الخميس، 27 ديسمبر 2012


قلب يغتسل في أنهار التوبة


د. هاني درغام


"ليس عجيبا أن يُذنب ابن آدم، ليس عجيبا أن يتورط في المعصية؛ فهذه طبيعة خلقه أنه خُلق خلقا مزدوجا فيه قبضة من طين وفيه نفخة من روح.. الطين يهوي به إلى الأسفل والروح ترقى به إلى الأعلى، أحيانا ينزع إلى الطين ويخلد إلى الأرض فيكون كالحيوان وأضلُّ سبيلا.. وأحيانا يعلو ويعلو حتى يكون كالملائكة أو أرفع مقاما؛ فلا عجب أن يغلب الطين في بعض الأحيان على الروح، أن يغلب العنصر الأرضي العنصر السماوي، أن يغلب العنصر الحيواني في الإنسان العنصر الرباني فيه فيقع في المعاصي.

ليس عجيبا أن يذنب ابن آدم؛ فقد أذنب أبوه آدم، إنما العجيب أن يتمادى في الذنوب، أن يستمرئ طريق المعصية ويتوغل فيه، أن ينسى ربه وينسى التوبة إليه فتتراكم عليه الذنوب وتتراكم حتى يسود قلبه والعياذ بالله، وهنا الخطورة البالغة.. الخطر أن يغفل الإنسان عن التوبة ويستمر في طريق الشيطان ولا يحس بما هو فيه من خطأ وخطيئة"[1].

رباه.. ما أجمل التوبة.. عودة غانمة.. وتجارة رابحة.. وروضة غناء لا يذبل زهرها.. إنها شلال الجمال المتدفِّق من كوثر الرَّحمن الفواح بأريج عطاء الله وكرمه.. إنها "غسل القلب بماء الدموع وحرقة الندم.. فهي حرقة في الفؤاد ولوعة في النفس وانكسارٌ في الخاطر ودمعة في العين.. إنها مبدأ طريق السالكين ورأس مال الفائزين وأول أقدام المريدين ومفتاح استقامة المائلين"[2].

لله دُرُّ القلب التائب.. هرع إلى مولاه يحمل مواجيد الندم ومشاعر الألم يرجو رحمته وغفرانه.. "لكأن التوبة نهرٌ عذب جار يتطهر العبد به من أدرانه.. ينغمس في مياهه مَنْ لوثته الشهوات واكتوى بنار المخالفات فإذا النهر مغتسلٌ باردٌ يطفئ تلك النار ويغسل تلك الأوزار فيخرج العبد منه نقياً من الأوساخ والشوائب"[3].

أخي.. قل لي بربك:

هل شممت مسكاً أزكى من أنفاس التائبين؟

هل سمعت بماء أعذب من دموع النادمين؟ هل رأيت لباساً أجمل من لباس المنكسرين؟

هل سمعت نداءً أجمل وأروع من نداء الله عزوجل الرحيم لعباده المذنبين العصاة ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ﴾ [الزمر: 53].

"إن الغرقى إذ يسمعون هذا النداء الكريم ليرون بأعينهم رأي العين مراكب النجاة تحفّ إليهم من كل جهة وليس عليهم إلا أن يتعلقوا بها ويشدّوا أيديهم عليها لتحملهم إلى شاطئ النجاة والسلامة.. إنها ضيافة كريمة في ساحة رب كريم.. وإنها نُزل مهيأة بكل أسباب الهناءة والرضوان يستقبل فيها على طريق الحياة أولئك الذين أضناهم السفر الطويل وأكلت وجوههم لوافح الهجير.. فيجدون حيث ينزلون ظلا ظليلا وطعاما هنيئا وشرابا باردا.

فقل لمن يرى هذا المنزل الكريم ويعدل عنه:ألا ما أعظم غباءك وما أشأم حظك وما أولاك بالذئاب تفترسك وبالحيات تنهشك فلا يرحمك راحم ولا يبكيك باك.. من قريب أو صديق! فأي عذر لمذنب بعد هذا البلاغ المبين إذا هو لم يسع إلى اللّه ويغتسل في بحر رحمته من أدرانه ويتطهر من ذنوبه؟.. وأي عذر لمجرم بعد هذا النداء الكريم الرحيم إذا هو لم يمدّ يده إلى ربّه ليقيل عثرته ويحمل عنه وزره؟"[4].

