الخميس، 27 ديسمبر 2012

لماذا الراية البيضاء؟!


سالم جمال الهنداوي

الحمد لله ربِّ العالَمين، الرحمن الرحيم.



لك الحمد يا ربِّي على كل حال، في السراء والضراء، في السَّعَة والضِّيق، عند النصر وعند الهزيمة.


لك الحمدُ حمدًا يوافي نعمَك، ويكافئ مزيدك.


وأصلِّي وأسلم على رسول الله صلاة وسلامًا دائمينِ إلى يوم الدين، رسول السَّلام، ونبي الرحمة والإحسان، الهادي إلى الفضائل من الأخلاق، والداعي إلى اتِّباع سبيل الرشاد، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الفاتحين، وخلفائه الرَّاشدين، وعلى كل من اتَّبع هديه وتمسك بسنته إلى يوم الدين.


أمَّا بعد:
فقال الله - عز وجل -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التوبة:38، 39].


قال الإمام البغويُّ - رحمه الله -:
قوله - عز وجل -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ﴾ الآيةَ، نزلت في الحثِّ على غزوة تبوكَ؛ وذلك أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لَمَّا رجع من الطائف أمر بالجهاد لغزوة الروم، وكان ذلك في زمان عُسْرة من الناس، وشدَّةٍ من الحر، حين طابت الثِّمار والظلال، ولم يكن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوةُ، غزاها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في حَرٍّ شديد، واستقبل سفَرًا بعيدًا، ومفاوزَ هائلة، وعدوًّا كثيرًا، فجلَّى للمسلمين أمرَهم؛ ليتأهبوا أُهْبة عدوهم، فشق عليهم الخروج وتثاقلوا؛ فأنزل الله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا ؛ أيْ: قال لكم رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ انْفِرُوا ﴾ اخرجوا في سبيل الله ﴿ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ ﴾؛ أيْ: لزمتم أرضكم ومساكنكم، ﴿ أَرَضِيتُمْ بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ ﴾؛ أيْ: بخفضِ الدنيا ودَعَتِها من نعيم الآخرة ﴿ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [التوبة: 38].

ثم أوعدهم على ترك الجهاد، فقال - تعالى -: ﴿ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ في الآخرة، وقيل: هو احتباسُ المطر عنهم في الدنيا.

وسأل نجدةُ بن نُفيعٍ ابنَ عباس عن هذه الآية، فقال: إن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - استنفر حيًّا من أحياء العرب، فتثاقلوا عليه، فأمسك عنهم المطر، فكان ذلك عذابَهم.

﴿ وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ﴾خيرًا منكم وأطوعَ، قال سعيدُ بن جبير: هم أبناء فارسَ، وقيل: هم أهل اليمن، ﴿ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ﴾ بترككم النفير، ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [1].


هذه الآيات الكريمة وإن كانت نزلت في الصحابة على عهد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لتُعاتبَهم، فهي باقية إلى يوم القيامة تحكي لنا حال بعض الصحابة حينما تقاعسوا عن الغزو والجهاد في سبيل الله.

والجهاد ليس بالسيف فقط، بل الجهاد في الإسلام باب واسع كبير، قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111].

جهاد بالنَّفس والمال، بل وجهاد بالكلمة لنُصرة الحق، وكان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يأمر حسَّانَ أن يهجو المشركين، ويقول له: إن كلماته أشد على المشركين من ضربات السهام والنبال.


وجهاد في الدعوة؛ لإيصال الحق والخير إلى الناس، كما فعل مصعب بن عمير - رضي الله عنه - حينما ذهب داعيًا إلى المدينة قبل هجرة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وجهاد بالعمل كما فعل الصحابة أجمعين في حفر الخندق في غزوة الأحزاب.


وجهاد في العلم والتعليم؛ فرأينا في الأمَّة أمثال: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والبخاري ومسلم - رضي الله عنهم ورحمهم أجمعين.


والأمَّة الإسلامية في هذا العصر تحتاج إلى أن تعمل وتجاهد؛ لتعود العزَّة لأولياء الله، تحتاج إلى أن تنتج وتصنع وتزرع، وتُعلِّم، وتبدع في شتى الميادين.


لكن هذه الأمة تقاعست كثيرًا، ونامت طويلاً، إلا من رحم الله؛ فتأخَّرت في كل شيء، حتى صار المسلمون أتباعًا للشرقِ الملحد والغرب الكافر، صِرنا عالة على الغرب نأخذ المعونات، ونقبل الصدَقات إلا من رحم الله، بعد أن كنا قادة للدنيا، ودعاة للحق والخير والعدل.


