الجمعة، 28 ديسمبر 2012




الأمر بالعدل والإحسان



الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن بن عبدالعزيز الدهيشي

الحمد لله الملك الديان، الواحد الأحد،
عزيز الملك والسلطان، الحكم العدل، لا يلهيه شأن عن شأن، يأمر بالعدل والإحسان، وينهى عن الفحشاء والمنكر والإثم والعدوان، أحمده - سبحانه - وأشكره، وحمده واجب على كل إنسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يفعل ما يشاء، إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إلى جميع الثقلين الإنس والجان، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان..



أما بعد:
عباد الله، أوصيكم وإياي بتقوى الله - تعالى - بامتثاله ما أمركم الله به في محكم القرآن، وما بينه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في سنته أكمل بيان، من العدل والإحسان في الأقوال والأفعال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].

ورد الأمر بالعدل والإحسان في هذه الآية دون تعيين لما يُعدل فيه لشمول الأمر على أنواع العدوى في كل شيء، وجاء الأمر بالقسط وهو العدل في الشهادة سواء كان المشهود له أو المشهود عليه قريبًا أو بعيدًا أو غنيًا أو فقيرًا حيث قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 135] وجاء في الآية الأخرى: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8]، والمراد بالقسط في الآيتين العدل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (المقسطون يوم القيامة على منابر من نور على يمين العرش الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)[1].

وبما أن النفوس ضعيفة تغلب عليها العاطفة والبغض وقد قيضه الله لها عدوًا لدودًا يزين لها ويدعوها إلى الوقوع في المحظور ويعدها ويمنيها بالتوبة والإنابة جاء الأمر بالعدل والقسط في آي القرآن مجملًا ومفصلًا، فالمجمل قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90] وجاء مفصلًا في الآيات الأخري في العدل بين النساء والأولاد والعدل في أموال اليتامى قال - تعالى -: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ﴾ [النساء: 3] وقد جاء عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - عن هذه الآية: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى ﴾ الآية، [النساء: 3]. فقالت - فيما رواه البخاري في صحيحه -: (أن رجلًا كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عذق أي شيء من النخل وكان يمسكها عليه ولم يكن لها من نفسه شيء فنزلت الآية)[2]. وروي أن عروة بن الزبير سأل عائشة - رضي الله عنها - عن معنى الآية فقالت: يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وبهائها فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط لها في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا إليهن ويبلغوا عن أعلى سنتهن في الصداق[3].

وبما أن النفوس تميل إلى الباطل، ولكون العدل بين النساء - أي الزوجات - واجبة حذر الله المؤمنين من الجور وعدم العدل وقال: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ﴾ [النساء: 3] أي إن خفتم أن تغلبكم نفوسكم فتفضلوا بعض نسائكم على بعض في العشرة والمأكل والمشرب والملبس والمبيت فاقتصروا على واحدة فإن ذلك سلامة لكم من العول أي الجور وجاء في الآية الأخرى: ﴿ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 129] أي لا ذات زوج ولا مطلقة، كما نقل ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما.

والمعنى أنكم لا تستطيعون العدل بين النساء من جميع الوجوه، لأنه لابد من التفاوت في المحبة والشهوة وإن حصل القسم الصوري ليلة وليلة فإن العدل واجب بين الزوجات في كل شيء يملكه الزوج من المبيت والمسكن والملبس والأكل والمشرب، وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من كانت له امرأتان فمال مع إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط)[4]، والمراد من الآية - والله أعلم -: لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل، إن هذا الميل يكون في الحب وفي الجماع، كما صح عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك[5]، يعني بذلك القلب أي ما يقع في القلب من الحب وغيره.

والواجب على المسلم إذا كان له أكثر من زوجة ولم يستطع العدل بينهن أن يخير التي لا يرتبط في إعطائها حقها كاملًا بين إمساكها على ما يحصل منه من التقصير في العشرة وغيرها وبين طلاقها فإذا اختارت الطلاق وجب عليه طلاقها أو إعطاؤها حقها كاملًا، وإن رضيت ببقائها مع الإيثار عليها برئت ذمته مهما ترك من حقها، وللزوجة في حال حصول أثرة عليها أي تفضيل زوجها لبعض زوجاته عليها وخشيتها من أن يطلقها وهي ترغب البقاء في ذمته على تقصيره في بعض حقوقها فلها أن تصارحه برضاها بالبقاء في ذمته على تقصيره، وهذا من الصياح الذي ذكره الله في قوله تعالى: ﴿ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾ [النساء: 128]، فهذا من الصالح المعني في الآية كما فعلت ذلك أم المؤمنين لسودة بنت زمعة حين كبر سنها وخشيت أن يطلقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت:
يا رسول الله وهبت يومي هذا لعائشة، أي أسقطت حقها اليومي لعائشة، فقبل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكما فعل الصحابي الجليل رافع بن خديج لما كبرت زوجته وتزوج فتاة شابة وآثرها عليها فناشدته الطلاق فطلقها واحدة ثم أمهلها حتى كادت أن تتم العدة راجعها ثم عاد فآثر عليها الشابة فناشدته الطلاق فقال لها: ما شئت، إنما بقيت لك تطليقة واحدة فإن شئت استقررت على ما ترين من الأثرة وإن شئت فارقتك، فقالت: لا، بل أستقر على الأثرة، أي على تفضيله زوجته الشابة عليها فأمسكها على ذلك فكان ذلك صلحها معه، وحصل ذلك بتوافر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر عليه أحد منهم.

ولما كان الوفاق ودوام العشرة الزوجية أحب إلى الله - تعالى- من الفرقة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق)[6]، ولما قد ينتج عنها من تشتت الأولاد وفقدانهم حنان الأم وشفقة الأب شرع التخيير للزوجة المؤثر عليها بين بقائها وبين طلاقها، وسماه الله تعالى صلحًا وأنه خير، وبعد أن بين بين الحكم بالصلح وأنه خير أعقبه بقوله: ﴿ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 129] يقول تعالى وأن اصطلحتم في أموركم وقسمتم بالعدل فيما تملكون واتقيتم الله في جميع الأحوال غفر الله لكم ما كان من قبل إلى بعض النساء دون بعض، ثم أعقب ذلك تبارك وتعالى بقوله: ﴿ وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ ﴾ [النساء: 130] أي إذا لم يحصل الوفاق والصلح فإن الفراق أولى من البقاء على سوء العشرة ووعد كلًا بأن يغنيه من فضله الواسع، فيغنيها الله عنه ويعوضها ما هو خير منه، ويغنيه عنها بأن يعوضه خيرًا منها، والخير كل الخير في امتثال أوامر الله والابتعاد عن مناهيه، فما علينا - معاشر المسلمين - إلا أن نتدبر القرآن ونطبق تعاليمه وأحكامه وما جاء به المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من أمر أو نهي أو تقرير لنسير في ديننا على صراط مستقيم... والحمد لله رب العالمين.




[1] صحيح مسلم ح (1827).

[2] صحيح البخاري ح (6570).

[3] البخاري حديث (4574).

[4] صحيح ابن حبان ح (4207) وسنن ابن ماجه ح (1969).

[5] المستدرك على الصحيحين ح (2761) وسنن أبي داود (2134).


[6] سنن أبي داود ح (2178) وضعفه الألباني.






المصدر : شبكة الألوكة

 تم النشر يوم  الجمعة، 28 ديسمبر 2012 ' الساعة  8:49 ص


 
Toggle Footer