الخميس، 27 ديسمبر 2012

البذل من أسس بناء الأمة الوسط



د. المصطفى إيدوز


لا ينكر عاقل أهمية البذل في إحياء الأمة الوسط إن على مستوى الفرد أو الجماعة. فهو، وإن كان يطهر-أي البذل- من شح النفس وأهوائها، وحبها الجم للمال، ويبعث السعادة والهناء في القلوب، فهو يحقق كذلك التوازن الاجتماعي الكفيل بالقضاء على الفقر، وإشاعة المودة والتلاحم بين أفراد المجتمع المسلم. لذلك كان البذل عنصرا أساسيا في إحياء ظهور الأمة الوسط على كل الناس بعد ركود وخفوت لا بسبب عقيدتها، ولكن بسب تخلي المسلمين عن عقيدتهم السمحة التي لم تترك جانبا من جوانب الحياة الإنسانية إلا ونظمته، وجعلت له حدودا وقوانين.

البذل في اللغة والشرع:
البَذْل ضد المَنْع بَذَله يَبْذِله ويَبْذُله بَذْلاً: أَعطاه وجادَ به. وكل من طابت نفسه بإِعطاء شيء فهو باذل له. والابتذال: ضد الصِّيانة. ورجل بَذَّال وبَذُول إِذا كان كثير البذل للما ل[1].

أما في الشرع فهو اصطناع المعروف والمقصود هنا هو فعل الخير وإسداؤه للعباد، سواء كان هذا الخير مالاً كالصدقة والإطعام وسقاية الماء وسداد الديون.

البذل في القرآن الكريم:
قال تعالى: ﴿ يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ﴾ [2] فقوله ﴿ وافعلوا الخير ﴾ وهو توجيه يشمل كل خير، وقال تعالى: ﴿ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ﴾ [3]

وقال تعالى: ﴿ وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ﴾ [4]

البذل في السنة النبوية الشريفة:

أحب الناس إلى الله عز وجل أنفعهم للناس
1- عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي الناس أحب إلى الله ونصف الأعمال أحب إلى الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( أحب الناس إلى الله عز وجل أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً( في مسجد المدينة) ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غضبه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رخاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له ثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام)) [5] وهكذا فالحديث الشريف يجلي لنا عن المعاني الآتية:
أ- أحب الناس إلى الله من كان كثير النفع لغيره.


ب- العمل الثاني المحبوب عند الله إدخال السرور على قلوب المؤمنين، إما بكشف كربهم، أو قضاء ديونهم، أوسد جوعتهم، أو قضاء حاجاتهم، وكلها أعمال تدخل تحت كساء البذل.


ج- وتبلغ قمة تفضيل هذه الأعمال حينما يجعلها الرسول عليه الصلاة والسلام مقدمة على أعمال تعبدية مثل الاعتكاف..

2- عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه))[6]

فهذا الثناء العظيم من رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه أي كان سببا في قضاء حوائج الناس.

3- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)) [7]

وخلاصة الحديث دعوة للبذل والعطاء

4- وعن أبي جري الهجيميّ قال أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقلت: يا رسول اللّه إنّا قوم من أهل البادية فعلّمنا شيئًا ينفعنا اللّه تبارك وتعالى به قال ((لا تحقرنّ من المعروف شيئًا ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تكلّم أخاك ووجهك إليه منبسط))[8]


الوصية الجامعة المستخلصة من هذا الحديث، إسداء المعروف للناس، مهما كان قدر هذا المعروف، ولو أن تكلم أخاك وأنت منبسط الوجه.

5- عن جابر رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أكل منه له صدقة وما سرق منه له صدقة، وما أكل السبع منه فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة))[9]


وفي الحديث دعوة لخدمة الناس وعموم ما خلق الله تعالى، فالمسلم يغرس ليأكل الناس والطير والوحش.

6- عن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه أن أمه ماتت فقال:يا رسول الله إن أمي ماتت أفأتصدق عنها؟ قال: نعم، قال: فأي الصدقة أفضل؟ قال: ((سقي الماء، فتلك سقاية سعد بالمدينة)) [10]


وصية رسو ل الله صلى الله عليه وسلم لسعد أن يتصدق على أمه بسقي الماء، وهو عمل فيه إسداء المعروف للناس، ونفعهم، وقضاء حوائجهم.

7- عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(( لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره)) قال أبو هريرة ( ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم)[11]


و في الحديث دعوة للتعاون والتكافل.

8- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها: قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)).[12]


إماطة الأذى عن الطريق عمل تطوعي ينفع الناس، ويذهب الأذى عنهم.

9-عن أبي موسى رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه السائل أو طلبت إليه حاجة قال ((اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء))[13].


في هذا الحديث أيضا دعوة إلى قضاء حوائج الناس.

10- عن معاوية بن أبي سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((إن الرجل ليسألني الشيء، فأمنعه حتى تشفعوا فيه فتؤجروا))، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اشفعوا تؤجروا))[14].


ومقصد الحديث كذلك الدعوة إلى الاهتمام بشؤون الأخرين، والتطوع لقضاء حوائجهم.

11- عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال:((الإيمان بالله والجهاد في سبيله، قال: قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمناً، قال: قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تعين صانعاً أو تصنع لأخرق، قال: قلت: يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: تكف شرك عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك)) [15]


الذي نستخلصه من هذا الحديث كذلك، الدعوة إلى خدمة الآخرين، والاهتمام بشؤونهم، وقضاء حوائجهم، فإن لم يكن، فكف الأذى عنهم، وهو حاجة تقضى لهم.
12- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((كل معروف صدقة))[16]

ففي الحديث أيضا الدعوة إلى اصطناع المعروف، وهو لب البذل وأساسه.

13- عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((كل معروف صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك))[17]

البذل وتهذيب النفس الإنسانية:
يعرف صدق المؤمن، وحبه لله ورسوله من بذله، واستهانته بما في يديه من أموال ومتاع.



قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ذئبان جائعان أُرسِلا في زريبةِ غَنَمٍ بأفسد لها من الحرص على المال والحسب في دين المسلم".[18].

لاريب أن الحديث الشريف يجلي لنا عن أخطر أمراض النفوس البشرية، حب المال والحرص على جمعه، والتكالب على الدنيا دون رادع أو زاجر. وهو ما يسبب الصراع في المجتمعات بين الناس، فتسطو عليهم النفس الذئبية الشرسة الفتاكة.



لذلك كان الهدي النبوي يرمي إلى تربية النفوس وتهذيبها من ذئبيتها الشرسة المحبة للمال، المتعلقة بالجاه والسلطة. لأنه في غياب هذا التهذيب الخلقي لا يمكن أن نحصل على أمناء يخافون الله تعالى ويتجنبون الحرام.وهكذا حرص الإسلام حرصا شديدا على تربية النفوس وتزكيتها، حتى تتطهر من كل صفات البخل والجشع وحب المال.


فالرسول عليه الصلاة والسلام يحذر صفوة الناس من هذه الذئبية الشرسة صحابته الكرام رضوان الله تعالى عليهم،.وهم ما هم في صدقهم وإخلاصهم.

فقال عليه الصلاة والسلام لهم يوما وقد وفد عليهم خير كثير بعد مدة من الشدة والعسر: "والله ما الفقر أخشى عليكم. ولكني أخشى عليكم أن تُبْسَط الدنيا عليكم كما بُسِطَت على من كان قبلكم فتنافسوها (أي فتتنافسوها) كما تنافَسوها وتُهلككم كما أهلكتهم".[19] المطلب النبوي لم يكن القضاء التام على هذه النفس الشرسة المحبة للمال، ولكن خشي علينا أن ننتقل من حال الحلال الكثير إلى حال أشد خطرا وضررا وهو الضراوة الذئبية الجشعة، أي أن ننتقل من نفس وديعة هنيئة إلى أخرى فتاكة حريصة كل الحرص على المال، لا ترتدع بشرع ولا بسلطان.

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم ترك لنا مجالا للتنافس المشروع، حتى تحقق هذه النفس رغبتها من حبها للمال في إطار مشروع محمود. قال صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين: رجلٍ آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها، ورجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق".[20]. ومن حديث عبد الله بن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا حسد إلا في اثنتين. رجلٍ آتاه الله القرآن فقام به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وأطراف النهار". [21]


فالحرص على العلم والمال مطلبان أساسيان لقيام هذ الدين ما روعيت الحدود، وما تطهرت الأنفس من التنافس الذئبي، وحب الجاه والرئاسة. فديننا ليس رهبنة حتى نترك الدنيا وما فيها، بل الواجب العمل في الدنيا لأجل الآخرة،" فالدنيا مزرعة الآخرة"

وإن التنافس الشريف الذي دعا إليه الإسلام من لب هذا الدين، خصوصا إذا كان تنافسا من أجل الآخرة.
قال تعالى: ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾.[22] وقال الإمام الحسن البصري: "إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة". وقال وهيب: "إذا استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل". وقال محمد بن يوسف الأصبهاني العابد: "لو أن رجلا سمع برجل أو عرف رجلا أطوع لله منه كان ينبغي له أن يحزنه ذلك". وقال غيره: "لو أن رجلا سمع برجل أو عرف رجلا أطوع لله منه فانصدع قلبه لم يكن ذلك بعَجَب". قال رجل لمالك بن دينار: "رأيت في المنام مناديا ينادي: أيها الناس؟ الرحيلَ الرحيلَ! فما رأيت أحدا ارتحل إلا محمد بن واسع". فصاح مالك وغُشي عليه. [23].

فنعم السباق إلى الآخرة دون نسيان البناء لذلك في الدنيا من خلال تهذيب هذه النفوس من ذئبيتها، وجعلها أكثر استجابة لحدود الله تعالى.


وقال الإمام الرفاعي رحمه الله: "يا ولدي! إن ملكت عقلا حقيقيا ما ملت إلى الدنيا وإن مالت لك، لأنها خائنة كذابة تضحك على أهلها. من مال عنها سلم منها، ومن مال إليها بُلِيَ فيها، هي كالحية، لَيِّنٌ لمسُها، قاتل سمها. لذاتها سريعة الزوال، وأيامها تمضي كالخيال. فاشغل نفسك فيها بتقوى الله، ولا تغفل عن ذكره تعالى ذرة واحدة. وإن طرقك طارق الغفلة فاستغفر الله، وارجع لباب الملاحظة، واذكر الله، واستح منه. راقبه في الخلوات والجلوات، واحمده واشكره على الفقر والغنى"[24]..