ولم تعدْ كلمتنا من رأسنا كما قال الشيخ الشَّعراويُّ - رحمه الله -: لن تكون كلمتُنا من رأسنا، إلا إذا كانت لُقمتنا من فَأْسِنا.


ورفعت الأمة الإسلامية رايةَ الكسل والدَّعَة والتأخر والتقليد، وليستْ رايةَ الجِدِّ والعمل والنِّضال والكفاح والإبداع، بل رايةً بيضاءَ خالية من أيِّ هدف!


إنها راية بيضاء رفعتْها أمة الإسلام منذ زمن ليس ببعيد، في كل المجالات، رفعْنا راية التكاسل والنوم والخمول، لا نريد أن نعمل، لا نريد أن نقود العالم إلى الطريق الصحيح، الكثير منا رفع هذه الراية، بل نام والْتَحفَ بالراية، ووارى بها عينيه؛ حتى لا يرى العالم من حوله؛ ليظلَّ نائمًا لاهيًا في لهوه وعبثه.


لماذا الراية البيضاء؟!
لماذا الراية البيضاء دائمًا، في العلم والعمل، في البناء والتقدم، في الجهاد والدِّفاع عن الأبرياء والمستضعفين، في دعوة الخلق أجمعين إلى دين الحق؛ إلى دين الإسلام؟!

يا أمَّةَ محمَّدٍ، يا أمة أحمدَ، يا أمة الإسلام، يا أمة الجهاد، يا أمة البطولات والفتوحات، يا أمة المجدِ:
أين أنتِ؟! وفي أي وادٍ ذهبتِ؟ وفي أي قبر قُبرتِ؟ وفي أي بئر أُلقيتِ؟!

رفعنا الراية البيضاء في ميادين العلم:
إنَّ أجدادنا المسلمين كانوا أساتذةَ العالم في شتى العلوم والفنون، تتلمذ على كتبهم كلُّ الأجناس، فتقدَّموا وتأخرْنا، بل قل: نِمْنا، لماذا لا نعيد أمجاد أجدادنا المسلمين؟ لماذا يصعد إلى القمر عُبَّاد البقر والحجر، ونحن غافلون تائهون؟

لماذا يبتكرون ويخترعون، ونحن مستهلِكون؟

هل ننسى جابر بن حيَّان؟ هل نسينا الرازي؟

هل نسينا ابن الهيثم؟ هل نسينا ابن سينا؟


يقول الدكتور/ مصطفى السِّباعي - رحمه الله -:
لقد أفاقت أوربا على صوت علمائنا وفلاسفتنا، يدرسون علوم الطبِّ، والرياضيَّات، والكيمياء، والجغرافيا، والفلَك في مساجد إشبيليةَ وقرطبة وغرناطة وغيرها.


وكان رواد الغربيين الأوائل يأتون إلى مدارسنا شديدي الإعجاب والشَّغف بكل ما يستمعون إليه من هذه العلوم.


وفي الوقت الذي كان فيه علماؤنا يتحدثون في حلقاتهم العلمية ومؤلَّفاتهم عن دوران الأرض وكرويتها وحركات الأفلاك والأجرام السَّماوية، كانت عقول الأوربيين تمتلئ بالخرافات والأوهام عن هذه الحقائق كلها.

أنزل الله - عز وجل - أول آية من كتابه - تعالى - تحثُّ المسلمين وتحضُّهم على العلم والتعلم، قال - تعالى -: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾[العلق: 1 - 5].
وقد رفع الله - عز وجل - قَدْر العلماء؛ حيث قال: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11].
وقال الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - مبيِّنًا أهمية العلم: ((طلبُ العلمِ فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ))؛ ابن ماجه.

وعندما أُسِر المشركون في بدرٍ، جعل الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فداء كل واحدٍ منهم أن يعلِّم عشرة من الصحابة، وقد نشِط المسلمون في جميع العصور في طلب العلم والمعرفة؛ حتى تركوا لنا ميراثًا حضاريًّا رائعًا، يعبِّر عن تفوقهم في كل مجالات الحضارة.


وفي الموطأ عن الإمام مالك: أنَّه بلَغه أنَّ لقمانَ الحكيم أوصى ابنه، فقال: "يا بنيّ، جالِسِ العلماء، وزاحمْهم بركبتيْك؛ فإنَّ الله يحيي القلوب بنور الحكمة، كما يحيي الأرض الميتةَ بوابلِ السَّماءِ".


