الخميس، 27 ديسمبر 2012




أي العمل أفضل؟

الشيخ الدكتور عبدالمجيد بن عبدالعزيز الدهيشي


أسباب أهمية الموضوع:


1) حيرة الكثيرين حِيالَ تنوُّع الأعمال، مع رغبتهم في الخير والتزوُّد منه، وكثيرًا ما يطرحُ السؤال: أيُّهما أهم: الانشغالُ بالعلم أم بالدعوة؟ تلاوة القُرآن أم طلب العلم؟ الطَّواف أو صلاة التراويح في الحرم؟


2) ازدحام أنواع العمل الصالح واتِّساع الحقوق والواجبات وكثرتها ممَّا يستحيلُ معه الجمعُ بينها.


3) ظنَّ البعض أنَّ العمل الفاضل ما كان فيه مشقَّة أكثر:
قال أبو الدرداء - رضِي الله عنه -: "يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم، كيف يغبنون به قيام الحمقى وصَومهم، والذرَّة من صاحب تقوى أفضل من أمثال الجبال عبادةً من المغترِّين".


قال ابن القيِّم - معلقًا على هذه العبارة -: "فاعلم أنَّ العبد إنما يقطعُ منازل السير إلى الله بقلبه وهمَّته لا ببدنه، والتَّقوى في الحقيقة تقوى القُلوب لا تقوى الجوارح؛ قال - تعالى -: ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32]..." إلخ من "الفوائد".


وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله -: "وممَّا ينبغي أنْ يُعرَف أنَّ الله ليس رضاه أو محبَّته في مجرَّد عَذاب النفس وحملها على المشاقِّ؛ حتى يكون العمل كلَّما كان أشقَّ كان أفضل، كما يحسبُ كثيرٌ من الجهال أنَّ الأجر على قدر المشقَّة في كلِّ شيء، لا، ولكن الأجر على قدر منفعة العمل، ومصلحته، وفائدته، وعلى قدر طاعة أمر الله ورسوله، فأي العملين كان أحسن، وصاحبه أطوع، وأتبع - كان أفضل؛ فإنَّ الأعمال لا تتفاضَلُ بالكثرة، وإنما تتفاضَلُ بما يحصل في القلوب حالَ العمل"؛ "الفتاوى" 25/281-282.


4) أنَّ الجهل بالفاضل من الأعمال يترتَّب عليه آثارٌ منها:
1- نقصُ الأجر: فالجاهل بمراتب الأعمال يهتمُّ بالعمل قليل الأجر على حِساب كثير الأجر، ويضيع الجهد الكبير للحصول على حسناتٍ قليلة، ومن ذلك ما في الصحيحين عن أنسٍ قال: كنَّا مع النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في السفر، فمنَّا الصائم ومنَّا المفطر، قال: فنزلنا منزلاً في يوم حارٍّ أكثرنا ظلاًّ صاحب الكساء، ومنَّا مَن يتَّقِي الشمس بيده، قال: فسقَطَ الصوام وقام المفطرون، فضربوا الأبنية وسقوا الركَاب، فقال رسول الله: ((ذهب المفطِرون اليوم بالأجر)).


2- وقد يصلُ الأمر إلى حد تضييع أصل الأجر نفسه، فعن أبي هريرة قال: قال رجل: يارسول الله، إنَّ فلانة يذكر من كثرة صلاتها وصيامها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها قال: ((هي في النار)) قال: يارسول الله، فإنَّ فلانة... يذكر من قلَّة صيامها، وصدقتها وصلاتها، وأنها تصدقُ بالأثوار من الأقط ولا تُؤذي جيرانها، قال: ((هي في الجنَّة))؛ أخرجه أحمد والبزار وابن حبان في "صحيحه" والحاكم وقال: صحيح الإسناد، كذا في "الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني" (19/219).


5) أنَّ قلَّة الفقه في مراتب الأعمال الصالحة يترتب عليه تقديم المفضول على الفاضل من الأعمال، كما حصَل ذلك للقاضي الذي كان يقضي ويعلمُ الناس ويصلحُ بينهم، فلمَّا قرأ حديث النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ((إماطة الأذى عن الطريق صدقة)) ترك القضاءَ، وانشغل بإماطة الأذى عن الطريق، فهذا قد انشغل ببابٍ من أبواب الخير وشُعبةٍ من شُعَبِ الإيمان، ولكنَّه انشغل بأدنى شعب الإيمان، وترك الميدان الأَنْفَع والأَوْلَى بأمثاله.