يا للكرم الإلهي.. ويا للإنعام الرباني.. عرف سبحانه ضعفهم.. عرف تسلط الغرائز عليهم.. عرف وسوسة الشيطان لهم.. عرف أن الإنسان خلق ضعيفا فكثيرا ما يُغري بالشرور.. وكثيرا ما يتورط في الآثام.. وكثيرا ما تزل قدمه فيطيع الشيطان ويسير في ركابه.. عرف الله ذلك من عباده ففتح لهم باب التوبة.

حقيقة التوبة في عيون الصالحين:

يقول الإمام القرطبي: "التوبة هي الندم بالقلب وترك المعصية في الحال والعزم على ألا يعود إلى مثلها وأن يكون ذلك حياءً من الله".

ويقول الإمام ابن القيم: "التوبة هي الرجوع إلى الله بالتزام فعل ما يحب وترك ما يكره فهي رجوع من مكروه إلى محبوب".

وعرفها الإمام الغزالي بأنها: "العلم بعظمة الذنوب والندم والعزم على الترك في الحال والاستقبال والتلافي للماضي".

إن للتوبة روحاً وجسداً.. فروحها استشعار قبح المعصية وجسدها الامتناع عنهافإذا اقتصر القلب على المعرفة ولم يعمل بمقتضاها واستمر ماشياً في الطريقالمنحرف لم ينفعه علمه بانحرافه.. بل إنه يكون أكبر ذنباً وأعظم تبعة؛ لأن الذيينحرف وهو لا يعرف له بعض العذر، ولكن الذي يعرف الطريق وينحرف عنه عمداً لاعذر له.

أركان التوبة:

1- الندم على ما فرط العبد في جنب الله:

والندم انفعال القلب بالأسى والحزن والحسرة بسبب ما وقع من ذنب خوفاً من سوء عاقبته عند الله أو حياءً من الله.. إذا تذكر عظيم ذنوبه وكثير خطئه هاجت عليه أحزانه واشتعلت حرقات فؤاده وأسبل دمعه فأنفاسه متوهّجة وزفراته بحرق فؤاده متصلة، إنه الشعور بالتقصير أمام الله عز وجل.. يستجمع الإنسان في ذاكرته إساءته إلى الله وإحسان الله تعالى إليه.. يتذكر نعم الله تعالى عليه ويتذكر معصيته لله عزوجل فينشأ من ذلك حالة الندم.. حالة الأسى والأسف التي يذوب فيها القلب كما يذوب الملح في الماء.

2- الإقلاع بالفعل عن الذنب:

وهذا هو الركن الثاني في التوبة: أن يترك المعصية في الحال من غير إبطاء أو تسويف فإذا كان الندم الذي حصل في قلبه يمثل توبة القلب أو توبة الباطن؛ فإن توبة الظاهر حقيقتها أن يترك ممارسة المعاصي بجوارحه.. فكما تاب قلبه بالندم تتوب جوارحه بترك المعصية.. فإن من صلح قلبه صلحت جوارحه.

3- العزم المصمم ألا يعود إلى الذنب:

لا توبة إلا بهذا العزم.. أما إذا كان يتوب وهو يحن إلى المعصية ولا يزال في قلبه تعلق بها ولا زال عقله يفكر فيها فهذه ليست توبة.. لابد أن يكون ساعة التوبة قاطع العزم كحد السيف مصرا على ألا يعود إليها كما لا يعود اللبن إلى الضرع إذا خرج منه. قد يضعف بعد ذلك.. قد تخونه إرادته.. قد يغلبه هواه.. قد يصرعه شيطانه ويهزمه.. فالمعركة بين الخير والشر مستمرة ولكن المهم في ساعة التوبة أن يكون عازما عزما أكيدا ألا يعود إلى الذنب: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135].