ورحم الله من قال:
وَاعْلَمْ بِأَنَّ العِلْمَ أَرْفَعُ رُتْبَةٍ *** وَأَجَلُّ مُكْتَسَبٍ وَأَسْنَى مَفْخَرِ
فَاسْلُكْ سَبِيلَ المُقْتَفِينَ لَهُ تَسُدْ *** إِنَّ السِّيَادَةَ تُقْتَنَى بِالدَّفْتَرِ
وَالعَالِمُ المَدْعُوُّ حَبْرًا إِنَّمَا *** سَمَّاهُ بِاسْمِ الحَبْرِ حَمْلُ المِحْبَرِ
تَسْمُو إِلَى ذِي العِلْمِ أَبْصَارُ الوَرَى *** وَتَغُضُّ عَنْ ذِي الجَهْلِ لا بَلْ تَزْدَرِي


فلماذا نسينا تاريخنا ورفعنا الراية البيضاء؟!

رفعنا الراية البيضاء في الدِّفاع عن أنفسنا:
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا تبايعتم بالعِينةِ، وأخذتم أذنابَ البقر، ورضيتم بالزَّرع، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذلاًّ لا ينزِعه حتى ترجعوا إلى دينكم))؛ رواه أبو داود.

تركنا الجهادَ؛ فدخلنا التِّيهَ كما دخله بنو إسرائيل قبْلنا، أمَرَهم موسى - عليه السلام - أن يدخلوا معه الأرض المقدَّسة، فرفضوا، قال - تعالى -: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [المائدة: 20 - 26].

وتِيهُنا كان ذلاًّ وامتهانًا، وخَيبةً وخسرانًا وضياعًا.


أتى أعداؤنا إلى بلادنا وأخذوا خَيْراتها، سفكوا دماءنا، وانتهكوا أعراضنا، وسلبوا حقوقنا، ولا نستطيع أن ندافع عن أنفسنا، حتى كرامتُنا صارت تحت النِّعال.


ويوم أن خرج المستعمر ترك تلامذته وأعوانه؛ ليفسدوا علينا ديننا وبلادنا، فكأنه لم يخرج.


سقط العراق عاصمةُ الخلافة السابقة، وقِبلةُ العلم الماضية، ومنارة العلماء، وسُرقت فلسطين، واغتِيلت غزة، وأين الأمة المسلمة؟ لا توجد.


وتبقى الراية البيضاء مرفوعةً إلى أجل غير مسمًّى!


رفعنا الراية البيضاء في الصناعة:
العالم الغربيُّ صنع كل شيء، وطوَّر كلَّ ما صنعه مرات ومرات، صنع السيارة والطائرة والصاروخ والمكوك الفضائي والقمر الصناعي، والحاسوب (الكمبيوتر)، والتلفاز.

ونحن صنعنا ماذا؟
يذهب أثرياء العرب إلى أوربا؛ لشراء النوادي والقصور والمحلات الكبيرة، ويقيمون سباقات الإبل والخِرَاف والماعز، وغيرها، وغيرها!

لماذا يا قومِ؟ أليس منكم رجل رشيد؟!
ألا يوجد مسلم يريد أن يبني دولتَه، ويشيدَ صرح حضارة أمَّته؟ أعلم أنه يوجد بعضُ الشباب المستنير يستطيع بحقٍّ أن يصنع، لكنَّه يُهمَل أو يطرد أو يسجَن، أو تغلق كلُّ الأبواب في وجهه؛ حتى ييْئس، أو يهاجر ويترك بلده وأرضه بلا رجعة، فتظل الأمة الإسلامية متأخرة دائمًا.


فنستورد من هنا وهناك، وننمي الدول الأخرى، ويبقى شبابُنا بلا عمل (عاطلاً)، ربما ينحرف، لا؛ حتمًا سينحرف، حينما يشاهد أصحاب المليارات وجامعي الثروات، وهو لا يملك شيئًا.


يقول الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - في كتابه "الإسلام والمناهج الاشتراكية":
قالوا في الأمثال: "الجاهل يعيش ليأكل، والعاقل يأكل ليعيش".


والظاهر أن كِلا الرجُلين يأكل، ولكن هذا يجعل الأكل غاية للحياة، وذاك يجعله وسيلة إليها، والإنسانية الفاضلة إنما تصحو وتسمو بذلك الصِّنْف من البشر، الذين يرتفعون بوجودهم عن مستوى الضرورات الملحة، والشهوات الجامحة، غير أن إيجاد هذا الصنف من الناس يحتاج إلى أمور لا بد منها.