البذل والمجتمع المسلم:
قواعد أساسية لبناء مجتمع مسلم متكافل:
الرحمة والمحبة والإنفاق في سبيل الله تعالى وذلك ليوم ﴿ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ﴾[25]


حث الناس على تطبيق فرض الزكاة في أموالهم، فإن لم يكن فبوازع السلطان.


تربية المؤمنين على البذل والعطاء، بيقينهم الحق أن الله هو الرزاق، إن السعادة الحقيقية ليست في الاستهلاك فقط، وإنما في البذل والسخاء.


يربى المؤمنون على البذل شكرا لله تعالى على ما أنعم وتلك فضيلة عظمى.

قال تعالى: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [26].


تربية المؤمنين على الاعتقاد الجازم بأن الخير كله من الله تعالى لا من غيره.


إن خطاب الله تعالى لصفوة خلقه فيه بشارة بمضاعفة الأجر، والتعهد والتكفل بالرزق،قال الله عز وجل فيما رواه عنه رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: "يا ابن آدم! أَنفقْ أُنفِقْ عليك!".[27].


أما غير هؤلاء الأحباب فيدعون بوازع السلطان قال أبو ذر ضي الله تعالى عنه: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال: "هم الأخسرون وربِّ الكعبة!" قال فجئت حتى جلست، فلم أتَقارَّ أن قمت فقُلت: يا رسول الله! فداك أبي وأمي من هم؟ قال: "هم الأكثرون أموالا إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا. من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله. وقليل ما هم، ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه تنطحه بقرونها، وتطَؤُه بأظلافها. كلما نفِدَت أخراها عادت عليه أولاها حتى يُقضى بين الناس".[28]


من الآداب النبوية أن نشكر من أحسن إلينا.

قال صلى الله عليه وسلم: "لا يشكر الله من لا يشكر الناس".[29]


كما حث الإسلام على التكسب لفضيلته في المجتمع بدل ذل السؤال. قال صلى الله عليه وسلم: "لأن يحتطب أحدكم حُزمةً على ظهره خير له من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه".[30] أهم مرتكزات التكافل الاجتماعي في الإسلام: الزكاة والصدقة، ثم الكرم والنفقة في سبيل الله، ثم إيتاء ذوي القربى واليتامى والمساكين، ثم إطعام الطعام، ثم قسمة المال.

تربية المؤمنين على البذل للقضاء على الفقر الذي هو صنو الفقر، ليتفرغ المؤمنين جميعا للعبادة في طمأ نينة وراحة.


والصدقة هنا لفظ يعم كل شئي الزكاة والصدقة التطوعية.

الصدقة تؤخذ من الأغنياء وتعطى للفقراء، فهي تزكي خلق الاغنياء وتنفي عنهم الشح. ومن ثم تختفي بوادر الحقد الطبقي الذي يعصف بالمجتمعات..


إن إخراج الزكان قبل أن تكون فرضا من فروض الإسلام على القادرين فهي وسيلة تربوية عظمى، تهذب نفس المؤمنين، وينالون بها رضى الله تعالى.

فليست الزكاة مثل الربا، فالله تعالى يمحق الربا ويزيد مخرج الزكاة بركة وخيرا ورزقا.



- التقوى والخوف من الله تعالى أساس الزيادة في الرزق



صورة رائعة لعبد صالح أدى حق الله في ماله ومال المسلمين،للعبرة والموعظة.

قال علي رضي الله عنه: "والله لأن أبيت على حَسَكِ السعدان (شوك) مُسَهدا، وأجر في الأغلال مصفدا، أحب إلي من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد، وغاصبا لشيء من الحطام ! وكيف أظلم أحدا لنفس يسرع إلى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها ! والله لقد رأيت عقيلا (أخوه المملق الفقير)، وقد أملق حتى استماحنى من بركم (طلب من قمحكم) صاعا. ورأيت صبيانه شعث الشعور، غبر الألوان من فقرهم. كأنما سودت وجوههم بالعظلم (صبغ). وعاودني مؤكدا، وكرر علي القول مرددا. فأصغيت إليه سمعي، فظن أني أبيعه ديني، وأتبع قياده مفارقا طريقي ! فأحميت له حديدة، ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها. فضج ضجيج ذي دنف (مرض) من ألمها. وكاد أن يحترق من ميسمها. فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل ! أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه ! أتئن من الأذى ولا أئن من لظى !
وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها (جاءنا بحلوى في الليل)، ومعجونة شنئتها (كرهتها)، كأنما عجنت بريق حية أو قيئها. فقلت: أصلة رحم، أم زكاة، أم صدقة ؟ فذلك محرم علينا أهل البيت. فقال: لاذا ولا ذاك ! ولكنها هدية. فقلت هبلتك الهبول (ثكلتك أمك) ! أعن دين الله أتيتني لتخدعني ! أمختبط أنت (مختل العقل) أم ذو جنة أم تهجر (تهذي) ! والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت ! إن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ! ما لعلي ولنعيم يفنى، ولذة لا تبقي ! نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل. وبه نستعين !". [31] من قصص وأخبار المنفقين والمتصدقين:
إنفاق النبي صلى الله عليه وسلم.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق فيعطي عطاء من لا يخشى الفقر، كان الأعرابي إذا جاء أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيرجع إلى قومه فيرفع عقيرته فيقول: يا قوم! أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. ولذلك حين ألجأه الأعراب يوم أوطاس إلى شجرة فأمسكت رداءه قال: (ردوا عليّ ردائي، فلو كان عندي مثل شجر تهامة نعماً؛ لقسمته بينكم، ثم لن تجدوني جباناً، ولا بخيلاً، ولا كذاباً) وقال للأنصار حين أتوه وتوافدوا عليه في صلاة الفجر: (لعله بلغكم أن أبا عبيدة قدم من البحرين بمال، فما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس في منصرفه من تبوك: (إنه ليس لي من هذا المال إلا الخمس، وهو مردود عليكم). كان صلى الله عليه وسلم من أجود الناس وأسخاهم؛ ولذلك قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، ما سئل شيئاً قط فقال: لا) إن كان عنده أعطى، وإلا رد بميسور من القول. وهذا الأدب أدبه الله به في قوله: ﴿ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا * وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ﴾[32]، هذا تأديب الله له، وقد تأدب به صلى الله عليه وسلم، كما قال: (أدبني ربي فأحسن تأديبي). وقد أخرج البخاري و مسلم في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان يدارسه القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة).