ومن ذلك ما ذكَرَه ابن الجوزي حول تلبيس إبليس على بعض العبَّاد: "وقد لبَّس إبليسُ على جماعة من المتعبِّدين، فأكثروا من صلاة الليل وفيهم مَن يسهره كلَّه ويفرح بقيام الليل وصلاة الضحى أكثر ممَّا يفرح بأداء الفرائض، ثم يقعُ قُبَيل الفجر فتفوته الفريضةُ، أو يقوم فيتهيَّأ لها فتفوته الجماعة، أو يصبح كسلانًا فلا يقدر على الكسب لعائلته..."، ومثله في زماننا:
1- الانشغال بتعلُّم أو تعليم مسائل دقيقةٍ في العلم مع الجهل بمسائل كبيرة، قال القرطبي في تفسير قوله - تعالى -: ﴿ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ﴾ [آل عمران: 79]: "والربَّانيون واحدهم ربانى منسوبٌ إلى الرب؛ والربانى الذي يربى الناس بصغار العلم قبل كباره، وكأنه يقتدي بالرب سبحانه في تيسير الأمور، ورُوِي معناه عن ابن عباس"،وبوَّب البخاري "باب العلم قبل القول والعمل: وقال ابن عباس: كونوا ربانيين حلماء فقهاء ويُقال: الرباني الذي يُربِّي الناسَ بصِغار العلم قبل كبارِه".


2- الحِرص على الذَّهاب إلى إمامٍ حسنِ الصوت في التَّراويح، ولو ترتَّب على ذلك فَوات صلاة الجماعة.


3- الحِرص على أداء العُمرة والبَقاء في مكَّة في رمضان ولو ترتَّب عليه ضَياع الرعيَّة، ومثله مَن يسافرُ المدَّة الطويلة في الدعوة إلى الله ويضيع رعيَّته، أخرج الحاكم في "المستدرك": "عن جابر الخَيْواني قال: كنتُ عند عبدالله بن عمرٍو فقدم عليه قهرمان من الشام وقد بقيتْ ليلتان من رمضان، فقال له عبدالله: هل تركت عند أهلي ما يَكفيهم؟ قال: قد تركت عندهم نفقة، فقال عبدالله: عزمت عليك لما رجعت فتركت لهم ما يَكفيهم؛ فإنِّي سمعتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((كفَى بالمرءِ إثمًا أنْ يُضيِّع مَن يعولُ))، ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.


وابن القيم - رحمه الله - اعتبر انشِغال الإنسانِ بالأعمال المفضولة عن الفاضلة من عَقبات الشيطان التي لايتجاوَزُها المسلمُ إلا بفقهٍ في الأعمال ومَراتبها، ثم قال: "ولا يقطعُ هذه العقبة إلا أهلُ البصائر والصدق من أُولِي العِلم، السائرين على جادَّة التوفيق، قد أنزلوا الأعمال منازلَها، وأعطوا كلَّ ذي حقٍّ حقَّه".


6) وجود نُصوصٍ مختلفة في بَيان أفضليَّة عملٍ على عملٍ؛ وقد ورد من هذا كثيرٌ في الكتاب والسُّنَّة؛ ممَّا يجعلُ المسلمَ أحيانًا في حيرةٍ وتردُّد:

فمن القُرآن الكريم:
وردت آياتٌ عديدةٌ في كتاب الله - عزَّ وجلَّ - تُبيِّن أنَّ الأعمال ليست كلها في درجةٍ واحدةٍ، بل تختلفُ درجاتها في الخير؛ ومن ذلك قوله - تعالى -: ﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 271]، قال ابن كثير: "فيه دلالةٌ على أنَّ إسرار الصدقةِ أفضلُ من إظهارها؛ لأنَّه أبعدُ عن الرياء إلا أنْ يترتَّبَ على الإظهار مصلحةٌ راجحةٌ من اقتِداء الناس به؛ فيكون أفضل من هذه الحيثيَّة".