وكيف لا يعزم هذا العزم وهو يعلم أنه مع الذنوب كان متعرضا لعذاب الله في نيران الجحيم يوم القيامة؟.. وأنه كان على شفا حفرة من النار فأنقذه الله منها بالتوبة.. "وإنه ليكاد يصرخ بأعلى صوته: وداعاً.. بل بُعداً لك يا دنيا المعاصي ولا لقاء بيننا بعد اليوم يا دنيا الهوى والشهوات.. وكم أنا سعيدٌ بهذا الصلح مع الله سبحانه؛ مع ربي الذي لا غنى لي عنه طرفة عين وهو الغني عني وعن خلقه أجمعين"[5].

من ثمرات التوبة [6]:

1- تكفير السيئات ودخول الجنات:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾ [التحريم: 8].

في هذه الآيات دعوة إلى المؤمنين عامة أن يتوبوا إلى اللّه وأن يرجعوا إليه كلّما بعدوا قليلا أو كثيرا عنه بما اقترفوا من آثام وما اجترحوا من سيئات.. فإن التوبة تغسل الحوبة وهي الأسلوب الذي يصالح به العبد ربّه ويفتح به أبواب رحمته ورضوانه.

2- تجديد الإيمان:

فالتوبة الصادقة تجدد الإيمان وترممه بعدما نالت منه الخطايا ما نالت.. فهي تقويه بعد ضعف.. وتوقظه بعد رقود.. وتثبته بعد زعزعة بما تضيف إليه من أشواق ومشاعر حية وجديدة تحفز إلي الخير وتزجر عن الشر.

3- تبديل السيئات إلى حسنات:

وهو قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً ﴾ [الفرقان: 70]، فأي جود هذا وأي كرم؟ وأي رحمة وأي غفران؟ إنه الله رب العالمين الرحمن الرحيم! فسبحانه وبحمده من ملك غفور رحيم وإن هذا لبابٌ عظيم.. باب من أوسع أبواب الرحمة الإلهية.

4 - إغاظة الشيطان والانتصار عليه:

كلما أوقع الشيطان اللعين بني الإنسان في براثن الذنوب قرت عينه وغمرته الفرحة وكلما استنارت بصائرهم واستيقظت ضمائرهم بعد المعصية فتابوا إلى الله واستغفروه أدركته الحسرة وركبه الغم لضياع جهده سدي.

5- انكسار القلب:

إن التائب تحصل له كسرة خاصة لا تكون لغير التائب.. كسرة تامة قد أحاطت بالقلب من جميع الجهات.. ألقته بين يدي سيده طريحا ذليلا خاشعا.. منكسرا سريع الدمعة.. قريب الذكر لله.. مخبتا خاشعا منيبا.. لا غرور ولا عجب ولا حب للمدح.. ولا معايرة ولا احتقار للآخرين بذنوبهم.. وإنما دائم الفكرة في الله سبحانه وتعالى عز وجل، وهذا ما قرره ابن عطاء فقال: "رب معصية أورثت ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً".. فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور!.. وما أدني النصر والرحمة والرزق منه!

6- فرح الله بالتائب:

إنها الفرحة الكبرى التي لا نجد في تصويرها والتعبير عن مداها أبلغ من حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي رواه عنه ابن مسعود أنه قال: "لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة "قفر لا ماء فيها" فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه.. فأيِس "يئس" منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيِس من راحلته فبينا هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها "ما يوضع على أنف الدابة لتقاد به"، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك.. أخطأ من شدة الفرح" "رواه مسلم 2747".

أخي في الله...

