسة من الكتاب العزيز وسُنة النبي - صلى الله عليه وسلم - يستضاء بها في مضمار التربية في الحلقات السابقة، ونكمل:
 
التسامح:

التسامح والعفو والحِلم والأَناة، أخلاق إسلامية جليلة، بعضها يُرادف البعض الآخر، وكلها تعود بالنفع والخير العميم على المجتمع بأَسْره.



والتسامح خَصلة عزيزة على النفس؛ لأن الطبيعة البشرية مفطورة على الشُّح والأنانية، وحب الذات والرغبة في الانتقام؛ فالتسامح - وهو البلسم الشافي لعلل النفوس - يتطلَّب تربية مبكرة؛ كي يَسهُل على الإنسان إبَّان كِبَره، وهو يواجه أصناف الناس وطبائعهم المتباينة، وفي رُوح التسامح التي يتَّصف بها الصالحون يقول - تعالى -: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63].



وأسلوب القدوة والتربية الرفيقة اللينة، البعيدة عن العنف وعن الغِلظة - يغرسفي الولد روح التسامح، وتَترعرَع شجرته في فؤاده مع حُسن التوجيه، ولنتأمَّل هذا الأسلوب الرفيق من سُنة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أنس - رضي الله عنه -: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحسن الناس خُلقًا، فأرسَلني يومًا لحاجة، فقلت: والله لا أذهَب وفي نفسي أن أذهَب لِما أمَرَني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرَجت حتى أمُرَّ على صِبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قبَض بقفاي من ورائي، قال: فنظرتُ إليه وهو يضحك! فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أُنيس، أذهبتَ حيث أمرتُك؟))، قال: قلتُ: نعم، أنا أذهب يا رسول الله، قال أنس: والله لقد خدَمته سبع سنين، ما علِمته قال لشيءٍ صنَعتُه: ((لِمَ فعلتَ كذا وكذا))، أو لشيءٍ ترَكته: ((هلاَّ فعلتَ كذا وكذا))"[1].



والاعتدال في التسامح هو المعنى الذي تَقتضيه الحِكمة، وهو الذي لا يَضيع معه حقٌّ، ولا يترك في النفس مَذلَّة أو شعورًا بالظلم، ولا يكون معه إهدارٌ لقِيَمٍ أو مبادئَ.



الحِشمة والحياء:

الحياء خُلق إسلامي نبيل، والحياء من الإيمان، و((الحياء لا يأتي إلا بخير))؛ كما في رواية عِمران بن حُصين - رضي الله عنه - مرفوعًا[2].



"ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أشدَّ حياءً من العَذراء في خِدرها، فإذا رأى شيئًا يَكرهه عُرِف في وجهه"؛ كما يقول أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه[3].



قال الراغب: الحياء انقباض النفس عن القبائح، وترْكها لذلك[4].



وقال ابن حجر - رحمه الله تعالى -: الحياء في اللغة: تغييرٌ وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يُعاب به، وفي الشرع: خُلق يَبعَثُ على اجتناب القبيح، ويَمنع من التقصير في حقِّ ذي الحق[5].



ومن مستلزمات التربية على خُلق الحياء: إيقاف الولد على مساوئ ما هو ضده من الفُحش والبذاءة، وسوء العِشرة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن فاحشًا ولا مُتفحِّشًا، وقال: ((إن من أخيركم أحسنَكم أخلاقًا))؛ رواه عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما[6].



ولعل البنت أحوجُ من الابن إلى التربية على خُلق الحشمة والحياء؛ لِما يَكتنف الأنثى من واجب التستُّر والحجاب والعفاف، وما الحياء إلا مُتَمِّم لهذه الخِصال التي أكرم بها الدين الحنيفُ المؤمناتِ.



ففي عالم الألبسة والأزياء ينبغي للأبوين اختيار اللباس للفتاة منذ صغرها، وحتى وهي ابنة أربع سنين ونحو ذلك؛ لتتعوَّد عليه وتأْلَفه، ولا تَأْنَفه حال كِبَرها، فإن الملاحظ أن الفتيات اللائي تهاوَن أهاليهنَّ في تربيتهنَّ على الحِشمة والتستُّر حال صِغَرهن؛ لأنهنَّ كما يقولون: لسْنَ عورات، ولم يَبْلُغْنَ مبلغ النساء، وليس فيهنَّ دواعي الإثارة والفتنة - وجَدن صعوبة في التستر حال البلوغ، بل تتثاقَل إحداهنَّ إذا لبِست الحجاب السابغ، والله - عز وجل - يقول للمؤمنات: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 59].