ومن ذلك أيضًا قولُه تعالى: ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [التوبة: 19]، ففاضَلتِ الآية بين أمرَيْن كلاهما طاعةٌ وقُربةٌ، وبيَّنت أنَّهما لا يستويان عندَ الله تعالى.


ومن ذلك قولُه - تعالى -: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122].


والسُّنَّة النبويَّة زاخرةٌ بالنَّماذج والأمثِلة لتفاضُلِ الأعمال والتكاليف الشرعيَّة التي يجبُ على المسلم مُراعاتها في عبادته.


وربما يكونُ أجمع حديث في ذلك حديث أبي هريرة أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((الإيمان بِضعٌ وسبعون - أوبضع وستون - شُعبة، فأفضلُها قولُ: لا إله إلا الله، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطريق، والحياءُ شُعبةٌ من الإيمان))؛ أخرجه مسلم.


وفي الصحيحين عن أبي هريرة أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - سُئِلَ: أيُّ العمل أفضل؟ فقال: ((إيمانٌ بالله ورسوله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهادُ في سبيل الله))، قيل: ثم ماذا قال: ((حجٌّ مبرور)).


وفي الصحيحين عن عبدالله بن مسعودٍ قال: سألت النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: ((الصلاةُ على وقتها))، قال: ثم أيٌّ؟ قال: ((ثم برُّ الوالدين)) قال: ثم أيٌّ؟ قال: ((الجهادُ في سبيل الله)).


وعند البخاري عن مسروق قال: سألت عائشةَ - رضي الله عنها -: أيُّ العمل كان أحبَّ إلى النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم؟ قالت: الدائم، قلت: متى كان يقومُ؟ قالت: كان يقوم إذا سمع الصارخ".


وعند مسلمٍ عن عائشة أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - سُئِلَ: أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: ((أدومُه وإن قلَّ)).


وعند مسلمٍ عن أبي ذرٍّ قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ الأعمال أفضلُ؟ قال: ((الإيمان بالله، والجهاد في سبيله)) قال: قلت: أيُّ الرِّقاب أفضلُ؟ قال: أنفَسُها عند أهلِها وأكثرها ثمنًا، قال: قلت: فإنْ لم أفعَلْ؟! قال: ((تُعِينُ صانعًا، أو تصنع لأخرق))، قال: قلت: يا رسول الله، أرأيتَ إنْ ضعُفت عن بعض العمل؟ قال: تكفُّ شرَّك عن الناس؛ فإنها صدقة منك على نفسك)).


وعند النسائي عن عبدالله بن مسعودٍ قال: سألت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أيُّ العمل أحبُّ إلى الله - عزَّ وجلَّ؟ قال: ((إقامُ الصلاة لوقتِها)).


وعند النسائي عن رجاء بن حَيْوَةَ عن أبي أُمامة أنَّه سأل رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أيُّ العملِ أفضلُ؟ قال: ((عليك بالصوم؛ فإنَّه لا عدلَ له)).


وعند البخاريِّ عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قالوا: يا رسول الله، أيُّ الإسلام أفضلُ؟ قال: ((مَن سَلِمَ المسلمون من لسانِه ويدِه)).


وعند البخاريِّ عن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - أنَّ رجلاً سألَ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أيُّ الإسلام خير، قال: ((تُطعِمُ الطعام، وتقرأُ السلام على مَن عرفت ومَن لم تعرف)).


وعند مسلمٍ عن أبي موسى قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ الإسلام أفضل؟ قال: ((مَن سَلِمَ المسلمون من لسانه ويدِه)).


وعند النسائيِّ عن عبدالله بن حبشي الخثعمي أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - سُئِلَ: أيُّ الأعمال أفضلُ؟ قال: ((إيمانٌ لا شكَّ فيه، وجهادٌ لا غلول فيه، وحجةٌ مبرورة))، قيل: فأيُّ الصَّلاة أفضلُ؟ قال: ((طُول القنوت))، قيل: فأيُّ الصَّدقة أفضل؟ قال: ((جهد المقلِّ)) قيل: فأيُّ الهجرة أفضلُ؟ قال: ((مَن هجَر ما حرَّم الله - عزَّ وجلَّ)) قيل: فأيُّ الجهاد أفضل؟ قال: ((مَن جاهَد المشركين بمالِه ونفسِه))، قيل: فأيُّ القتل أشرفُ؟ قال: ((مَن أُهريقَ دمُه وعُقِر جَوادُه)).