إنفاق عائشة رضي الله عنها
كان الإنفاق من هدي الصحابة، وقد تعلموا ذلك منه صلى الله عليه وسلم، فهذه عائشة رضي الله عنها تعلمت من إنفاق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (ذبح في بيتي شاة ذات يوم، فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بقي عندكم من الشاة؟ قلت: كتفها، فقال: بقيت كلها إلا كتفها)؛ لأنها كلها أنفقت في سبيل الله، تقول مولاة عائشة رضي الله عنها: جاء إلى عائشة عطاء وهي صائمة في شدة الحر، وكان العطاء عشرة آلاف درهم، فوزعته في مجلسها، فلم تمسك منه أي شيء، فلما انتهى قلت: رحمك الله! لو أمسكت لنا ما نفطر عليه، فقالت: لو ذكرتيني لفعلت! لم تتذكر أنها بحاجة إلى ما تفطر عليه فقط.

إنفاق أبي بكر رضي الله عنه
أبو بكر رضي الله عنه أتى بماله كله مرتين في سبيل الله، يحمله فيجعله بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيدخل عليه السرور، حتى تبرق أسارير وجهه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تركت لأهلك؟ قال: الله ورسوله)، وهو الذي عندما ارتد العرب عن دين الله، وبلغه الخبر، سل قراب سيفه، وقال: أينقص هذا الدين وأنا حي؟!، لا يتحمل أن يلحق هذا الدين أي نقص وهو حيّ؛ لأنه قائد للدين، وهو محام عنه ومدافع؛ فلذلك أنفق ماله كله في الدفاع عن دين الله.

إنفاق عمر وعثمان رضي الله عنهما
كان عمر رضي الله عنه ينفق كثيراً وقد سابق أبا بكر فأنفق نصف ماله، فأتى به؛ فإذا أبو بكر قد جاء بماله كله!! وكذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه عندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يحض على الإنفاق في تجهيز جيش العسرة، فجاء بتسعمائة بعير برواحلها، ومراكبها، ونفقاتها، وسلاحها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يضر عثمان ما فعل بعد اليوم)؛ فقد حل عليه رضوان الله الأكبر، الذي لا سخط بعده. وكانت بئر رومة تستعذب في المدينة أي: ماؤها عذب، وقال صلى الله عليه وسلم: (من يشتري بئر رومة -وكانت ليتيمين-، فيجعل دلوه فيها مع دلاء المسلمين وله الجنة؟ فقال: عثمان: أنا لها. فاشتراها، فلما ساوم أصحابها فيها، أغلوا عليه بالثمن فأعطاهم ضعف ذلك، وجعلها في سبيل الله، وجعل دلوه فيها مع دلاء المسلمين).

