الخميس، 27 ديسمبر 2012

الابتلاء بالخير وضده لتمييز الأتقياء من الأشقياء




الشيخ عبدالله بن صالح القصيِّر


الحمد لله المتفضل على خلقه بجميع النعم، أحمده سبحانه على علمه وتقديره وحكمته في تدبيره وشرعه الأقوم، وأشكره - تبارك وتعالى - على نِعَمه وفضله وهو أهل الجود والكرم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو الربُّ الذي علَّم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، وأشهد أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم - عبدُه ورسوله النبي المصطفى، والرسول المُجتَبى، المبعوث بأكمل دين وخير هدى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين هم خير قرون الأمة، وهم أكرم على الله من كل أمَّة، وأول من يدخل الجنة وهم في الدنيا صالح سلف الأمة.

أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى؛ فإنه مَن اتَّقى الله تولاه، وأمَّنه من الخوف من كل ما يُحاذِره ويخشاه، وبشَّره بالخير في دنياه وأخراه، وأخرجه من الضيق، وتابع له التوفيق، ورزقه من حيث لا يحتسب، ويسَّر له خير ما يطلب، وأعظَمَ مثوبته، وكفَّر عنه خطاياه، ونجَّاه من النار، وأورثه الجنة مع الأخيار؛ قال تعالى: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [يونس: 62 - 64]، وقال سبحانه: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3]، وقال سبحانه: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 4]، وقال: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ﴾ [الطلاق: 5]، وقال -تبارك اسمه-: ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 72]، وقال -جلَّ ذكره -: ﴿ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا ﴾ [مريم: 63].

عباد الله، مُجانبة التقوى شَقاوة، وملازمة التقوى سعادة، ونقص التقوى سبب لنقص السعادة، وأخذ بسبيل شقاوة، ويوم القيامة يتميَّز الأشقياء من السعداء الأتقياء؛ ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾ [هود: 106 - 108].

ولما كانت النار في الطريق إلى الجنَّة، ولا بدَّ للسلامة منها من التقوى؛ فإنها خير جُنَّة؛ ولذا قال -تبارك وتعالى-: ﴿ فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ﴾ [الليل: 14 - 18]، فتزوَّدوا التقوى؛ فإنها خير الزاد، وجُنَّة من النار يوم المعاد، ألا وإنَّ أهلها على الله أكرم العباد، وإنه لا يُجانب التقوى إلا شقيٌّ، وحظُّه من الشقاوة بحسب ما فاته من التقوى، فنِعمَ عبد الله التقي، وبئس عدو الله الغوي الشقي.

أيها المسلمون:
إن العباد مُبتلَون في الحياة الدنيا في شتى المقامات، ومختلف الأوقات، بالشرِّ والخير فِتنةً؛ ليَتبيَّن الشقي من التقي، فمن أحسن العمل فهو التقي، ومن أساء العمل فهو الشقي فيُبتلوَن بهوى النفس المخالف للحق، وبالشحِّ الحامل على ظلم الخلق، وبالشهوات المحرَّمة المقدور عليها والشبهات، كما يُبتلَون بألوان من العبادات الشاقَّة، والأوامر والنواهي التي تَمنع النُّفوسَ من مألوفاتها، وتُلزمها بمخالفة أهوائها، في بعض الأوقات والأحوال، كما يُبتلَون بالشدة والرخاء، والعسر واليُسر؛ كل ذلك من أجْل أن يتميَّز أهل النار الأشقياء، من أهل الجنة الأتقياء، في هذه الدار، قبل دار القَرار؛ قال تعالى: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ [الأنبياء: 35]، وقال سبحانه: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155]، وقال سبحانه: ﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [آل عمران: 186]، وقال سبحانه: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 2، 3]، وقال سبحانه: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214].

معشر المسلمين:
ولقد أوضح الله -جل وعلا- بجلاء الحِكمة من هذه الابتلاءات في الدنيا بالمسرَّات والمضرَّات، والشبهات والشهوات، وما تهواه النفوس وما تكرهه، وهي أن يفترق الناس إلى فريقَين: أهل طغيان وشرٍّ وشَقاء، وهم أهل النار، وأهل إيمان وخوف من الديَّان، وصبر على المكاره ابتغاء وجه الرحمن، وهم أهل الجنة، قال تعالى:﴿ فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 37 - 41].