وعندَ ابنِ ماجه عن أبي بكرٍ الصِّدِّيق أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - سُئِل: أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: ((العجُّ والثجُّ)).


وعند أحمد والترمذي والحاكم عن أبي الدَّرداء - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ألا أنبِّئكم بخيرِ أعمالكم، وأزكاها عند مَلِيككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أنْ تلقوا عدوَّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟)) قالوا: بلى، قال: ((ذكر الله تعالى)).


وبعدَ هذا ما موقفُ المسلمِ من هذه النُّصوص وأمثالِها ممَّا وَرَدَ فيه تفضيلُ بعض الأعمال على بعض؟


اتَّفقت الأمَّة على أنَّ الأحكام الشرعيَّة التي كُلِّفَ بها المسلم أنواعٌ ومَراتب، وليست على ميزان واحد أو في مرتبة واحدة.


كما اتَّفق جمهورُ العلماء على انقسام مَأمورات الشرع إلى واجباتٍ ومستحبَّاتٍ، وانقسام مَنهيَّاته إلى مَكروهات ومحرَّمات، ويُكمِلُها القسم الخامس وهو المباح، فهذه الأحكام الشرعيَّة الخمسة التي لا سادس لها:
"واجب، ومندوب، ومحرم، ومكروه، ومباح".


ومن هنا: فالواجب مُقدَّم على المستحب أيًّا كانت درجته وفضيلته؛ كتقديم الفريضة على النافلة أو طلب العلم، وطاعة الوالدين مقدَّمة على المستحبِّ من العمل الصالح.


وفي الحديث القدسي: "وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحب إلي ممَّا افترضت عليه"؛ البخاري.


والمستحبُّ مُقدَّمٌ في الفضيلة على المباح كتقديم الانشغال بالذِّكر على قِراءة الصحف.


والمحرَّم يجبُ تركُه حتى ولو كان في رُكوبه نيلُ مستحبٍّ؛ كما لو ترَك الصلاة مع أناسٍ يترُكونها ليتألَّفهم.


وممَّا يتَّضح به هذا الأمرُ ما ثبَت في الصحيح عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال لي رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا عبدالله، ألم أُخبَرْ أنك تصومُ النهارَ وتقومُ الليلَ؟)) فقلت: بلى يا رسول الله، قال: ((فلا تفعل؛ صُمْ وأفطِرْ، وقُمْ ونَمْ؛ فإنَّ لجسدك عليك حقًّا، وإنَّ لعينك عليك حقًّا، وإنَّ لزوجك عليك حقًّا، وإنَّ لزورك عليك حقًّا، وإنَّ بحسْبك أنْ تصومَ كلَّ شهر ثلاثة أيام؛ فإنَّ لك بكلِّ حسنة عشرَ أمثالها، فإنَّ ذلك صيام الدهر كله)).


فينبغي مُراعاة الواجبات والموازنة بينها، وألاَّ يجتهد المؤمن في جانبٍ ويترك جَوانب أخرى من الواجبات التي عليه.


فمن خِلال الحديث يتبيَّن لنا أنَّ الانشِغال بالنافلة عن حقِّ الزوجة الواجب منهي عنه، وكذا الانشِغال بالنَّافلة عن إكرام الضيف الواجب؛ ففي الصحيحين: ((ومَن كان يؤمنُ بالله واليوم الآخِر فليُكرِم ضيفَه)).


والانشِغال بالعبادة الكثيرةِ المستحبَّة التي يترتَّبُ عليها تلفُ البدن منهيٌّ عنه.


وإذا كان كلا الفعلين مُرغَّبًا فيهما وهما مُستحبَّان، فهذا تعارُضٌ بين المستحبَّات، وهو من باب تعارُض المصالح: مثل أنْ يتردَّد الأمرُ بين أنْ يُصلِّي نافلةً أو يقرأ القُرآن، أو يذكُر الله تعالى، أو يطلب العلم، ونحو ذلك.