فإنَّ المأكل والملبس وما إليهما من ضرورات العيش، إذا عزَّ منالُها، طال التفكير فيها، وإذا طال التفكير فيها واشتد السعيُ إليها، عظُمت قيمتُها، وغلَت حقيقتُها.



فإذا كلّفت طائفة من الناس بأن تقضيَ عمرها في تحصيل هذه المطالب المادية، وأن تقف تفكيرَها واحتيالها على توفير هذه الضرورات الإنسانية، فمعنى هذا أننا كلَّفناهم بأن يعيشوا ليأكلوا، أو ليأتوا بالأكل لأهلهم وأولادهم.



ولعلَّ هذا هو الذي جعل الجمهور عندنا يطلق (العيش) على الخبز.



ولا أدلَّ على سقوط القِيَمِ الأدبية من هذا الإطلاق الشائع بين العامَّة، وهم معذورون؛ إذ يحيَوْن في بيئة تُرغمهم على أن يعيشوا ليأكلوا، ولا تمنحهم فرصة من الراحة والطمأنينة يستريحون فيها إلى ما قد يكون في الحياة من خيرٍ وجمال، وسلام و إيمان.



إنَّ الملَكات الإنسانية التي تقيَّد بإزاء تحصيل الأقْوات، والتي قد تحبس أو تستهلَك في سبيل ضمان المعيشة الكريمة - هذه الملكات يمكن الانتفاع بها في ميادين الحياة الأخرى.



وإنما انطلقت العقليَّة الأوربِّية تقتحم الآفاقَ المجهولة، ثم ترجع بالكشوف الباهرة في ميادين العلم والفن والأدب؛ لأنها تخطتْ عوائق الحرمان والضِّيق، ومزَّقت لباس الجوع والخوف، على حين ظلَّت العقلية الشرقية في القرون الأخيرة تذوب في البحث عما يمسك عليها رمق الحياة!



وقد حكَوْا أنَّ فقيهًا إسلاميًّا كبيرًا فاجأته خادمته وهو ذاهب لإلقاء الدَّرس بأن الدار ليس بها دقيق، فطارت من رأسه مسائل العلم التي أعدها!



فإذا وقع كثير من العلماء والأدباء صرعى لهذا القلق، وإذا فقدت البيئة كلُّها هذا التأمينَ الاجتماعي الواجب لأبنائها جميعًا، فأيُّ فشل في الإنتاج الماديِّ والأدبي ينتظر لمثل هذه الحال؟ إن حقائق الحياة الضنكة في الشرق الإسلامي يحدِّدها هذا الجواب.


هلمَّ نخرُج من ظلمات التِّيه:
يقول الأستاذ/ محمد قطب: هذا نداء للأمَّة كلها التي تنطق بلسانها: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله).

إن هذه الكلمة العظيمة هي التي أخرجتْ هذه الأمَّة إلى الوجود أوَّل مرة، وهي التي رفعتْها إلى مقام الخيريَّة على كل أمم الأرض، وكلِّ أمم التاريخ، وهذه الأمة التي قال لها ربها: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110].

وهذه الكلمة هي التي دفعتْها إلى الحركة في كلِّ مجال من مجالات الحياة الإنسانية، فأوصلتْها إلى مرتبة التَّفوق في جميع الميادين: الحربية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والخُلُقية والرُّوحية، وجعلت لها ذِكرًا ضخمًا في الأرض، بعد أن كانت على هامش التاريخ!


ولم يكن النطق بـ"لا إله إلا الله" هو الذي صنع ذلك كلَّه!

إنما كان هو النطق بها، واليقين الذي يملأ القلبَ بحقيقتها، والعمل بمقتضياتها وواجباتها - هو الذي صنع تلك الأعاجيب كلَّها التي وعاها التاريخ؛ تحقيقًا لوعد الله: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ﴾ [النور: 55].

لقد كانت الأمة تعيش بكيانها كله في عالم الواقع، ولكنها تحلِّق في عالم المثال!


واليوم ما أبعد الواقع عن المثال، بل ما أبعد الواقع عن الحد الأدنى الذي لا يجوز للأمة أن تهبط عنه، اليوم تخبط الأمة على غير هدى في ظلمات التِّيه - إلا ما رحم ربك!


والأمَّة الإسلامية اليومَ تعيش في التِّيه، ولكنَّه تيهٌ معنوي - لا كذلكَ التِّيهِ الحسِّيِّ الذي عاشت فيه بنو إسرائيل - تيهٌ في الأفكار والمشاعر والتصورات وأنماط السلوك.