إنفاق علي رضي الله عنه
كان علي رضي الله عنه ينفق ولا يبقي لنفسه درهماً ولا ديناراً، وكان يقول: (مالي وللدنيا، إنني لست من أهلها، مالي وللدنيا؛ إنني لست من أهلها). فقد باع نفسه لله، وخرج من مكة وليس معه إلا ثوبه، وعندما تزوج سيدة نساء العالمين -بضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاطمة رضي الله عنها- لم يكن له إلا شارفان من الإبل، منحهما إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يخرج بهما إلى الفلاة؛ ليأتي بإذخر؛ فيبيعه، فيجهز أهله من ذلك، فلما أناخهما بعرصة الدار، وعقلهما، شرب حمزة إذ ذاك خمراً مع فتية من الأنصار، فغنته جارية، فحثت حمزة على نحر الناقتين، فقام إليهما، فنحرهما، فحرمت الخمر بعد ذلك، وكان رضي الله عنه من أشد الناس تعاهداً لقرابته، وصلة رحمه، وكان رضي الله عنه ينفق على كثير من أصحاب البيوت، وهم لا يعلمون أن النفقة من عنده. وكان قبل موته -وهو خليفة يقسم كل ما في بيت المال على المسلمين، ويقمه بردائه، وينضح فيه الماء، ويصلي فيه ركعتين، ويشهد فيه على المسلمين. ولم يترك إلا أربعين درهماً، كان ميراث علي جميعه أربعين درهماً، وله أربعة وعشرون من الأولاد، وله عدد من الزوجات، ومع ذلك لم يترك إلا أربعين درهماً، كان يريد بها رقبة يعتقها في سبيل الله. وعندما غنم المسلمون كنوز كسرى وقيصر، جيء ببنات كسرى إلى عمر بن الخطاب، فتردد عمر في شأنهن: هل يعتقهن، أو يستعبدهن ليكون ذلك نكاية في الفرس، أو ماذا يعمل بهن؟ فجمع أهل الشورى من المهاجرين والأنصار، فقال له عبد الرحمن بن عوف: بعهن، واجعل ثمنهن في تجهيز الجيوش؛ فإننا بحاجة إلى ذلك. فعرضهن عمر للبيع، فاشتراهن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بكل ماله، ووزعهن بين أولاد الصحابة، فأعطى إحداهن الحسين بن علي فكانت أم علي بن الحسين، وأعطى الأخرى لـعبد الله بن عمر، فكانت أم سالم بن عبد الله، وأعطى أخرى لرجل آخر أظنه عبد الله بن الزبير بن العوام، فكانت أم بعض أولاده. هكذا كان علي رضي الله عنه، فقد كان الذين يعرفونه يقولون: (والله! لهو أجود مما هو أشجع، ولكن شجاعته أذكر في الناس) أي: أشهر في الناس، فهو أجود مما هو أشجع.

إنفاق عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه
عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه كان تاجراً يضرب في الأرض، أتته عير في (عام المجاعة) تحمل أنواع الأرزاق والبضائع، فأتاه تجار المدينة يساومونه بالعير، فقالوا: نجعل لك على الدينار ديناراً، وعلى الدرهم درهماً، فقال: أعطيت أكثر من ذلك. فقالوا: نجعل لك على الدرهم درهمين، وعلى الدينار دينارين، فقال: أعطيت أكثر من ذلك. فقالوا: نحن تجار المدينة وليس فيها من سوانا، فمن أعطاك أكثر من ذلك؟ فقال: ربي أعطاني عشرة أضعاف ما قلتم، فأنفقها بأحلاسها، وأقتابها، وما كانت تحمله في سبيل الله.

الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما
وكان علي بن الحسين رضي الله عنهما ينفق على مائة بيت من فقراء المدينة، وكانوا لا يعلمون أنه الذي ينفق عليهم، كان يأتي في آخر الليل، وقد نام أهله، فيحمل الدنانير والدراهم، ويتسور تلك البيوت؛ فيجعلها فيها، فيصبح أهلها والدنانير عند رءوسهم، ولا يدرون من أين أتت!! وكان الحسن بن علي رضي الله عنه مطلاقاً، وكان ينفق على مائة مطلقة: فيتولى كل مصاريفها، وكل ما تحتاج إليه من نفقة وسكنى.

إنفاق عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنه
كان عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما ينفق على فقراء المدينة وفقراء مكة، ثم ازداد ماله فأنفق على فقراء الحجيج، ثم أنفق على فقراء أهل الشام، وكان يقول: لو بقي لي عمر لازداد مالي؛ فأنفقت على غيرهم من الفقراء؛ لأنه يعلم أن القضية فقط هي قضية العمر، فهذا المال الذي تعتني به هو إنفاق من الله عليك، فإذا كنت أميناً في توزيعه استمر الإنفاق عليك، فما هو إلا بمثابة الحنفية إذا فتحت استمر الماء، وإذا أغلقت توقف.

إنفاق محمد بن مسلم بن شهاب الزهري
فمحمد بن مسلم بن شهاب الزهري رحمه الله كان من الأجواد المشاهير، وكان يكثر من النفقة على طلاب العلم فكان يقول: (إن هؤلاء قد شغلهم العلم، عن اكتساب المال، وإنهم لا يسألون الناس؛ فهم أحق بهذه النفقة) فكان ينفق عليهم، وكان إذا أتى المدينة اجتمع عليه طلاب الحديث من أصقاع الأرض، فيقضي عنهم كل ديونهم.

إنفاق عبد الله بن المبارك
عبد الله بن المبارك سيد أهل مرو وعالمهم، فإنه رحمه الله كان غنياً؛ لأنه كان مجاهداً في سبيل الله -والجهاد كفيل لصاحبه بالغنى- فكان إذا رجع من غزوة، أتى بالغنائم ليقسمها بين الذين يتأهبون للجهاد، فيقول: (هذا المال مال الجهاد، أخذناه منه وسنعيده إليه) فأخذه للجهاد حين غنمه، ثم يعيده على الجهاد بتجهيز الجيوش، وكان إذا خرج إلى الحج أخذ من رفقته الحجاج أموالهم، فقال: (هي أمانة عندي أنفق بها عليكم)، فإذا رجعوا من الحج، وظنوا أنه قد أنفق عليهم من مالهم، رد عليهم أموالهم كلها، فإذا به كان ينفق عليهم من ماله الخاص!!

