الخميس، 27 ديسمبر 2012


قلب يتجاوب مع آيات الله


د. هاني درغام


إنَّ كثيرًا من الناس يمرُّون على آيات الله - عزَّ وجلَّ - (التكوينية والتنزيلية)، وهم عنها غافلون فلا قلبَ يعقل، ولا عين تبصر، ولا أُذن تسمع، ولا فؤاد يهتز، ولا نفس تطرب، ولا ضمير ينيب، ولا مشاعر تستجيب؛ ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179].

أمَّا صاحب القلب الموصول بالله، فهو يَحيا مع آيات اللّه بآذان صاغية، وعيون راعية، وقلوب واعية؛ ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ﴾ [الفرقان: 73].

فهو ينظُر إليها بعقله ويُعطيها وجدانَه ومشاعره، وعندئذٍ يُؤذن له بأن يجني من ثمارها، ويقطف من زهرها، وينشق مِن طِيبها، وينتفع بهديها ويستضيء بنورها، فهو ينظر إلى آيات الله على أنَّها آيات ناطقة بوجودِ الله ووحدانيته، يتلقَّاها سطورًا صِيغت بأبلغِ بيان ينطق بصفات الله وعظيم آلائه، يتلقَّاها وهو ينشد قائلاً:



وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آَيَةٌ

تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ

وآيات الله نوعان: آيات الله التكوينية (في الأنفس والآفاق)، وآيات الله التنزيلية (القرآن الكريم).

آيات الله في الأنفس:

إنَّ في خلق الله تعالى للإنسان آيةً للمتوسِّمين، وعِبرةً للمعتبرين، وعِظةً للمتَّعظين؛ ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21].

ويُعلِّق الأستاذ سيِّد قطب - رحمه الله تعالى - على هذه الآية فيقول:

"وهذا المخلوق الإنساني هو العجيبةُ الكبرى في هذه الأرض، ولكنه يغفل عن قِيمته وعن أسراره الكامنة في كيانه حين يغفُل قلبُه عن الإيمان، وحين يُحرَم نِعمة اليقين.

إنَّه عجيبةٌ في تكوينه الجسماني في أسرار هذا الجسد، عجيبة في تكوينه الرُّوحي في أسرار هذه النفْس، وهو عجيبةٌ في ظاهره وعجيبة في باطنه، وهو يمثل عناصر هذا الكون وأسراره وخفاياه، وحيثما وقَف الإنسان يتأمَّل عجائب نفْسه الْتَقى بأسرار تدهش وتحيِّر تكوين أعضائه وتوزيعها، وظائفها وطريقة أدائها لهذه الوظائف، عملية الهضم والامتصاص، الغُدد وإفرازها وعلاقتها بنموِّ الجسد ونشاطه وانتظامه، تناسُق هذه الأجهزة كلها وتعاونها، وتجاوبها الكامِل الدقيق، وكل عجيبة مِن هذه تنطوي تحتها عجائب، وفي كلِّ عضو وكل جزْء مِن عضو خارقة تحيِّر الألباب، ثم أسرار هذا الجِنس في توالده وتوارثه خليَّة واحدة تحمل كلَّ رصيد الجِنس البشري مِن الخصائص، وتحمِل معها خصائصَ الأبوين والأجداد القريبَيْن، فأين تكمُن هذه الخصائص في تلك الخليَّة الصغيرة؟ وكيف تهتدي بذاتها إلى طريقِها التاريخي الطويل، فتمثِّله أدقَّ تمثيل، وتَنتهي إلى إعادة هذا الكائِن الإنساني العجيب؟! وإنَّ وقفةً أمام اللحظة التي يبدأ فيها الجنينُ حياته على الأرْض، وهو ينفصل عن أمِّه ويعتمد على نفسه، ويُؤذن لقلبه ورئتيه بالحرَكة لبَدء الحياة - إنَّ وقفةً أمام هذه اللحظة وأمام هذه الحرَكة لتدهش العقول وتُحيِّر الألباب، وتغمر النفس بفيض مِن الدهْش وفيْض مِن الإيمان لا يقف له قلْب ولا يتماسَك له وجدان!