"ألا يُبهرك هذا الترحاب الغامر؟!.. أترى سرورا يعدل هذه البهجة الخالصة؟! وطبيعي أن تكون هذه التوبة نقلة كاملة من حياة إلى حياة وفاصلا قائما بين عهدين متمايزين كما يفصل بين الظلام والضياء.. فليست هذه العودة زورة خاطفة يرتد المرء بعدها إلى ما ألف من فوضى وإسفاف.. وليست محاولة فاشلة ينقصها صدق العزم وقوة التحمل وطول الجلد.. كـلا.. كـلا.. إن هذه العودة الظافرة التي يفرح الله بها هي انتصار الإنسان على أسباب الضعف والخمول وسحقه لجراثيم الوضاعة والمعصية وانطلاقه من قيود الهوى والجحود ثم استقراره في مرحلة أخرى من الإيمان والإحسان والنضج والاهتداء"[7].

الطريق إلى التوبة:

1- معرفة مقام الله عز وجل واستشعار مراقبته:

فالإنسان إذا عرف مقام الله تعالى وتذكر جلاله وعظمته، وعلمه به، وقدرته عليه، وأنه مطلع على سره وعلانيته، وأنه لا يخفى عليه خافية وأنه محاسبه على ما قدم ومجازيه على ما عمل من خير أو شر.. إذا عرف ذلك وذكره ولم ينسه فسرعان ما يرجع إلى ربه سبحانه تائبا مستغفرا.

2- معرفة آثار المعاصي وأضرارها[8]:

وهي متفاوتة بحسب تفاوت المعاصي في درجاتها ومفاسدها:

فمنها سواد في الوجه وظلمة في القلب وضيقه وهمه وغمه وحزنه وألمه وشدة قلقه واضطرابه وتمزق شمله وضعفه في مقاومة عدوه وتعريه من زينته بالثوب الذي جعله الله زينة له وهو ثوب التقوى.

ومنها نقصان رزقه.. فإن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه أو يحرم بركته.

ومنها أن يحرم حلاوة الطاعة فإذا فعلها لم يجد أثرها في قلبه من الحلاوة والقوة وزيادة الإيمان والرغبة في الآخرة فإن الطاعة تثمر هذه الثمرات ولابد.

ومنها قسوة القلب فما ضُرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب.

ومنها أن المعصية تورث الذل ولابد.. فإن العز كل العز في طاعة الله تعالى.

ومنها ذهاب الحياء الذي هو مادة حياة القلب وهو أصل كل خير وذهابه ذهاب الخير أجمع.

3- تذكر الموت:

إن لتذكر الموت أثر كبير في إصلاح النفوس وتهذيبها.. ذلك لأن النفوس تؤثر الدنيا وملذاتها وتطمع في البقاء المديد في هذه الحياة.. وقد تهفو إلى الذنوب والمعاصي وقد تقصر في الطاعات فإذا كان الموت دائما على بال العبد يجعله يسعى في إصلاح نفسه وتقويم المعوج من أمره.

تذكر اليوم الآخر وما أعد الله فيه للطائعين من الثواب وما أعد فيه للعاصين من العقاب.

4- قراءة سير التائبين وقصصهم:

فهذا فيه تثبيت لك على طريقهم والسير على دربهم.

5- الحذر من العوائق التي تقف في طريق التوبة:

وهي كثيرة منها:

التسويف:

"وما مثل المسوف إلا كمثل من احتاج إلى قلع شجرة فرآها قوية لا تنقلع إلا بمشقة شديدة جلية فقال: أدخرها سنة، ثم أعود لأقتلعها.. وهذا من حماقته وغبائه فهو يعلم أن الشجرة كلما بقيت ازداد رسوخها وهو كلما طال عمره ازداد ضعفه.. فلا حماقة في الدنيا أعظم من حماقته إذ عجز مع قوته عن مقاومة ضعيف.. فكيف ينتظر الغلبة عليه إذا ضعف هو في نفسه وقوي الضعيف؟!"[9].

الاستهانة بالذنوب:

وهذا ما نبهك إليه بلال بن سعد ـ رحمه الله ـ فقال: "لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى عظم من عصيت".

الاتكال على أماني العفو الإلهي:

وهذا ما حذر منه الحسن البصري فقال: "إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا بغير توبة.. يقول أحدهم إني أحسن الظن بربي وكذب لو أحسن الظن لأحسن العمل".