فهنا يأتي دورُ الفقهِ والفهمِ، فينظُر بين هذه المصالح ويُرجِّحُ بينها بحسَب الحال أو الزمان، وهذا ما عَناه ابنُ تيميَّة بقوله: "فإنَّ التمييز بين جِنس المعروف وجِنس المنكر، يتيسَّرُ كثيرًا، فأمَّا مَراتب المنكر ومَراتب الدَّليل، بحيث تقدمُ عند التَّزاحم أعرف المعروفين فتدعو إليه، وتُنكر أنكرَ المنكرين:، فإنَّه هو خاصَّة العُلَماء بهذا الدِّين".


وقال عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: "ليس العاقل مَن يعرفُ الخيرَ من الشرِّ، ولكنْ هو الذي يعرفُ خيرَ الشرَّيْن"؛ "السير" 3/74.


المقصود بفقه مَراتب الأعمال:
يعني: العلم بفاضِل الأعمال ومَفضولها، وأرجحها ومَرجوحها، فإنْ كانت الأعمال طاعةً علم أيها أحبُّ إلى الله وأكثرها أجرًا وثَوابًا.


يقولُ ابن تيميَّة: "الصلاة، والجهاد، والعلم، هذه الثلاث هي أفضلُ الأعمال بإجماع الأمَّة، قال أحمد بن حنبل: أفضل ما تطوَّعَ به الإنسان الجهادُ، وقال الشافعي: أفضلُ ما تطوَّع به الصلاة، وقال أبو حنيفة ومالك: العلم، والتحقيق أنَّ كلاًّ من الثلاثة لا بُدَّ له من الآخرَيْن، وقد يكونُ هذا أفضل في حال، وهذا أفضلُ في حالٍ، كما كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وخُلَفاؤه يفعَلُون هذا وهذا وهذا، كلٌّ في موضعه بحسَب الحاجة والمصلحة"؛ "منهاج السنة النبوية": جـ6، ص75.


وابن القيِّم - رحمه الله - قد قسم الناس في العبادة إلى أربعة أصناف، ثم رجح الصِّنف الرابع الذين قالوا: إنَّ أفضل العبادة العمل على مَرْضاة الربِّ في كلِّ وقتٍ بما هو مُقتَضى ذلك الوقت ووظيفته"، وانظر كلامَه في "مدارج السالكين" 1/88.


قال في "الفتح الرباني" 14/198: "وقد استَشكَلَ بعضُ أهل العلم تفضيلَ الذِّكر على الجهاد مع ورود الأدلَّة الصحيحة أنَّه أفضلُ الأعمال، وقد أجابَ العلماء بأجوبةٍ كثيرة أظهرها: أنَّ ما وَرَدَ من الأحاديث المشتمِلة على تفضيلِ بعض الأعمال على بعضٍ آخَر، وما ورد منها ممَّا يدلُّ على تفضيل البعض المفضَّل عليه يختلفُ باختلافِ الأشخاص والأحوال؛ فمَن كان مطيقًا للجهاد وقوي الأثر فيه فأفضل أعماله الجهاد، ومَن كان كثيرَ المال فأفضل أعماله الصَّدقة، ومَن كان غير متَّصفٍ بأحدٍ من الصفتين المذكورتين فأفضلُ أعماله الذِّكر والصَّلاة ونحو ذلك"، ا.هـ.


تطبيقات عمليَّة للسلف في تفاضُل الأعمال:
هدي النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أخرج مسلمٌ عن أنسٍ أنَّ نَفَرًا من أصحاب النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - سألوا أزواجَ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن عملِه في السرِّ فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكُل اللحم، وقال بعضهم: لا أنامُ على فراشٍ، فحَمِدَ الله وأثنى عليه فقال: ((ما بالُ أقوامٍ قالوا كذا وكذا، لكنِّي أُصلِّي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوَّج النساء، فمَن رَغِبَ عن سنَّتي فليس منِّي)).


أخرج البخاريُّ عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يفطرُ من الشهر حتى نظن ألا يصوم منه، ويصوم حتى نظن ألا يفطر منه شيئًا، وكان لا تشاء أنْ تراه من الليل مُصليًا إلا رأيتَه، ولا نائمًا إلا رأيته".