وصايا نبوية:
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)، وقال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً). فلذلك لا يحل للمسلم أن يخذل المسلم، ولا أن يسلمه، والنبي صلى الله عليه وسلم بين هذا فقال: (المسلم أخو المسلم: لا يخذله، ولا يحقره، ولا يكذبه. التقوى ها هنا -ويشير إلى صدره ثلاثاً- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه).

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من جهز غازياً فقد غزا).

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجداً -ولو كمفحص قطاة- بنى الله له بيتاً في الجنة). ومفحص القطاة: المكان الذي تستقر فيه وهذا مبالغة، ولا يقصد به أن يكون المسجد على قدر مفحص قطاة، وإنما يقصد به المشاركة، فالمشاركة مطلوبة في بناء المسجد ولو بطوبة واحدة، قدر مفحص قطاة- تكون سبباً في أن يبنى لك بها بيت في الجنة.

وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والله! لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها).

وعندما جاء خالد بن الوليد بأكيدر دومة، عجب المسلمون من حسن ملابسه، وكان يلبس الديباج الأبيض، فجعلوا يلمسون ملابسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من ملابس هذا).

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا لأربعة: رجل آتاه الله مالاً، وآتاه علماً، فهو ينفق المال فيما أمر بإنفاقه فيه، فهو بأعلى المنازل، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو يقول: لو كان لي مال لفعلت فيه مثل ما يفعل هذا، فهو مثله في الأجر، ورجل آتاه الله مالاً: ولم يعطه علماً، فهو ينفق المال في غير حله، فهذا بشر المنازل، ورجل لم يعطه الله مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو أن لي مالاً لفعلت فيه مثل ما يفعل هذا، فهو شريك له في الوزر)، نسأل الله السلامة والعافية. ولذلك فإن النية الصادقة يبلغ بها الإنسان المبالغ العالية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن رجلاً من بني إسرائيل خرج ذات يوم فمر بكثيب أهيل من الرمل، فقال: لو أن لي مثله سويقاً؛ فأنفقه في سبيل الله، فلما مات عرض الله عليه صحيفة عمله، فإذا فيها كثيب أهيل من السويق متقبل عند الله، فقال: يا رب! من أين لي هذا وما رأته عيناي قط؟ قال: إنك مررت ذات يوم بكثيب رمل، فقلت: لو أن لي مثله سويقاً فأنفقه في سبيل الله فقد قبلته منك) فنية المؤمن أبلغ من عمله، ومن لم يكن لديه ما ينفقه فلينو إذا حصل على مال أن يتصدق به، وينفقه، وعليه ألا يخلف الوعد، وأن يتذكر حال المنافقين الذين قال الله فيهم: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾[33]

قصة الأعمى والأقرع والأبرص
اذكروا حديث الأعمى والأقرع والأبرص، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله امتحنهم بالملك الذي أرسل إليهم، فاللذان أنكرا النعمة، ولم يعرفاها، سخط الله عليهما فردهما إلى حالهما السابق، والذي عرف النعمة، وأدى حقها، أدام الله عليه نعمته، وتقبل منه. شكر النعم يجب أن نتعرف على نعمة الله علينا، وألا ننكر هذه النعم، ولنتذكر حال المشركين الذين قال الله فيهم: ﴿ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [34]، إن علينا أن نشكر هذه النعمة وأن نقيدها، ولا يكون قيدها إلا بشكر الله، وقد تعهد الله بالزيادة لمن شكر فقال: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [35]، فعلينا أن نذكر نعم الله ونشكرها، وأن نؤدي الحقوق التي علينا، وأن نعلم أن ما ننفقه منها، وما نقدمه منها لن يضع، وإنما هو محسوب مكتوب نجده: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ [36].


من عذب الكلام:
قال أبو العتاهية يخاطب سلم بن عمرو:


نعى نفسي إلي من الليالي *** تصرفهن حالا بعد حال
فما لي لست مشغولا بنفسي *** وما لي لا أخاف الموت ما لي
لقد أيقنت أني غير باق *** ولكني أراني لا أبالي
تعالى الله يا سلم بن عمرو *** أذل الحرص أعناق الرجال
هب الدنيا تساق إليك عفوا *** أليس مصير ذاك إلى زوال
فما ترجو بشيء ليس يبقى *** وشيكا ما تغيره الليالي
إن رفض الدنيا فما باله *** يكتنز المال ويسترفد



وأنشد محمود الوراق:

أراك يزيدك الإثراء حرصا *** على الدنيا كأنك لا تموت
فهل لك غاية إن صرت يوما *** إليها قلت حسبي قد رضيت


وقال آخر:

الحرص داء قد أضر *** بمن ترى إلا قليلا
كم من عزيز قد رأيت *** الحرص صيره ذليلا
فتجنب الشهوات واحذر *** أن تكون له قتيلا
فلرب شهوة ساعة *** قد أورثت حزنا طويلا



وقال آخر:

الحرص عون للزمان على الفتى *** والصبر نعم العون للأزمان
لا تخضعن فإن دهرك إن يرى *** منك الخضوع أمده بهوان


ولأبي عبد الله الصوري:

لما رأيت الناس قد أصبحوا *** وهمة الإنسان ما يجمع
قنعت بالقوت فنلت المنى *** والفاضل العاقل من يقنع
ولم أنافس في طلاب الغنى *** علما بأن الحرص لا ينفع


وقال أبو العتاهية :

أطعت مطامعي فاستعبدتني *** ولو أني قنعت لصرت حرا


وقال ابن المبارك:
ما الذل إلا في الطمع.