الجهل بحقيقة المعصية وخاصة أمراض القلوب:

كالكبر والعجب والرياء والغرور والمعاصي الباطنة أكبر من الظاهرة وأخطر منها لأن السير إلى الله سير القلوب.. فإذا صلحت القلوب صلحت الجوارح ولأنه قد لا يدري بها صاحبها فتفتك به وهو يظن نفسه على الطريق المستقيم وقد تستولي النفس على العمل الصالح.. فيصير جندا لها.. فتصول به وتطغى.. فترى العبد أطوع ما يكون.. أزهد ما يكون.. وهو عن الله أبعد ما يكون بسبب فساد قلبه.

منارات على الطريق:

مالك بن دينار يحكي توبته:

"بدأت حياتي ضائعا سكيراً عاصيا.. أظلم الناس وآكل الحقوق.. آكل الربا.. أضرب الضعفاء.. أفعل المظالم.. لا توجد معصيه إلا وأرتكبتها شديد الفجور يتحاشاني الناس من معصيتي، وفي يوم من الأيام.. اشتقت أن أتزوج ويكون عندي طفلة.. فتزوجت وأنجبت طفلة سميتها فاطمة.. أحببتها حباً شديدًا.. وكلما كبرت فاطمة زاد الإيمان في قلبي وقلّت في نفسي المعصية ولربما رأتني فاطمة أمسك كأسا من الخمر.. فتقترب مني فتزيحه وهي لم تكمل السنتين وكأنها سُيرت لتفعل ذلك.. وكلما كبرت فاطمة زاد إيماني.. وكلما اقتربت من الله خطوة ابتعدت شيئا فشيئاً عن المعاصي.. حتى اكتمل سن فاطمة ثلاث سنوات فلما أكملت سنواتها الثلاث ماتت !!.. نعم ماتت فاطمة.. فانقلبت أسوأ مما كنت ولم يكن عندي الصبر الذي عند المؤمنين يقويني على البلاء.. فعدت أسوأ مما كنت.. وتلاعب بي الشيطان... حتى جاء يوم قال لي شيطاني: لتسكَرن اليوم سكرة ما سكرت مثلها من قبل.. فعزمت أن أسكر وعزمت أن أشرب الخمر وظللت طوال الليل أشرب وأشرب وأشرب فرأيتني والأحلام تتقاذفني حتى رأيت تلك الرؤيا.. رأيت يوم القيامة وقد أظلمت الشمس.. وتحولت البحارإلى نار.. وزلزلت الأرض واجتمع الناس إلى واجتمع الناس أفواجا.. وأفواجا.. وأنا بينهم أسمع المنادي ينادي فلان ابن فلان.. هلمّ للعرض على الجبار.. يقول: فأرى فلانا هذا قد تحول وجهه إلي سواد شديد من شدة الخوف حتى سمعت المنادي ينادي باسمي هلم للعرض على الجبار فاختفى البشر من حولي "هذا في الرؤيا".. وكأنه لا أحد في أرض المحشر ثم رأيت ثعبانا عظيماً شديدا قويا يجري نحوي فاتحا فمه فجريت من شدة الخوف فوجدت رجلاً عجوزاً ضعيفاً.. صرخت آه: أنقذني من هذا الثعبان.. فقال لي.. يا بني أنا ضعيف لا أستطيع ولكن إجر في هذه الناحية لعلك تنجو.. فجريت حيث أشار والثعبان خلفي فوجدت النار تلقاء وجهي.. فقلت: أأهرب من الثعبان لأسقط في النار؟! فعدت مسرعا أجري والثعبان يقترب..فعدت للرجل الضعيف وقلت له: بالله عليك أنجدني.. أنقذني.. فبكى رأفة بحالي.