أيها المؤمنون:
وإذا كانت الحياة الدنيا هي دار البلاء، وإن كل ما يَعرِض للإنسان فيها في مختلف الأحوال والأوقات والأماكن كله من قبيل الابتلاء؛ ليتمحَّص الإيمان ويَظهر المكنون، ويتحقَّق العمل الذي هو الكسب الذي به يتميَّز الأشقياء من السعداء، وأهل النار من أهل الجنة، فإنَّ العاقل الفَطِن الموفَّق هو الذي يتفكَّر في حق الله تعالى عليه في كل مقام وحال، فيبادر إليه ويحقِّقه على الوجه الذي يُرضيه ثم يدوم عليه، كما قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [المؤمنون: 61]، وقال سبحانه: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ [الإنسان: 8، 9].

وإن كان ما عرض له مما يُغضب الله ويُوجِب عقوبته ومقْتَه، أعرَض عنه ولو هَوِيَتْه نفسُه وقَدر عليه؛ خوفًا من الله - جلَّ وعلا - كما قال سبحانه عن خير ابنَي آدم أنه قال لخصمه: ﴿ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾ [المائدة: 28].

معشر المؤمنين:
فالتقوى هي الرويَّة والتفكُّر في سائر الأحوال والمقامات والأماكن قبل الهمِّ بالعمل والتفوُّه بالأقوال. ومباشرة فعله، فما كان منها في رضا الله تعالى ومظنَّة ثوابه، أحبَّه المرء واختاره ومضى فيه بحسب استطاعته، عن إخلاصٍ لله تعالى، وعلى وفْق شريعته وسنَّة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وما كان من المقاصد والأقوال أو الأعمال في سخط الله تعالى وما يوجب عقوبته، أبغضه وأعرضَ عنه وهجَر مَوطِنه وأهله؛ خوفًا من الله تعالى واتقاءً لعقوبته، قال تعالى: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه: 123، 124]، وقال سبحانه: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 38، 39].

أمة الإسلام والإيمان، عوِّدوا أنفسكم الرويَّة فيما ستُقدمون عليه عن قصد من قول أو فعل أو خلُق، وتفكَّروا في حُكم الله تعالى فيه، وانظروا في عواقبه العاجِلة والآجلة، فما كان في رضا الله وثمرته السعادة فامضوا فيه، وما كان في سخط الله وعاقبته السخط والعقوبة في الدنيا والآخِرة، فاتركوه واشتغلوا بضدِّه، تُجانِبوا الطغيان وحال أهل الشقاء، وتنالوا رضا الرحمن وتكونوا من السعداء.


الخطبة الثانية



أيها المسلمون:

لقد عرَّف فقهاء الملَّة -رحمهم الله تعالى- التقوى بعدَّة تعريفات، مفادها أن الرويَّة والتفكُّر والنظر في العواقب الحاضرة والغابرة للقصد والقول والعمل والخلُق قبل مباشرته والتلبُّس به، ثم المضيُّ فيه بحسن قصد وموافقة للشرع فيه، وحسن أدائه بحيث يتحقَّق فيه الإخلاص والاتباع، وإصابة السنَّة في الفعل أو الترك، فيتحقق فيه الرضا بالله ربًّا ومعبودًا، وبالإسلام دينًا ومِنهاجًا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- إمامًا متبوعًا؛ طلبًا لحُسنِ العُقبى، وحذرًا من السوء في الدنيا والأخرى.

معشر المسلمين:
مِن أشهر تعريفات التقوى عند فقهاء الملة قولهم: التقوى أن تعمل بطاعة الله تعالى، على نور من الله؛ ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله؛ تخشى عذاب الله، وقول آخَرين: التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.

أمة الإسلام، كما عبَّروا عن حقيقة تطبيقها وثمرتها على المتحلِّي بها، فقالوا: التقوى ألا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك، وقال آخرون: التقوى هي استواء العمل في السر والعلانية والانفراد ومع الجماعة، كما قال آخَرون: هي استحضار مراقبة الله - عز وجل - والحياء منه في كل حال.





المصدر : شبكة الألوكة
 تم النشر يوم  الخميس، 27 ديسمبر 2012 ' الساعة  1:29 م


 
Toggle Footer