وإنَّ وقفةً أخرى أمام اللحظة التي يتحرَّك فيها لسان الوليد لينطق بهذه الحروف والمقاطِع والكلمات، ثم بالعبارات، بل أمام النطق ذاته نُطق هذا اللسان وتصويت تلك الحنجرة، إنَّها عجيبةٌ عجيبة تفقد وقْعها؛ لأنَّها تمر بنا كثيرًا، ولكنَّ الوقوف أمامها لحظةً في تدبُّر يجدِّد وقعها، إنها خارِقة، خارقة مُذهلة تُنبئ عن القُدرة التي لا تكون إلا لله، وكل جزئية في حياة هذا المخلوق تقفنا أمامَ خارقة مِن الخوارق لا ينقضي منها العجب؛ ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21][1].

حقًّا إنَّها آياتٌ عظيمة يحار فيها اللُّبُّ ويُدهش منها العقل، إنها عالم رحيب، وكون فسيح، وسجلٌّ حافلٌ بالآيات الدالَّة على قُدرة الخالق وعلى حِكمته، وعلى بديع صُنعه وحِكمة تدبيره.

هل تأملت الدمَ وهو يجري في العروق بلا توقُّف وبجريانه تَسْري الحياة في الجسَد كما يجري ذلك الدم، فهلتساءلتَ يومًا كيف يجري ومَن أجراه؟ وماذا ينتج عن جَريانه؟وماذا ينتج عن توقُّفه؟هل تساءلتَ يومًا عمَّا إذا توقَّف ذلك الدم عن الجريان، هلبمقدورك أن تُعيدَه للجريان مِن جديد؟!

هل تأملتَ في قلبك تلك المضغةَ الصغيرة وسألتَ نفسك مَن الذي يتعاهده ويحفَظه ويتولَّى ضبْط سُرعة ضخِّه للدم؟

هل تأملتَ كُلْيَتَيْك وعملهما العظيم في تنقية دمِك وتصفيته؟ وهل تأملت صغرهما بجانبِ مهمتهما العظيمة التي قد صُنِع لها جهازٌ بملء غرفة كاملة ليقومَبعملهما، وهل تساءلت مَن صنعهما ومَن ألهمها ذلك؟

هل تأملتَ اللُّقمة التي تأكلها في فمك، مَن الذي يتولَّى عملية تسييرها وهضْمها وامتصاص النافِع منها، وإخراج ما ينبغي إخراجه؟

هل سألتَ نفسك من يتولَّى أمر إبصارِك بالعين وسماعك بالأذن ونُطقك باللِّسان، من يتولَّى عملية دخول النَّفَس الذي تتنفسه إلى الرِّئتين وأخْذ مادة الأكسجين منه وإخراجه محمَّلاً بثاني أكسيد الكربون؟ وغيرها كثير: الجهاز العظمي، الجهاز العضلي، الجهاز الجلدي، الجهاز التناسلي، الجهاز اللمفاوي، الجهاز العصبي، و...

قلْ لي بربك: مَن ذا الذي صَنَع لك كلَّ ذلك؟ إنَّه ﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النمل: 88].

فـ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾ [الانفطار: 6 - 8].

ألا ما أشدَّ جحود الإنسان وكفرانَه وضلاله! مع هذا الفضلِ الغامر الذي يجِدُه في كلِّ ذرَّة من ذرَّاته، ومع كل نفَس من أنفاسه، (ما أشدَّ تنكُّرَ هذا الإنسان لربِّه! خلقه ربه من العدم فشكَّ في وجود ربه، وأطعمه مِن جوع فشكَر غيره، وأمدَّه بالقوة فعصى بها مولاه، يمرض فيَخْشع، فإذا شفاه ربُّه نسِي وتكبَّر، يفتقر فيخضع، فإذا أغْناه الإله طغى وبغى، يُبتلى فيَنكسر ويدعو، فإذا عافاه خالقُه تجبَّر وعتَا، عنده آلاف النِّعم فيكتمها ويطلب غيرها، لديه مئات المواهِب فيجحدها ويسأل سواها[2].