وعند مسلمٍ 1958 عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لم يكن رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الشهر من السَّنة أكثر صِيامًا منه في شعبان، وكان يقولُ: ((خُذوا من الأعمال ما تُطيقون؛ فإنَّ الله لن يملَّ حتى تملُّوا))، وكان يقول: ((أحبُّ العمل إلى اللهِ ما داوَمَ عليه صاحبُه وإن قلَّ)).


وعند البخاريِّ 38 عن أبي هُرَيرة عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ الدين يسرٌ، ولن يشادَّ الدِّين أحدٌ إلا غلَبَه؛ فسدِّدوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيءٍ من الدُّلجة))، قال في "فيض القدير": "واستَعِينوا على مُداوَمة العبادة بإيقاعها في وقت النَّشاط؛ كأوَّل النهار وبعدَ الزوال... واستعينوا عليها بإيقاعها آخِر الليل".


الجمعُ بين أنواع العمل الصالح باتِّزان وتميُّز ليس بالأمر اليسير، يؤكِّدُ هذا ما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن أنفق زوجين في سبيل الله نُودِي من أبواب الجنة: يا عبد الله، هذا خير، فمَن كان من أهل الصلاة دُعِي من باب الصلاة، ومَن كان من أهل الجهاد دُعِي من باب الجهاد، ومَن كان من أهل الصِّيام دُعِي من باب الرَّيَّان، ومَن كان من أهل الصدقة دُعِي من باب الصدقة))، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على مَن دُعِي من تلك الأبواب من ضَرورة، فهل يُدعَى أحدٌ من تلك الأبواب كلِّها؟ قال: ((نعم، وأرجو أنْ تكون منهم)).


قال ابن عبدالبر في "التمهيد" في شرح الحديث: "وفي هذا الحديثِ من الفقه والفضائل الحضُّ على الإنْفاق في سبيل الخير والحرصُ على الصوم، وفيه أنَّ أعمال البرِّ لا تفتحُ في الأغلب للإنسان الواحد، وأنَّ مَن فُتِحَ له في شيءٍ منها حُرِمَ غيرها في الأغلب، وأنَّه قد تُفتَحُ للقليل من الناس، وأنَّ أبا بكرٍ الصِّدِّيق - رضي الله عنه - من ذلك القليل".


وقال ابن مسعود: إنِّي إذا صُمتُ ضَعُفتُ عن قِراءة القُرآن، وقُراءة القرآن أحبُّ إليَّ.


وانظُر إلى تنوُّع أصحابِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم، ورضي الله عنهم - في التخصُّصات؛ أخرج الترمذي وغيره عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أرحم أمَّتي بأمَّتي أبو بكر، وأشدُّهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكلِّ أمَّة أمينًا، وإنَّ أمين هذه الأمَّة أبو عبيدة بن الجراح))، هذا حديث حسن صحيح.


أخرج البيهقي عن ابن شهاب: "لو هلك عثمان بن عفان وزيد بن ثابت - رضي الله عنهما - في بعض الزمان لهلك علمُ الفرائض إلى يوم القيامة، جاء على الناس زمانٌ وما يُحسنه غيرهما"، فهؤلاء الصحابة - رضي الله عنهم - كان كلُّ واحدٍ منهم على ثغرٍ وقائمًا بأمرٍ يهمُّ المسلمين.


وعند أحمد عن أبي وائل أنَّ الصبيَّ بن معبد كان نصرانيًّا تغلبيًّا أعرابيًّا، فأسلم فسأل: أيُّ العمل أفضل؟ فقيل له: الجهاد في سبيل الله - عزَّ وجلَّ - فأراد أنْ يُجاهد فقِيل له: حججت؟ فقال: لا، فقيل: حُجَّ واعتمِر ثم جاهِدْ.


وهذا خالد بن الوليد - رضِي الله عنه - له مناقب عديدة، وقد أثنى عليه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأخبر أنَّه سيفٌ من سيوف الله، وأنَّه نِعمَ أخو العشيرة، يقول عمرو بن العاص - رضِي الله عنه -: "ما عدل بي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبخالدٍ في حربه أحدًا منذ أسلمنا"؛ أي: إنَّه كان لا يقدمُ عليهما أحدًا، والحديث رواه الطبراني.