وأكثر ما يتورَّط فيه الآباء في موضوع الحشمة، تهاوُنهم في أزياء الأولاد من البنين والبنات، وتساهُلهم في إسداء التوجيه والنصح بالاعتزاز بزِي المسلمين المُحتشم السابغ، وقد قال عمر - رضي الله عنه - مُحذِّرًا من أزياء الكفار: "وذَرَوا التنعُّم وزِيَّ العجم، وإيَّاكم والحريرَ؛ فإن رسول الله نهى عنه"[7].



والحرير في شريعتنا الغرَّاء إنما يُباح للنساء دون الرجال.



العفو والحِلم:

الغريزة الغضبية متأصلة في الإنسان على اختلاف مراحل عمره، وللغضب المذموم عواقبه السيئة في نفسيَّة الغاضب وعقله وتصرُّفه، وفيمَن حوله؛ لذا ورد في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - لَمَّا سأل رجل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: أوصِني، قال: ((لا تغضَب))، فردَّد مرارًا، قال: ((لا تَغضَب))[8].



ولقد دعا الإسلام إلى كظْم الغيظ والعفو عن الناس، واحتمال جهْلهم وسَفههم، ومقابلتهم بالعفو والحِلم والصبر؛ إيثارًا للسلامة، ودَفعًا لغوائل السوء، ووعَد على ذلك الأجرَ العظيم.



ومن أنجع الأساليب التي تَزرَع في الأولاد هذا الخُلق الفاضل: (الحِلم والعفو) - بعد غرْس الإيمان بالله في نفوسهم، ورجاء رحمته، والخشية منه ومن عقابه - تعليمُهم بطريق الممارسة والمتابعة كبْحَ جِماح النفس والتسامي على نوازع الشر فيها، وترويضها على الحِلْم والأَناة والبصر بالعواقب؛ فإن هذا هو الأسلوب الأمثل لمعالجة أدواء النفس، وإليه أشار حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو المربي الأول، قال: ((ليس الشديد بالصُّرَعَة، إنما الشديد الذي يَملِك نفسه عند الغضب))[9].



ومن تهذيب النفس وترويضها: معاملتُها بما يناسب الغلط الحاصل منها؛ كما في كفارة مَن لطَم خادمه، ولم تُطاوعه نفسه على الحلم والعفو، وذلك في قصة مَن عجِل، فلطَم خادمًا له، فقال له سويد بن مُقرن - رضي الله عنه -: "عَجَزَ عليك إلا حُرُّ وجهها، لقد رأيتُني سابعَ سبعةٍ من بني مُقرن، ما لنا خادم إلا واحدة، لطَمها أصغرُنا، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نعتقَها"[10].



إن التربية على الحِلم والعفو غايةٌ عظمى من غايات التربية الإسلامية؛ ذلك لأنه يُسهم بشكل كبيرٍ في إيجاد الإنسان الصالح والمواطن الصالح والمسلم المسالم، الذي يُؤثر العافية ليس جُبنًا، بل أخذًا بالحِكمة والفِطنة في تغليب الخير، والأخْذ بدواعيه، وقطْع الشر وأسبابه، وفي حديث عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أبغضُ الرجال إلى الله الأَلَدُّ الخَصِم))[11].




[1] رواه مسلم في كتاب الفضائل، حديث (2310)، وأبو داود في كتاب الأدب، حديث (4773).
[2] متفق عليه؛ رواه البخاري في كتاب الأدب، حديث (6117)، ومسلم في كتاب الإيمان، حديث (37).
[3] متفق عليه؛ رواه البخاري في كتاب الأدب، حديث (6102)، ومسلم في كتاب الفضائل، حديث (2320).
[4] مفردات القرآن ص (140)، كتاب الحاء.
[5] الفتح (1/ 52).
[6] متفق عليه؛ رواه البخاري في كتاب الأدب، حديث (6029) واللفظ له، ومسلم في كتاب الفضائل، حديث (2321).
[7] رواه أحمد في مسند العشرة، حديث (284).
[8] البخاري في كتاب الأدب، حديث (6116)، وانظر: الفتح (10/ 520).
[9] متفق عليه؛ رواه البخاري في كتاب الأدب، حديث (6114)، ومسلم في كتاب البر والصلة (2609).
[10] رواه مسلم في كتاب الإيمان، حديث (1658)، وأبو داود في كتاب الأدب، حديث (5167)، والترمذي في كتاب النذور، حديث (1542)، وقال: حسنٌ صحيح.
[11] متفق عليه؛ رواه البخاري في كتاب الأحكام، حديث (7188)، ومسلم في كتاب العلم، حديث (2668).


المصدر : شبكة الألوكة
 تم النشر يوم  الاثنين، 20 مايو 2013 ' الساعة  6:48 ص


 
Toggle Footer