وأنشد بعضهم:


إن المطامع ما علمت مذلة *** للطامعين وأين من لا يطمع


وقال بعض الحكماء: قلوب الجهال تستعبد بالأطماع وتسترق بالمنى وتعلل بالخدائع.

وقال آخر:

لا تجزعن على ما فات مطلبه *** ها قد جزعت فماذا ينفع الجزع

إن السعادة يأس إن ظفرت به *** بعض المرار وإن الشقوة الطمع



وقال آخر:

الله أحمد شاكرا *** فبلاؤه حسن جميل

أصبحت مسرورا معافى *** بين أنعمه أجول

خلوا من الأحزان خف *** الظهر يغنيني القليل

ونفيت باليأس المنى *** عني فطاب لي المقيل

والناس كلهم لمن *** خفت مئونته خليل


قالوا للمسيح يا روح الله أخبرنا عن المال فقال: المال لا يخلو صاحبه من ثلاث خلال، إما أن يكسبه من غير حله، وإما أن يمنعه من حقه، وإما أن يشغله إصلاحه عن عبادة ربه.
قال الحطيئة:

ولست أرى السعادة جمع مال *** ولكن التقي هو السعيد

إذا ما الفتى لم ينع إلا لباسه *** ومطعمه فالخير منه بعيد

يذكرني صرف الزمان ولم أكن *** لأهرب مما ليس منه محيد

فلو كنت ذا مال لقرب مجلسي *** وقيل إذا أخطأت أنت رشيد


وقال آخر:

ذهاب المال في أجر وحمد *** ذهاب لا يقال له ذهاب


وقال الفضيل بن عياض إنما الفقر، والغنى بعد العرض على الله عز وجل:

ما شقوة المرء بالإقتار مقترة *** ولا سعادته يوما بإيسار

إن الشقي الذي في النار منزله *** والفوز فوز الذي ينجو من النار


كان يقال الشكر زينة الغنى، والعفاف زينة الفقر، وقالوا: حق الله واجب في الغنى، والفقر، ففي الغنى العطف، والشكر، وفي الفقر العفاف، والصبر وكان يقال: الغنى في النفس، والشرف في التواضع، والكرم في التقوى.


وقال حماد الراوية: أفضل بيت في الشعر قيل: في الأمثال:


يقولون يستغني ووالله ما الغنى *** من المال إلا ما يعف وما يكفي


وكان يقال: خصلتان مذمومتان الاستطالة مع السخاء، والبطر مع الغنى.
وقال آخر:

تقنع بما يكفيك والتمس الرضا *** فإنك لا تدري أتصبح أم تمسي

فليس الغنى عن كثرة المال إنما *** يكون الغنى والفقر من قبل النفس



وقال آخر:

ولا تعديني الفقر يا أم مالك *** فإن الغنى للمنفقين قريب


وهذا مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل: ابن آدم أنفق أنفق عليك".
وقال آخر:

ألم تر أن الفقر يزري بأهله *** وأن الغنى فيه العلى والتجمل


وقال آخر:

استغن عن كل ذي قربى وذي رحم *** إن الغني من استغنى عن الناس


وقال ابن عبد البر وكان يقال: لا تدع على ولدك الموت فإنه يورث الفقر.



وقال علي رضي الله عنه: البخل جلباب المسكنة، وربما دخل السخي بسخائه الجنة.


وقال جعفر بن محمد قال الله عز وجل أنا جواد كريم، لا يجاورني في جنتي لئيم وقال إبراهيم بن أبي عبلة: سمعت أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز تقول أف للبخل، والله لو كان طريقا ما سلكته، ولو ثوبا ما لبسته .


وقال حاتم الطائي لما بلغه قول المتلمس:


قليل المال تصلحه فيبقى *** ولا يبقى الكثير على الفساد
وحفظ المال خير من نفاد *** وعسف في البلاد بغير زاد



قال قطع الله لسانه حمل الناس على البخل فهلا قال:

فلا الجود يفني المال قبل فنائه *** ولا البخل في مال البخيل يزيد
فلا تلتمس ما لا يعيش مقترا *** لكل غد رزق يعود جديد


وقال حاتم أيضا:

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى *** إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
ألم تر أن المال غاد ورائح *** ويبقى من المال الأحاديث والذكر


قال الأحنف بن قيس التميمي منه تعلمت الحلم قال لامرأته وقد تزوجها جديدا وأحضرت له طعاما قال لها: أين أكيلي فلم تدر ما يقول لها فأنشأ يقول:

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له *** أكيلا فإني لست آكله وحدي
أخا طارقا أو جار بيت فإنني *** أخاف ملامات الأحاديث من بعدي
وإني لعبد الضيف من غير ذلة *** وما في إلا ذاك من شيمة العبد