وهو القائل: "لقد شهدت زُهاءَ مائة زحفٍ، وما في بدني موضعُ شبرٍ إلا وفيه ضربةٌ من سيف، أو طعنةٌ من رمح..."، ويقول قيس بن أبي حازم: سمعت خالدًا يقولُ: "منعني الجهاد كثيرًا من القِراءة".


وهذا الأثر ذكَرَه الحافظ في المطالب بلفظ: "لقد منعني كثيرًا من قِراءة القُرآن الجهادُ في سبيل الله"، وقد رواه أبو يعلى والهيثمي وقال فيه: رجاله رجال الصحيح.


ويُروَى أنَّ سبب هذه المقولة أنَّه صلَّى بالناس إمامًا فأخطأ في قِراءته، لقد فاقَ خالدٌ - رضي الله عنه - في ميدان الجهاد، حتى شغَلَه عن غيره من العبادات والعلم؛ ولذا لا تكاد تجد له فتوى أو قولاً في تفسير آية من كتاب الله - سبحانه وتعالى - ولكنَّ هذا لم ينقصْ من شأنه ويُقلِّل من مكانته.


جاء رجلٌ إلى الخليل بن أحمد - وهو مشهورٌ بعلم العروض - ليتعلَّم العروض، فشعر الخليل بن أحمد أنَّه غير قابلٍ لتعلُّمه، فأعطاه بيتًا قطَّعَه، وهو:


إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئًا فَدَعْهُ العمل أفضل؟ space.gif=== وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ العمل أفضل؟ space.gif





ففهم الرجل المقصودَ، واتَّجه إلى علم النحوِ فنبغ فيه.


قال ابن عبدالبر في "التمهيد" بعد حديث: ((مَن أنفق...)) السابق: "إنَّ عبدالله بن عبدالعزيز العمري العابد كتَب إلى مالك يحضُّه إلى الانفراد والعمل، ويرغب به عن الاجتماع إليه في العلم، فكتب إليه مالك أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرُبَّ رجلٍ فتح له في الصلاة ولم يفتحْ له في الصوم، وآخَر فتح له في الصدقة ولم يفتحْ له في الصيام، وآخَر فتح له في الجهاد ولم يفتحْ له في الصلاة، ونشر العلم وتعليمه من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح الله لي فيه من ذلك، وما أظنُّ ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أنْ يكون كِلانا على خير".


يقول ابن القيم في "مدارج السالكين": "فإذا علم هذا، فمن الناس مَن يكون سيد عمله وطريقه الذي يعدُّ سلوكه إلى الله طريق العلم والتعلُّم، قد وفر عليه زَمانه مُبتغِيًا به وجهَ الله، فلا يَزال كذلك عاكفًا على طريق العلم والتعليم حتى يصلَ من تلك الطريق، ويفتح له فيها الفتح الخاص، أو يموت في طريق طلبِه، فيُرجى له الوصول إلى مَطلَبِه بعد مماته؛ قال - تعالى -: ﴿ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ [النساء: 100]، ومن الناس مَن يكون سيد عمله الذِّكر، وقد جعَلَه زاده لمعاده ورأس ماله لمآله، فمتى فتر عنه أو قصر رأى أنَّه قد غبن وخسر، ومن الناس مَن يكون سيد عمله وطريقه الصَّلاة، فمتى ما قصر في وِرده منها أو مضى عليه وقت وهو غير مشغولٍ بها أو مستعد لها أظلم عليه وقتُه وضاق صدرُه، ومن الناس مَن يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدِّي؛ كقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات وأنواع الصدقات، قد فتح له في هذا وسلك به طريقًا إلى ربه، ومن الناس مَن يكون طريقه الصوم، فهو متى أفطر تغيَّر قلبه وساءت حالُه، ومن الناس مَن يكون طريقه تلاوة القرآن، وهي الغالب على أوقاته، وهي أعظم أوراده، ومنهم مَن يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد فتح الله له فيه ونفذ منه، ومنهم مَن يكون طريقه الذي نفذ فيه الحج والاعتمار، ومنهم مَن يكون طريقه قطع العلائق وتجريد الهمَّة ودوام المراقبة ومراعاة الخواطر وحفظ الأوقات أنْ تذهب ضائعة"، ثم ذكر حال مَن جمع تلك الطرق كلها، وهذا نادرٌ.