• آيات الله في الآفاق:

إنَّ التأمل في أرجاء هذا الكون الفسيح يقودنا إلى جمال الله، ويهدينا إلى عظمته ويُبصِّرنا بلطيف صُنعه، (فهذا الوجود الذي أمامك هو كتابُ الله المنشور، وهذه الكائنات العجيبة التي تملؤه هي سُطورٌ حيَّة تَقرأ فيها قدرتَه سبحانه، وعِلمَه وحِكمتَه، كرمَه ووده وبِره وعظمته، فإذا وقَع نظرك أو سمعك أو يدك على شيءٍ ما فقدْ وقع في الحقيقة على مستودع خطير لحِكم الله وعِبَره، فإذا أحسَّ الإنسان بقلْبه يختلج وبدنه يرتجِف ودمعه يفيض، فليعلم أنه فهم سطرًا من كتاب الوجود، فإنَّ ثمرة التأمُّل أن تنفذ إلى بعض آثار صِفات الخالق وفي الآثار عِبرة، والعِبرة إشعاع رقيق يسْطع في القلْب؛ ليصله في رِفْق بالله - سبحانه وتعالى، فإذا أفضيت إلى الله وخرَّتْ مشاعرك ساجدةً خاشعةً راجيةً محبَّةً بلغت من أسبابِ الفَهْم والمعرفة ما لا يَبْلُغه إلا الرَّاسخون في العِلم، ولو كنت ممَّن لم يقرأ كتابًا أو يجلسوا إلى أستاذ في مدرسة أو جامِعة"[3].

أخي في الله:

كم في هذا الكون مِن جمال ساحِر، ومنظَر فاتن، وحُسْن باهر، وأجمل مِن كل ذلك الجَمال وأروع مِن جميع ذلك الحُسن أن ينظر أولو الألباب إلى جمال هذا الكون ورَوْعة إبداعه وعظيم صُنعه، ودقَّة إحكامه، وعميق انسجامه، فيؤمنون بأنَّ وراء هذا الجمال جمالاً أعظم وحُسنًا أكبر، ونورًا أكمل، وبهاءً أتم، وأنَّ جمال هذا الوجود بأسْره ما هو إلا قطرة مِن فيض جماله، وومضة من بديع كماله، إنَّ رؤية الجمال على حقيقته لا تكون إلا حينما ينظُر القلْبُ بنور الله، فتتكشَّف له الأشياءُ عن جواهرها الجميلة وروائعها البديعة، ويتذكَّر اللهَ كلَّما وقعَتْ عينه أو حسُّه على شيءٍ بديع، أو منظر حسن، فيحس بالصِّلة، ويشعر بالترابُط بيْن المبدع وما أبدع، والجميل وما جمَّل، والمحسِن وما أحسن، ويرى مِن وراء هذا الجمال جمالَ الله وجلاله وكماله؛ ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190 - 191].