وكان هذا ابتلاءً لها من الله حين تقاعست عن حمل الرسالة التي حمَّلها الله إياها، وجعل لها فيها خيريَّتها، وحدَّد لها فيها مهمتها: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143].

وقد بدأ ذلك التيه منذ أكثر من قرن، حين نحَّت هذه الأمة شريعتها، واستبدلت بها الشرائعَ التي أخبرها ربُّها أنها شرائع جاهلية؛ لأنها لا تحكم بما أنزل الله؛ واستبدلت بقِيَمِها وأخلاقها وأنماط سلوكها قِيَمَ الغرب وأخلاقَه وأنماطَ سلوكه، وأدارتْ ظهرَها لكتاب ربِّها وسنَّة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لتستورد الأفكار والنُّظمَ والأيدلوجيات والمبادئ من المكان الذي توهمتْ فيه الرقيَّ والتقدم والحضارة الحقيقية.


وكانت الفتنة بالغرب بعد الانبهار الذي أصاب الأمَّة على أثر الهزيمة العسكرية أمامه هي بدايةَ التِّيه الذي ابتُليت به الأمة في محنتها.


إن الغرب هو أكبر أكذوبة حضارية في التاريخ برغم كل تقنياته، وكلِّ تقدُّمه العلمي والمادي، ووصوله إلى القمر ووصوله إلى المريخ، فكلُّ ذلك وحده لا يصنع حضارة، وإن كان العلم وتِقنياته من مستلزَمات كل حضارة.



إنَّما الحضارة الحقَّة هي التي ترتفع بالإنسان في جوهره الحقيقي، في كيانه كلِّه، لا في جانب واحد منه.


إن الأمم لا تؤدِّي رسالتها بالمجَّان، ولا تبلغ أهدافها عن طريق الفقر والكسل والإهمال؛ فإن أعباء الحياة أثقل مما يطيق الكسالى، وأوسع مما يفكر القاعدون.


قال الشيخ أحمد المراغي - رحمه الله -:
وقد جرَتْ سنة الله - عز وجل - بأن الأمم التي لا تدافع عن نفسها، ولا تحمي ذِمارها - لا بقاء لها، وتكون طعامًا للآكلين، وغذاءً شهيًّا للمستعمرين[2].

وأخيرًا أقول:
يا أتباع محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم -:

هل نرفع راية المجد؟

هل نرفع راية العلم؟

هل نرفع راية التقدُّم الصناعي والحضاري؟

هل نرفع راية العزة والكرامة؟

أتمنى أن تنكس الراية البيضاءُ؛ حتى نستطيع أن نرفع رؤوسنا لتصافح رؤوسُنا وجهَ السماء.




الْمَجْدُ تَطْلُبُهُ نَفْسِي فَتَبْلُغُهُ لماذا الراية البيضاء؟! space.gif
وَلَسْتُ أَرْضَى سِوَى التَّحْلِيقِ فِي القِمَمِ

وأخيرًا أقول: هذا وقت البناء والعمل، فهيَّا يا أحفاد الفاتحين.


هيا لنكذِّبَ اليهود الذين يقولون: "محمد مات، خلف بنات".


هيا، لنثبت للدنيا بأسْرِها أن محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - ترك رجالاً عظماءَ وأبطالاً أفذاذًا في شتى الميادين، لا ينقطع نسلُهم إلى أن تقوم الساعة.

قال الله - عز وجل -: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110].

وقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الأُمَمِ))[3] إنه كلام نبيِّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي لا ينطق عن الهوى.

ورحم الله من قال:
دَعْنَا نُسَافِرْ فِي دُرُوبِ أَبَائِنَا *** وَلَنَا مِنَ الهِمَمِ العَظِيمَةِ زَادُ
مِيعَادُنَا النَّصْرُ المُبِينُ فَإِنْ يَكُنْ *** مَوْتٌ فَعِنْدَ إِلَهِنَا المِيعَادُ
دَعْنَا نَمُتْ حَتَّى نَنَالَ شَهَادَةً *** فَالمَوْتُ فِي دَرْبِ الهُدَى مِيلَادُ
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين، وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على سيدنا محمَّدٍ، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.



[1] تفسير البغوي (4/ 48).
[2] تفسير المراغي (10/120).
[3] أخرجه أحمد في مسنده (1361).


المصدر : موقع شبكة الألوكة


 تم النشر يوم  الخميس، 27 ديسمبر 2012 ' الساعة  2:01 م


 
Toggle Footer