فسمعه جار له وكان بخيلا فقال:

لبيني وبين المرء قيس بن عاصم *** بما قال بون في الفعال بعيد
وإنا لنجفو الضيف من غير قلة *** مخافة أن يغرى بنا فيعود


وأنشد أبو جعفر الراشي:

كل الأمور تزول عنك وتنقضي *** إلا الثناء فإنه لك باق
لو أنني خيرت كل فضيلة *** ما اخترت غير مكارم الأخلاق

ودخل جرير على عبد الملك فأنشده:

رأيتك أمس خير بني معد *** وأنت اليوم خير منك أمس
ونبتك في المنابت خير نبت *** وغرسك في المغارس خير غرس
أنت غدا تزيد الضعف ضعفا ***كذاك تزيد سادة عبد شمس



فأمر له بثلاثين ألف درهم. وأنشد يحيى بن معبد بيتا فأمر له بعشرة آلاف درهم وهو:

إذا قيل من للجود والمجد والندى *** فناد بأعلى الصوت يحيى بن معبد

وقال أبو العتاهية :

إذا ما المرء صرت إلى سؤاله *** فما تعطيه أكثر من نواله
ومن عرف المكارم جد فيها *** وحن إلى المكارم باحتياله
ولم يستغل محمدة بمال *** وإن كانت تحيط بكل ماله

ولما ولى المنصور معن بن زائدة أذربيجان قصده قوم من أهل الكوفة فنظر إليهم وهم في هيئة رديئة وأنشأ يقول:

إذا نوبة نابت صديقك فاغتنم ***مرمتها فالدهر في الناس قلب
فأحسن ثوبيك الذي هو لابس ***وأفره مهريك الذي هو يركب
وبادر بمعروف إذا كنت قادرا *** زوال اقتدار فالغنى عنك يذهب



فقال له رجل ألا أنشدك أحسن من هذا لابن هرمة قال هات فأنشأ يقول:

وللنفس تارات يحل بها العزاء *** وتسخو عن المال النفوس الشحائح
إذا المرء لم ينفعك حيا فنفعه *** أقل إذا ضمت عليه الصفائح
لأية حال يمنع المرء ماله *** غدا فغدا والموت غاد ورائح



فقال له معن أحسنت، والله وإن كان الشعر لغيرك يا غلام أعطه أربعة آلاف فقال الغلام اجعلها دنانير ودراهم. فقال معن، والله لا تكون همتك أرفع من همتي يا غلام صفرها له.
دخل العتابي على عبد الله بن طاهر فأنشده:

حسن ظني حسن ما عود الله *** سواي بك الغداة أتا بي
أي شيء يكون أحسن من حسن *** يقين حدا إليك ركابي


فأمر له بجائزة، ثم دخل عليه مرة أخرى فأنشده:

جودك يكفيك في حاجتي *** ورؤيتي تكفيك مني سؤالي
فكيف أخشى الفقر ما عشت لي *** وإنما كفاك لي بيت مالي



فأجازه أيضا، ثم دخل عليه اليوم الثالث فأنشده:

اكسني ما يبيد أصلحك الله *** فإني أكسوك ما لا يبيد


فأجازه وكساه وحمله.





[1] لسان العرب- بذل-

[2] الحج:77
[3] النساء:114
[4] البقرة:195
[5] رواه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج، وحسّنه الألباني إسناده في السلسلة الصحيحة ح906
[6] ابن ماجه ح237، وابن أبي عاصم في السنة، وحسنه الألباني بطرقه ، السلسلة الصحيحة ح1322
[7] البخاري ح2566، مسلم ح1030
[8] أحمد ح20110
[9] مسلم ح1552
[10] النسائي ح3666، أحمد ح2333
[11] مسلم ح1609، البخاري ح2463
[12] مسلم ح35
[13] البخاري ح1432، مسلم ح2627
[14] النسائي ح2557، أبو داود ح5132
[15] البخاري ح2518،مسلم ح 84.
[16] البخاري ح6021، مسلم ح1005
[17] الترمذي ح1970، قال: هذا حديث حسن صحيح
[18] رواه عن كعب بن مالك رضي الله عنه الإمام أحمد والترمذي وصححه وابن حبان في صحيحه
[19] رواه الشيخان والترمذي عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه.
[20] أخرجه الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه
[21] أخرجه الشيخان من حديث ابن عمر رضي الله
[22] سورة المطففين، الآية: 26
[23] الزهد لابن أبي الدنيا541
[24] البرهان المؤيد لأحمد الرفاعي ص192
[25] سورة آل عمران، الآية: 30)
[26] (سورة سبأ، الآية: 13).
[27] الحديث رواه الشيخان عن أبي هريرة
[28] رواه الشيخان عن أبي ذر.
[29] رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح.
[30] رواه الشيخان عن أبي هريرة.
[31] نهج البلاغة 346
[32] الإسراء:26-29
[33] التوبة:75-77.
[34] النحل:83
[35] إبراهيم:7
[36] آل عمران:30



المصدر : موقع شبكة الألوكة
 تم النشر يوم  الخميس، 27 ديسمبر 2012 ' الساعة  1:26 م


 
Toggle Footer