وقال: أنا ضعيف كما ترى لا أملك أن أفعل لك شيئا ولكن إجر تجاه ذلك الجبل لعلك تنجو.. فجريت ناحية الجبل والثعبان يكاد يتخطفني فرأيت في أعلى الجبل أطفالا صغاراً وسمعت الأطفال كلهم يصرخون: يا فاطمة أدركي أباك.. أدركي أباك فعلمت أنها ابنتي.. ففرحت أن لي ابنة ماتت وعمرها ثلاث سنوات ستنجدني من هول الموقف.. فاجتذبتني بيدها اليمنى ودفعت الثعبان بيدها اليسرى وأنا كالميت من شدة الخوف.. ثم جلست في حجري كما كانت تجلس في الدنيا فقلت يا بنيتي أخبريني عن هذا الثعبان قالت هذا عملك السيئ أنت كبرته ونميته حتى كاد أن يأكلك أما عرفت يا أبي أن الأعمال في الدنيا تعود مجسمة يوم القيامة؟ قلت: وذلك الرجل الضعيف.. قالت ذلك عملك الصالح.. أنت أضعفته وأوهنته حتى بكى لحالك لا يستطيع أن يفعل لحالك شيئاً ولولا أنك أنجبتني ومتُّ صغيرة ما كان هناك شيء ينفعك.. ثم قالت لي يا أبت: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 16].. يقول: فاستيقظت من نومي وأنا أصرخ: قد آن يا رب.. قد آن يا رب يقول: فاغتسلت وخرجت لصلاة الفجر أريد التوبة والعودة إلى الله فدخلت المسجد فإذا بالإمام يقرأ نفس الآية: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ ﴾.

فوا أسفاه عليك يا قلبي...

كم تذنب ولا تتوب؟.. كم قد كُتبت عليك ذنوب؟.. خل الأمل الكذوب.. فرُبَّ شروق بلا غروب.. قل لي بربك.. متى ترجع إلى الله.. متى تؤوب؟

فيا قلبي الغارق في أوحال الذنوب: هذا شلال البركات يتفجر من عند الرحمن ﴿ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ﴾ [ص: 42].

دعاء القلب الموصول بالله:

إلهي وعزتك وجلالك... ما أردت بمعصيتك مخالفتك ولا عصيتك إذ عصيتك وأنا بمكانك جاهل ولا لعقوبتك متعرض ولا لنظرك مستخِفٌّ ولكن سولت لي نفسي وساقتني شهوتي وأعانني على ذلك استعدادي وغرني سترك المرخي عليَّ فعصيتك بجهلي وخالفتك بقبيح فعلي.. فمن عذابك الآن من يستنقذني! أو بحبل مَن أعتصم إن قطعت حبلك عني !.. واسوءتاه من الوقوف بين يديك غداً إذا قيل للمخِفِّين جُوزُوا وللمثقلين حُطُّوا !.. ويلي أنا المذنب المصر.. أنا الجريء الذي لا أقلع.. أنا المتمادي الذي لا أستحي.. هذا مقام المتضرع المسكين والبائس الفقير والضعيف الحقير والهالك الغريق.. فيا إلهي الرؤوف الرحيم.. هذه نفسي الضعيفة تجأر إليك مستغيثة برحمتك فما لي من شيء أستطيع عرضه بين يديك سوى فقري وذلِّي وانكساري بين يديك... أنا عبدك المذنب العاصي عدت تائبا فأذقني برد عفوك واغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.





[1] خطب الشيخ القرضاوي ج 1 ص 34 – 35 بتصرف.

[2] الله أهل الثناء والمجد ص 60 د. ناصر الزهراني.

[3] مقال التوبة أحمد الحموي.

[4] التفسير القرآني للقرآن، د. عبد الكريم الخطيب.

[5] مقال التوبة أحمد الحموي.

[6] راجع ما كتبه د. يوسف القرضاوي في كتابه القيم التوبة إلى الله.

[7] الجانب العاطفي من الإسلام ص 161- 162 الشيخ محمد الغزالي.

[8] راجع كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي للإمام ابن القيم فهو فريد في بابه.

[9] التوبة إلي الله ص 39.

شبكة الألوكة
 تم النشر يوم  الخميس، 27 ديسمبر 2012 ' الساعة  10:54 ص


 
Toggle Footer