إنَّ آيات الله في الكون لا تتجلَّى على حقيقتها الموحية إلا للقلوبِ الذاكرة العابدة، فهؤلاء الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا، وعلى جنوبهم وهم يتفكَّرون في خلْق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، هم الذين تتفتَّح لبصائرهم الحقائق الكبرى المنطوية في خلْق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار؛ فيُوصِّلهم ذلك إلى التعرُّف على اللَّه - سبحانه وتعالى - والاستدلال على وحدانيته وقدرته وعِلمه وحِكمته، وأنَّ هذا الوجود ما خُلِق إلا بالحق، وما قام إلا على سُنن وقوانين تمسك به، وتحفظ عليه وجودَه ونظامَه، وإدراك الحق الذي في تصميمِ هذا الكون وفي ظواهره معناه عند أولي الألباب أنَّ هناك تقديرًا وتدبيرًا، وأنَّ هناك حِكمةً وغاية، وأن هناك حقًّا وعدلاً وراء حياةِ الناس في هذا الكوكب، ولا بدَّ إذًا مِن حساب ومِن جزاء على ما يقدّم الناس من أعمال، ولا بد إذًا من دار غير هذه الدار يتحقَّق فيها الحقُّ والعدْل في الجزاء.

والكون يسبح لله:

إنَّ صاحب القلب الحي حينما يتصوَّر هذا الكون وهو خاضعٌ لله، خاشِع يأتمر بأمره، كأني بهذا القلب في تنافُس مع الكون في عبادة الله يُشاركه عبادته؛ سجوده وتسبيحه وإخباته؛ ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 44].

وما أجمل ما قاله الأستاذ سيِّد قطب - رحمه الله -:

"إنَّ الإنسان المطمئِنَّ بذكْر الله، الغارق في بحْر التسبيح بحمْد الله، يشعر بسكينةٍ عميقة واستئناس بالله، وبحلاوة الإيمان الذي خالطتْ بشاشتُه القلوب، فأحس بنِعمة حبِّ الله وحبِّ كل مَن سرَى فيه هذا الأُنس، حينها فقط تتفتَّق بصيرته على تأمُّل تسبيح كلِّ المخلوقات للمولَى تعالى، فيَرى هذا العبد البصير كلَّ شيء يسبح بحمد ربه: الكواكب والبحار، والطيور المغردة، والأزهار المتفتحة، والجداول الرقراقة، كل شيء منشغِل في تقديس ملِك السماوات والأرض، حتى الطبيعة بجمالها ورَوْعتها تُصبِح في عين المؤمِن تجليًّا لقدرة الله ورَوْعة خلْقه، وهي بما فيها مِن مخلوقات لم تُوجد إلا لتسبِّح بحمد ربِّها، وتلك عبادتها وهي مسخَّرة بفضل الخالِق - عزَّ وجلَّ - لخِدمة الإنسان الذي يجْعل حياته كلَّها لله تعالى، والذي خُلِق لعمارة الأرْض، والاستخلاف فيها، مجتهدًا لنيل رضوان الله في كلِّ أيام عمره، وفي ذلك فقط معنى العبودية التي خُلِق الإنسان لتحقيقها، وفي تبصُّر الإنسان بهذا التأمُّل يتميَّز عن غيره مِن المخلوقات بما فضَّله الله عن باقي خلْقه بنِعمة القلْب والعقل والسَّمع والبصر والفؤاد، إنَّه كان عنهم مسؤولاً، فيعبد ربَّه بإخلاص الموقِنين ويفقه أنَّ كل شيء مشغولٌ بالتسبيح، حتى لو لم نفْقه تسبيحَهم.

حينها يتشرَّب قلب المؤمن مِن نهر هذا التأمُّل العرفاني فتتحقَّق السعادة الرُّوحية مهما كان بلاء الدنيا ومصيباتها؛ لأنَّ هذا الإنسان الحي بحياة قلْبه يتيقَّن يقينًا يغمر جنباتِ رُوحه، ويُفيض نورًا يضيء زوايا قلْبه بأنَّ الله لا ينسى مَن خلقَه ولا يترُك مَن دعاه، ولا يُخيِّب رجاء مَن التمس رِضاه، ينعتق هذا القلبُ الرباني من أسْر الحياة، ويُرفْرِف في سماء التقديس لله منسجمًا مع الكون الخاشِع المسبِّح.