من الضوابط التي يعملُ بها في تفضيل عملٍ على عمل آخَر:
1- الواجب مقدَّم على غيره بإطلاق.


2- المستحبُّ مقدَّم على المباح بإطلاق، ما لم يكن وسيلة إلى واجب أو مستحب آخَر.


3- عند التزاحُم بين الأعمال الصالحة: إذا أمكن الأخْذ من كلِّ عمل صالح مستحب ما يمكنه على سبيل المداومة، وإنْ كان قليلاً كان أفضل؛ ((أحبُّ العمل إلى الله أدومُه وإنْ قلَّ))، وسبَق الحديث عن المداومة على العمل الصالح، وعند التعارُض بين أنواع الأعمال الصالحة يحتاجُ المسلم إلى فقه الموازنة بين دَرجات المصالح، ويمكنُ الاستئناس بما يلي:
1) العمل المرتبِط فضلُه بوقتٍ هو المقدَّم؛ كالاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، فهو مُقدَّم على التعليم ونحوه، وقد كان هذا هدي النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومثلُه الانشغال بإكرام الضيف عند قُدومه، أو قتال العدو عند هُجومه، ولو على حِساب أعمال صالحة أخرى.


2) العمل الذي يكون فيه خيرٌ مُتعدٍّ للناس أفضلُ من القاصر؛ أخرج البخاري 4191 عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110] قال: "خيرُ الناس للناس؛ تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخُلوا في الإسلام".


وأخرج الترمذيُّ 2431 عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((المسلم إذا كان مخالطًا الناسَ ويصبرُ على أذاهم خيرٌ من المسلم الذي لا يخالطُ الناسَ ولا يصبرُ على أذاهم))، فالعلمُ والتعليم خيرٌ من العبادة النافلة القاصرة من حيث الأصل.


ومن ذلك ما يُروَى أنَّ مالكًا كان في حلقتِه فقام أحدُ طلابه من الحلقة ليُصلِّي نافلةً، فقال له مالك: الذي قمتَ عنه خيرٌ من الذي قُمتَ إليه.


قال السعدي في "القواعد" ق33: "ويقدم العبادات التي نفعها يعمُّ العامل وغيره على العبادات المختصَّة بالعامل".


3) العملُ الذي يكونُ فيه صَلاح القلب وحُضوره مقدَّمٌ؛ يقول ابن تيميَّة: "الأجرُ على قدر منفعة العمل ومصلحته وفائدته، وعلى قدر طاعة أمر الله ورسوله، فأيُّ العملين كان أحسنَ وصاحبه أطوعَ وأتبعَ كان أفضل، فإنَّ الأعمال لا تتفاضلُ بالكثرة، وإنما تتفاضل بما يحصل في القلوب حال العمل"؛ "الفتاوى" 25/270.


4) العمل الصالح المستحبُّ الذي يقومُ به المسلم لإعداد نفسه وتقوية إيمانه وقلبه مقدَّمٌ، وهذا من تربية الله تعالى لنبيِّه؛ ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 97 - 99]، ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا... ﴾ [المزمل: 1-2] الآيات، ﴿ إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ﴾ [المزمل: 7-8]، ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ﴾ [الإنسان: 26].


قال ابن القيِّم في "الوابل الصيب" في بيان فوائد الذكر: "السابعة عشرة: أنَّه قوت القلب والروح، فاذا فقَدَه العبد صارَ بمنزلة الجسم إذا حِيلَ بينه وبين قُوتِه، وحضرتُ شيخ الاسلام ابن تيميَّة مرَّةً صلَّى الفجر ثم جلس يذكُر الله تعالى إلى قريبٍ من انتصاف النهار، ثم التفتَ إليَّ وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغدَّ الغداءَ سقطتْ قوَّتي، أو كلامًا قريبًا من هذا"، ا.هـ.


ومعلوم ما كان يتصدَّى له ابن تيميَّة من أعباء الجهاد والتعليم والفتوى والاحتساب ومُناظرة المخالفين، فهل كان فارغًا حين يُخصِّص أوقاتًا كثيرة للذِّكر والتسبيح؟!



والحمد لله ربِّ العالمين.



المصدر : شبكة الألوكة

 تم النشر يوم  الخميس، 27 ديسمبر 2012 ' الساعة  4:42 م


 
Toggle Footer