• آيات الله التنزيلية (القرآن الكريم):

"إنَّ السائر في رِحلة يحتاج إلى دليل يبيِّن له مِن أن أين تبدأ وأين تنتهي، وأيَّ شيء يجد في الطريق، وأين يمْضي وأين يتوقف ليتزود بالزاد، فإن لم يكن معه هذا الدليل فإنَّه يخبط خبط عشواء، ونهايته إلى البوار، والرحلة البشرية الكبرى في حاجةٍ إلى دليل يبيِّن للسائر فيها معالِم الطريق، والقرآن مرشِد السالكين في رِحلة الحياة، فهو الذي يُعرِّفنا حقيقةَ الإنسان ودوره في الأرْض، وغاية خلْقه وحدود طاقاته، ومنشأه ومصيره، بعبارة أخرى: هو دليلُ الرِّحلة البشرية مِن مبدئها إلى منتهاها"[4].

فالقرآن الكريم رُوح تُحيي القلوب الميِّتة كما تُحيي الأرض بوابلِ السماء؛ ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ﴾ [الشورى: 52].

نعم، القرآن رُوح ما نزل ببلدة إلاَّ أحياها! وما أُشْرِبَتْهُ نفس إلاَّ أيقظها! وكان لها نورًا وبركات، إنَّ القرآن ماء القلوب وحياتها، تتنزل أنواره على القلوب المنشرِحة لكتاب الله تلاوةً وتزكيةً وتعلمًا، أنوار تهطل بالبَركات وبالحياة.

لذا فصاحِب القَلْب الموصول بالله إذا تلا القرآن استعرضه، فكان كالمِرآة يرى بها ما حسُن مِن فعله وما قبُح منه، فما حذَّره مولاه حذره، وما خوَّفه به من عقابه خافَه، وما رغَّبه فيه مولاه رغِب فيه ورجاه، فهو لا يقرأ القرآن بقصْد الثَّقافة والاطلاع ولا بقصْد التذوُّق والمتاع، وإنما يتلقَّى القرآن ليعمل به فورَ سماعه تمامًا كما يقرأ الجنديُّ والموظَّف كتاب رئيسه؛ ليعملَ بمقتضاه وينفذ وصاياه.

وهذا ما أشار إليه الإمامُ ابن القيِّم - رحمه الله -:

"فلا شيءَ أنفع للقلب مِن قراءة القرآن بالتدبُّر والتفَكُّر، فإنَّه جامع لجميع منازل السائرين، وأحوال العاملين، ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبَّة والشوق والخوْف والرَّجاء والإنابة والتوكُّل والرِّضا والتفويض، والشكر والصبر، وسائر الأحوال التي بها حياةُ القلْب وكماله، وكذلك يزجر عن جميع الصِّفات والأفعال المذمومة، والتي بها فسادُ القلْب وهلاكه، فلو علم الناسُ ما في قراءة القرآن بالتدبُّر لاشتغلوا بها عن كلِّ ما سواها، فإذا قرَأه بتفكُّر حتى مرَّ بآية وهو محتاجٌ إليها في شفاء قلْبه كرَّرها ولو مائة مرة ولو ليلة، فقراءة آية بتفكُّر وتفهُّم خير مِن قراءة ختْمة بغير تدبُّر وتفهُّم، وأنفع للقلب وأدْعى إلى حصولِ الإيمان وذوْق حلاوة القرآن"[5].

فالهدف مِن نزول هذا الكتاب العظيم لم يقتصرْ - فقط - على تلاوته وتلفُّظ اللِّسان به، بل لكي تكون آياتُه منبعًا للفِكر والتدبُّر وسببًا ليقظةِ الوجدان؛ ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]، وتدبُّر القرآن هو تحديقُ نظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبُّره وتعقُّله، وقيل: هو التفكُّر الشَّامِل الواصِل إلى أواخِر دَلالات الكلِم ومراميه البعيدة، "إن قلب المتدبِّر للقرآن ينتابه تطلُّع وتشوُّفٌ كما ينتاب المريضَ شعورٌ بالبحث عن العلاج، أو كما ينتاب الحائرَ شعورٌ بالبحث عن الدَّلالة والهداية، إنَّ المتدبِّر للقرآن في قلبه حاجةٌ ماسة متوقِّدة لغاية لا يجدها إلا في القرآن، فهو يقرأ القرآن لقصْد وغاية، لا يقرُّ له قرار ولا تستقيم له قراءة ولا يهدأ له بال، حتى يظفرَ بها.

ولا عجبَ أن يجِدَ القلب راحته في تدبُّر القرآن وتفهُّم ألفاظه ومقاصِد آياته، فهو إنما يتذوَّق حلاوة المناجاة لكلام الخالِق المحكَم المفصَّل، كيف لا وهو يتَسامى عن دُنياه ويتصوَّر المعاني ليحلِّقَ في آفاق الآيات فربَّما يعيش لحظةً مع معنى قرآني تكلَّم به الله مشعرًا به خلجات قلْبه فيجد لقلبه حياةً أخرى، ولقراءته طعمًا ولدُعائه لذَّةً.

ثم يُعيد القراءة مرَّة أخرى فتُجَدَّد له معانٍ في قلبه لا يصِفُها لسانه ولا يكتمها قلبه، ثم يستمر في القراءة فلا يحتمل قلبُه الضعيف تدفقَ تلك المعاني الضخمة، ورهبة التأمُّل لروعة خِطاب الربِّ وثقل الأمانة التي طوتْها حروفٌ معدودة.

فعندها ترقُّ النفس وتُصيبها السكينة وتلفُّها الخشية والرهبة والرغبة، ويعتريها البكاء والوجل، ثم يتجلَّى للقلب من المعاني ما يشعر بالقُرْب من الله الكريم، فيطمئنُّ القلب إلى ذِكر رحمة الرحمن الرحيم، كما قال سبحانه: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 23][6].

إنَّ صاحب القلب الموصول بالله يتصفَّح كتاب الله وهمَّته (متى أستغني بالله عن غيره؟ متى أكون من المتَّقين؟ متى أكون مِن الخاشعين؟ متى أكون مِن الصابرين؟ متى أكون مِن الصادقين؟ متى أكون مِن الخائفين؟ متى أكون مِن الراجين؟ متى أزْهَد في الدنيا؟ متى أرغَب في الآخرة؟ متى أتوب مِن الذنوب؟ متى أعرِف النِّعم المتواتِرة؟ متى أشكُره عليها؟ متى أعقل عنِ الله الخِطاب؟ متى أفقه ما أتْلو؟ متى أغلب نفْسي على ما تهوى؟ متى أجاهد في الله حقَّ جهاده؟ متى أحْفَظ لساني؟ متى أغضُّ طرْفي؟ متى أحْفَظ فرْجي؟ متى أستحي من الله حقَّ الحياء؟ متى أشتغل بعيبي؟ متى أُصلح ما فسَد مِن أمري؟ متى أُحاسِب نفسي؟ متى أتزوَّد ليوم معادي؟ متى أكون عن الله راضيًا؟ متى أكون بالله واثقًا؟ متى أكون بزجر القرآن متَّعظًا؟ متى أكون بذِكْره عن ذِكر غيره مشتغلاً؟ متى أُحِبُّ ما أحَب؟ متى أُبغِض ما أبغَض؟ متى أنْصَح لله؟ متى أُخلِص له عملي؟ متى أقصِّر أملي؟ متى أتأهل ليومِ موتي وقد غُيِّب عني أجلي؟ متى أعمِّر قبري؟ متى أفكِّر في الموت وشدته؟ متى أفكِّر في خلوتي مع ربي؟ متى أفكِّر في المنقلب؟ متى أحذر ممَّا حذَّرني منه ربي؟ متى...)[7].

• منارات على الطريق:

•عَن ابن مَسعودٍ - رضي الله عنه - قالَ: قال لي النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اقْرَأْ عليَّ القُرآنَ))، قلتُ: يا رسُولَ اللَّه، أَقْرَأُ عليكَ وعليكَ أُنْزِل؟ قال: ((إني أُحِبُّ أنْ أسْمَعَه مِن غيري)) فقرَأْتُ عليه سورَةَ النِّساء، حتى جِئْتُ إلى هذِهِ الآية ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدً ﴾ [النساء: 41]، قال: ((حَسْبُكَ الآن))، فالْتفَتُّ إليه فإذا عَيناهُ تَذْرِفان.

•رُوي أنَّ عائشةَ أم المؤمنين - رضي الله عنها - سُئِلت عن أعجب ما رأتْه من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فبكَت، ثم قالت: كان كلُّ أمره عجبًا، أتاني في ليلتي التي يكون فيها عِندي فاضطجع بجنبي حتى مسَّ جلدي جلده، ثم قال: ((يا عائشة، ألا تأذنين لي أن أتَعبَّد ربي - عزَّ وجلَّ ؟)) فقلت: يا رسولَ الله، واللهِ إني لأُحبُّ قُربك وأحبُّ هواك (أي: أحبُّ ألاَّ تُفارقني وأحب ما يسرُّك مما تهواه)، قالت: فقام إلى قِربة مِن ماء في البيت فتوضَّأ ولم يكثر صبَّ الماء، ثم قام يُصلِّي ويتهجد فبكَى في صلاته حتى بلَّ لحيته، ثم سجَد فبكى حتى بلَّ الأرض، ثم اضطجع على جنبه فبَكى، حتى إذا أتى بلال يُؤذنه بصلاةِ الفجر رآه يبكي، فقال: يا رسولَ الله، ما يُبكيك وقد غفَر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر؟! فقال له: ((ويحَك يا بلال! وما يمنعني أن أبْكي وقد أنْزَل الله عليَّ في هذه الليلة هذه الآيات: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190 - 191]، فقرأها إلى آخر السورة، ثم قال: ((ويلٌ لمَن قرأها ولم يتفكَّر فيها)).

بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد أبكتْك آيةٌ ما أبكَتِ الكثيرين منَّا!

فيا قلبي العليل.

كم مرَّةً قرأتَ هذه الآية؟ فهل فهمت؟ هل تأثرت؟ هل خشعت؟

كم مرةٍ قرأت القرآن! ومع ذلكفلا قلبُك يخشع ولا عينُك تدمَع ولا تدبر يشفع،مع أنَّ هذا القرآن لو أنزل على جبل لرأيته خاشعًا يتصدَّع، وكأني بك لا تُبصِر ولا تسمع.

أمَا والله لو ذُقْت حلاوة القرآن لهجرْت الشواغل، ولشفَتْ مواعظُه قلبك الغافل.

فعاهِدْني يا قلبي، أن تعود إلى كتاب ربِّك، تتدبَّر آياته، تنتفع بمواعظِه، تقبل عليه بكيانك، تتخلَّق بآدابه، تحفظ حدودَه، تنشغل به، تصحَبه في حِلِّك وترحالك.





[1] "في ظلال القرآن" (6/3379 - 3380) بتصرف يسير.
[2] "على بوابة الوحي"، د. عائض القرني.
[3] تذكرة الدُّعاة" (ص 100) البهي الخولي.
[4] "ركائز الإيمان" (ص: 207) محمد قطب.
[5] "مفتاح دار السعادة" (1/553).
[6] "تدبر القرآن" (ص: 8 - 9) سلمان السنيدي.
[7] "أخلاق حملة القرآن" (ص: 40) أبو بكر الآجُري.


شبكة الألوكة

 تم النشر يوم  الخميس، 27 ديسمبر 2012 ' الساعة  11:01 ص


 
Toggle Footer